نصف قرن مضى على شاعر كان له دور ريادي في تحديث الشعر العربي بعد الحرب العالمية الثانية، واحتشدت في سيرة بدر شاكر السياب عدة مفارقات، منها سباقه مع الموت، بحيث قطع عمره القصير نسبيا وهو ستة وثلاثون عاما بالشعر وللشعر وفي الشعر أيضا، ومنها شعوره بالحسد لديوانه الذي كان ينتقل بين صدور الحسان وليس له نصيب من ذلك، ومنها جنازته الفقيرة الشاحبة تحت سماء بصرية ممطرة، حيث حمله بضعة رجال إلى المقبرة، بينما كان أثاث منزله معروضا للبيع لقصور في تسديد الديون، ولم يمض غير بضع سنوات أخرى حتى كان الاحتفاء بذكراه كرنفاليا، مما دفع شاعرا بريطانيا إلى القول إنه يتمنى أن يعيش شاعرا إنكليزيا وأن يموت شاعرا عربيا، ورغم أن نفوذ السياب شعريا على أجيال عربية، إلا أن دراسة أعماله خارج نطاق الاحتفاء بقي محدودا، إذا استثنينا ما كتبه إحسان عباس عنه، وبعض الدراسات الاستشراقية، كدراسة اندريه مايكل لاستخدام السياب للأفعال.
حياة مفعمة بالشقاء والحنين، سواء اتجه إلى الجذور في جيكور أو إلى الفضاء المطلق، لكن السياب شأن كيتس لم يشأ، كما قال، أن يخط اسمه على الماء، وكان هاجس الموت قد أزمن في وعيه ولاوعيه على السواء، وجاء المرض ليضاعف من هذا الهاجس، بحيث يصغي إلى صوت المعول الحجري يزحف نحو أطرافه، وما كان لقصيدة مثل «حفار القبور» أن تكتب وعلى ذلك النحو الدرامي، رغم عنائية صاحبها، لولا أن الموت كان قاب قصيدتين أو أدنى، من شاعر أقعده العياء عن الحياة، لكنه لم يقعده عن الشعر. وأذكر أن ناقدا بريطانيا علّق ذات يوم على قصيدة «المومس العمياء» قائلا، إنها جمعت ثلاث تراجيديات في سياق ملحمي واحد، فالمرأة التي كتب عنها مومس وعجوز وعمياء، وكان لمأساة واحدة من هذه الثلاث أن تكفي!
أعود إليه إضافة إلى الذكرى ومرور نصف قرن على رحيله رغم إشعاعه من القبر، لأمر آخر قد لا يكون وثيق الارتباط وعلى نحو عضوي مع شعريته، هو ما كتبه من حلقات بعنوان «كنت شيوعيا»، وكان قد نشرها تباعا في جريدة «الحرية» العراقية، وفي ذروة الحرب الباردة وصدرت عن دار الجمل، وقد اعدّها للنشر وليد خالد حسن، وتعرّضت هذه التوبة الايديولوجية إلى تأويلات سياسية بلغت حدّ التقويل، ومنها أن هناك موجة ظهرت في الخمسينات والستينات من القرن العشرين امتطاها شعراء ومثقفون من مختلف أصقاع الكوكب، تتلخص في تقديم اعتذارات عن الانتساب لأحزاب شيوعية، ومن هؤلاء ارثر كوستلر الذي كتب «ملح الأرض» وقدري قلعجي وآخرين .
