الانتقال للحديث عن الدولة المدنية في الأردن لم يكن مطروحاً من الأساس قبل فترة وجيزة من الزمن، وربما لا يقع في إطار التجني أن ما يعرفه كثير من الأردنيين حول الدولة المدنية لا يتعدى طرحاً قدمته بعض القنوات الفضائية اللبنانية حول الزواج المدني، الذي كان يلجأ له بعض الأشخاص من ديانات مختلفة من أجل التحايل على التعقيدات التي تحتمها طبيعة الخريطة الطائفية في لبنان، من خلال سفرهم لقبرص أو اليونان.
الورقة النقاشية السادسة للملك كانت تدور حول الدولة المدنية، وهو الحديث الذي أخذ يشغل الأردنيين على امتداد الفترة التي فصلت بين اغتيال المفكر ناهض حتر والإعلان الجريء للقيادي الإخواني زكي بني ارشيد حول تأييد حزب جبهة العمل الإسلامي، وأتت الورقة الملكية لتمثل أصلاً استجابة لتفاعلات اجتماعية متسارعة شهدت تصعيداً غير مسبوق من مناصري الدولة العلمانية، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي لم يكن كثيرون يترددون ليعلنوا قناعتهم بالعلمانية والدولة المدنية.
البراغماتية السياسية تتطلب تنازلات من الطرفين المتصارعين حول المفهوم، وبينما يطرح الإخوان في هذه المرة مقولة الدولة المدنية، وبما يعني أنهم يتنازلون عن نبرة الدولة الدينية في نسخة الخلافة، فإن العلمانيين يتخذون مواقف حاسمة في هذه المرة، ويريدون أن يطرحوا الدولة المدنية بمفهومها العلماني المتكامل الذي يفصل الدين كلية عن الدولة. يعترف بني ارشيد في تصريحاته بحقيقة تنامي التيار العلماني في الأردن، وهو الأمر الذي لا يغيب بطبيعة الحال عن الحكومة التي بدأت تدرك على خلفية الصراع حول تعديلات المناهج الأخيرة مدى اتساع التيار العلماني، وهي تشترك مع التيار الذي لم يتخذ لليوم شكلاً واضحاً أو بنية تنظيمية في المعركة حول مناهج أكثر حداثة وانفتاحاً.
ينظر الإخوان المسلمون في الأردن اليوم إلى التجربتين التونسية والمغربية، ويتركون وراءهم التجربة المصرية، ويتغافلون بطبيعة الحال عن أن حساسية التغيير السياسي في الأردني تتجاوز المحظورات التي سادت في دول المغرب العربي، فالأردن محكوم استراتيجياً بعلاقة معقدة ومتشابكة مع فلسطين المحتلة و(اسرائيل)، وأي تفاعلات سياسية في الأردن يجب أن تترافق باستجابات على مستوى جيرانها في الغرب من النهر، وهو الأمر الذي يحدث في الاتجاه المعاكس أيضاً، والأردن كذلك يحتسب إلى حد ما ضمن المناخات الخليجية العامة، وإلى ذلك، تبقى حقيقة التهديدات القائمة على حدوده الشرقية والشمالية عاملاً مهماً في تشكيل المزاج السياسي فيه.
الأجواء العامة في المملكة، وتراكم الاستياء من التعديات المتواصلة على القانون، من خلال التواني في محاربة الفساد التي يتأملها المواطنون، ولا سيما في ظل وجود العديد من الأسئلة التي تنتظر إجابات، لا يبدو أن أحداً سيقدمها في المدى المنظور، أو من خلال استمرار الانتهاكات اليومية مثل حالات إطلاق العيارات النارية في المناسبات المختلفة، أو القانون الضعيف والعاجز عن ردع ما يسمى بجرائم الشرف، كلها عوامل جعلت البحث عن سيادة القانون بوصفها ضرورة وطنية وأولوية لا تقبل التأجيل، ومع ذلك فإن الأردنيين استقبلوا بكثير من التحفظ تكليف رئيس الوزراء السابق زيد الرفاعي رئاسة لجنة ملكية لتطوير الجهاز القضائي وتعزيز سيادة القانون، فالرجل يعتبر أساساً من أبناء مرحلة الأحكام العرفية التي تبقى خريفاً سياسياً أردنياً أنهته أحداث ابريل 1989 التي اعتبرت إسقاط حكومة الرفاعي في ذلك الحين إنجازاً للحراك الشعبي الذي انطلق من الجنوب لينتشر في معظم أنحاء المملكة. بالطبع يمكن رؤية الرفاعي من ناحية أخرى بوصفه رجلاً محنكاً وخبيراً بكواليس اللعبة السياسية ويمكنه أن يضطلع بمهمة مراقصة الإخوان المسلمين على مسرح العرض الثالث للدولة المدنية في الدول العربية بعد المغرب وتونس، ولكن ذلك يعزز من تغييب العلمانيين الأردنيين الذين يتنامى وجودهم، حسب تصريحات بني ارشيد نفسه، وهذه التبريرات لن تلقى بالتأكيد أذناً صاغية لدى السواد الأكبر من الأردنيين الذين لو تناسوا الماضي السياسي للرفاعي (زيد) فإنهم لن يتغافلوا عن حقيقة بسيطة أن الرجل الثمانيني يكلف بمهمة تحتاج نفساً طويلة ولياقة ذهنية متقدة، وكان معلقون على مواقع التواصل الاجتماعي عبروا عن استغرابهم من خلال اعتقادهم للوهلة الأولى أن المكلف هو (زيد) الحفيد وليس الجد فيما يصنف بالسخرية المريرة، وفضلاً عما سبق، فإن الأردن يقدم أسماء مهمة لدى رجال الدولة من القانونيين المختصين مثل طاهر حكمت ونوفان العجارمة.
الرفاعي يبقى الشخصية التي يمكن قبولها جزئياً من الإخوان المسلمين، ولكنه في المقابل وجه مرفوض للعلمانيين الذين يشكل اليسار الأردني في قوامهم جزءاً مهماً ومؤثراً، وإن يكن اليسار التقليدي بآلياته المعروفة التي تفتقد للمرونة والقدرة على التواصل الإيجابي لا يستطيع أن يتحمل مسؤولية قيادة المنادين بالدولة المدنية، ويمكن أن يعتبر عبئاً على أكتافهم. تتمظهر في هذه المرحلة حاجة التيار المدني الأردني وبنسخته العلمانية إلى شكل تنظيمي ينافح عن رؤاهم ومصالحهم، وينقلهم من التفاعل النشيط على مواقع التواصل الاجتماعي إلى أرض الواقع بكل ما تحمله من تحديات، ويتعذر حالياً الحكم على الزخم الذي يدفع بدعاة الدولة المدنية، ومن الصعب القول بأن اغتيال حتر مثل بالنسبة لهم الكتلة الحرجة التي يحتاجونها من أجل التحول إلى معامل مستقل في المعادلة السياسية القائمة، فرغم أن الحادثة البشعة التي أنهت حياة حتر بطريقة تراجيدية كانت ملهمة بالنسبة لجيل جديد من الشباب الذي اعتبر الاغتيال تحدياً لفكره ووجوده أيضاً، إلا أن هذه التيارات ما زالت تعيش مرحلة من عدم الاتزان بعد اغتيال ناهض حتر على خلفية قضية إشكالية تداخلت فيها مشاعر الخذلان من موقف الحكومة الذي أدى إلى شيطنة حتر مع المخاوف المستجدة حول الحجم الحقيقي لتواجد الفكر المتطرف في الأردن.
تغيب المفكر ناهض