لكن إعلان التوبة الايديولوجية لدى السياب لها مُقترب آخر، فهو كما يقول اجتذبته شعارات إنسانية تعد البؤساء بالانعتاق مما يحاصرهم من شقاء، وإن كانت قصة الكلبة التي قُتلت وتركت جراءها ايتاما قد حفرت في ذاكرته ما يشبه الوشم الأسود. إن أول ما يلفت الانتباه في تجارب سياسية عاشها شعراء عرب هو جنوحهم الرومانسي والانفعال، بأفكار ووعود بدون تمحيص أو تحليل معمّق، وهنا نتذكر ما قاله الراحل محمد الماغوط عن انتسابه إلى الحزب القومي السوري، فالسبب كان بالغ الطرافة، لكنه إنساني أيضا، قال الماغوط، إن قبوله الانتساب للحزب هو مقره الدافئ في مدينة باردة، فقد شاهد عند أول زيارة لمقر الحزب مدفأة يتحلق الأعضاء حولها، فقرر الانتماء إلى هذا الدفء وليس إلى ايديولوجيا الحزب وشعاراته .
في الحلقات التسع والعشرين التي نشرها السياب عن فترة وجوده رفيقا في الحزب الشيوعي، هناك آراء نقدية منها، ما يتناول زملاءه وبالتحديد عبد الوهاب البياتي، الذي يقول عنه إنه أحد أفراد زمرة تافهة من المتشاعرين، أو الشاعر الروسي قسطنطين سيمونوف، الذي نال جائزة ستالين للشعر والذي قال عنه السياب إن أي طفل في الصف السادس الابتدائي يكتب أفضل منه!
لكن من أغرب ما ورد في تلك الحلقات ما قاله عن حقيقة الحزب ونسيج العلاقات بين أعضائه، وهو في مجمله ما كان شائعا في تلك الآونة من الحرب الباردة، ولا صلة له بصلب الماركسية وفلسفتها وأدبياتها، ورغم أن نقده لتجربته الذي وصل حد الاعتذار وإعلان التوبة كان مصدره كونه قوميا، إلا أن القومية أيضا لم تسلم من نقده، فقد كانت كما يقول تراوح بين الشوفينية والشعوبية، لكن أيامه في إيران هي التي جعلته يجزم بأن «حزب تودة» الإيراني خان وطنه خصوصا في موقفه من تجربة مصدّق وبلغت عدوى هذه الخيانة الرفاق في أمكنة أخرى.
فهل أعلن السياب ندمه على الانتساب للحزب الشيوعي بدافع ذاتي خالص، وكحصيلة لتنامي الوعي ونقد الذات، أم أن هناك أسبابا أخرى، كما يقول البعض، ومنها اقترابه القسري بسبب المرض من منظمة الثقافة الحرة التي كانت تصدر مجلة «انكاونتر» وبتأثير مباشر من الشاعر والناقد ستيفن سبندر، الذي قدّم له فرصة العلاج في روما ولندن؟ الاجابة على اسئلة من هذا الطراز يجب أن تكون حذرة، وغير متعجّلة، وتأخذ في الحسبان شروطا بشرية ومنها المرض العضال وتقصير ذوي القربى في تقديم العَوْن.
وإذا كانت التوبة الايديولوجية قد تحولت خلال الحرب الباردة إلى نمط انتاج ثقافي وسياسي واقتصادي أيضا، فإن عدوى هذا النمط من الإنتاج قد أصابت العديد من مثقفي العالم، وحين نقرأ كتاب ف . س . سوندرز عن الثقافة في الحرب الباردة تعود بنا الذاكرة إلى تلك المزامير بمختلف اللغات، التي كانت تستهدف استرضاء هذا الطرف أو ذاك في الحرب الباردة، ففي الوقت الذي كتب فيه السياب تجربته الشقية عن انتمائه للحزب الشيوعي، كان هناك شعراء ومثقفون آخرون من العالم الثالث ينعمون بالرفاهية والدلال في موسكو وتترجم أعمالهم في دار التقدم بمعزل عن استحقاقها الإبداعي.
الشاعر العراقي والجنوبي حد الاحتراق الذي كتب في درجة حرارة 45 مئوية، كما يقول القاص محمد خضيّر، رحل مُثقلا بجراحه وما ترسب في ذاكرته من أشجان، لكنه استعاد اعتباره بشعره أولا وقبل كل شيء وليس عسيرا على الناقد أن يعثر على بصمات سيابية في العديد من القصائد، سواء تلك التي كتبها في ظلاله بعض ابناء جيله أو من الابناء والأحفاد، ولو صدقنا ما قاله الشاعر الروسي يوجين يفتشنكو وهو أن الشاعر في نهاية المطاف هو حاصل جمع قصائده ولا شيء آخر، فإن ما كتبه السياب خارج ديوانه لن يضيف أو يحذف حرفا واحدا من شعريته.
إن تجربة السياب السياسية تذكّرنا بما كتبه سارتر عن الفنان بيكاسو عندما لم يستطع الحزب أن يبتلعه، فقد وصف الحزب بأنه أشبه بأفعى البوا التي حين تختنق بما لا تطيق بلعه تلفظه، ولم تكن تجارب سارتر نفسه والبير كامو وأخيرا جارودي بعيدة عن تجربة السياب، لكنه لم يعش بما يكفي ليكتب المسألة كلها، كما فعل جارودي عندما نشر محاكمته وحكايته مع أفعى البوا!
٭ كاتب اردني
خيري منصور
من وجهة نظري يا خيري منصور أظن ما ورد في مقالك أعلاه تحت عنوان “توبة الأيديولوجية: السياّب مثالا” لا يختلف كثيرا عمّا كتبه صلاح بوسريف أو حي يقظان كتعليق على مقالة د. فيصل القاسم تحت عنوان “أطفالنا ليسوا أطفالنا” في نفس اليوم في جريدة القدس العربي.
والتي قال فيها ” سُئِلَ صديقٌ يُلقَّبُ بـ«الغضنفر» مرَّةً السُّؤَالَ التالي: هَلِ الثَّقَافَةُ العَرَبيةُ آيِلَةٌ إلى الانْقِرَاض؟ فَأجاب، وقد ارتسمتْ على وجههِ ابتسامةٌ مَريرَة:
حقيقةً، الثقافةُ العَربيةُ انتهتْ برمَّتها منذُ زمنٍ ليسَ بالقريب، على الأقلّ منذُ انقسامِ الدولةِ الإسلاميةِ إلى دُوَيْلاتٍ كانتْ تتنازعُ على السُّلطة في المَقامِ الأول. إذن، لكيْ نكونَ مُنْصِفينَ كلَّ الإنصافِ أمامَ هذا السُّؤال، نستطيع أن نقولَ إنَّ الثقافةَ العَربيةَ لَمْ تُوجَدْ، أصلاً، حتى تنقرضَ أو تؤولَ إلى الانقراض. ذلك لأنَّ كلَّ شيءٍ فيما يُسَمَّى بـ«العالم العربي»، على الإطلاق، لم يَعُدْ «عربيًّا» بالمعنى الحضاريِّ للكلمة.
ببساطةٍ، لننظرْ، أولاً، إلى الحياة المنزلية:
خُذوا أَيَّةَ آلةٍ أو أداةٍ أو آنيةٍ تَرَوْنَهَا في الاستعمالِ اليوميِّ في بلادِنا، بِلا استثناءٍ، فهي، بشكلٍ أو بآخَر، آلةٌ أو أداةٌ أو آنيةٌ إمَّا مُصنَّعَةٌ تصنيعًا أجنبيًّا حديثًا وإمَّا مُصنَّعَةٌ تصنيعًا أجنبيًّا قديمًا وإمَّا مُفَبْرَكَةٌ فَبْرَكَةً “عربيةً” بناءً على تصنيعٍ أجنبيٍّ حديثٍ أو قديم.
لننظرْ، ثانيًا، إلى الحياة الأدبية:
خُذوا أَيَّةَ مدرسةٍ أو موضةٍ أو صَرْعَةٍ تَرَوْنَهَا على الصَّعيد الأدبيّ في بلادِنا، بِلا استثناءٍ للمرَّةِ الثانية، فهي، في الأغلبِ والأعمِّ، مدرسةٌ أو موضةٌ أو صَرْعَةٌ غربيةٌ قلبًا وقالِبًا. لهذا السبب، الشِّعرُ “العربي” في أزمةٍ حقيقية، والنثرُ “العربي” في أزمةٍ حقيقية، وما بينهما في أزمةٍ حقيقية. ناهيكُمْ عن المذاهبِ الفلسفيةِ والفكريةِ على اختلافِ مشاربِها!
لننظرْ، ثالثًا، إلى الحياة السياسية:
خُذوا أَيَّ حزبٍ يسَاريٍّ أو يَمينيٍّ أو وَسَطِيٍّ تَرَوْنَهُ في المجال السياسيّ في بلادِنا من المحيطِ إلى الخليج، بِلا استثناءٍ للمرَّةِ الثالثة، فهو عبارةٌ عن نُسَاخَةٍ مُصَغَّرَةٍ أو مُكَبَّرَةٍ أو “مُعَدَّلَةٍ” عن حزبٍ يسَاريٍّ أو يَمينيٍّ أو وَسَطِيٍّ أوروبيٍّ بالدَّرجةِ الأولى.
للأسف الشَّديد، لمْ يبقَ لدينا سوى دُعَامَتَيْن مُتَهَرِّئَتَيْن تقوم عليهما بقايا ما يُدْعَى بـ«الثَّقَافَةِ العَرَبيةِ»، ألا وهما:
اللغة العربية: ويا ليتنا نُتْقِنُ هذه اللغةَ اتقانًا يرفع الرأس!!!
والدين الإسلامي: ويا ليتنا نفهمُ هذا الدينَ فهمًا يُثْلِجُ الصَّدر!!!”
لقد أبدعت يا صلاح بوسريف أو حي يقظان كما هو حال خيري منصور هذه المرّة في تشخيص اشكالية المثقف والسياسي لدولة “الحداثة” والتي آن الأوان لمعالجة هذا الإشكالية والتي اساسها مناهج التعليم في الكيانات التعليمية في دولة “الحداثة”.
أنا مقتنع كل شخص له ثمن، ولذلك أرفض أن أكون مثقف أو سياسي، لأنني أحب تقمّص دور التاجر، فهو الأفضل للمجتمع وتطويره من خلال زيادة دخله، ومن هذه الزاوية كان مشروع “صالح” من خلال التفكير كيفية تطويع التقنية لاستغلالها في زيادة دخل الدولة من خلال تقديم خدمات أفضل للمواطن، لتحسين العلاقة ما بين موظف نظام الدولة البيروقراطي بداية من المُدرّس مع الطالب كبداية لمفهوم المواطن.
أنا لاحظت أنَّ مشكلة التعليم في دولة “الحداثة” لنظام الدولة البيروقراطي هو التركيز على فهم ما بين الأسطر، ونسوا على أنَ الأساس فهم ما على السطر أولا، فخربت عكا.
ولذلك من أجل أن تفهم أي موضوع ومن ضمنه كلامي، لا تحاول أن تقرأ ما وراء أو ما بين الأسطر، بل ركّز على ما موجود أمامك على السطر، حيث من الصعوبة، أن تفهم بماذا أفكر في تلك اللحظة وفي ذلك السياق.
بدون ذلك لن يمكنك استيعاب أنَّ ميكروسوفت وغووغل كل منهما يحلم بأن يستفيد من تقنية “صالح”، في توفير منهاج موحد لتعليم كل لغات العالم، فيما سيوفره لهم من وقت وأرباح.
بدون فهم واستيعاب ذلك، لن تقدّر حقيقة ما لدينا، التي لن تستطيع أي شركة حول العالم في منافسة ما نقدمه من خدمة لتطوير البلد، والمساعدة في مسك ناصية العلم من جديد، حتى أولادنا وأحفادنا يعيدون مجد الدولة العباسية، والأموية والأندلس.
ما رأيكم دام فضلكم؟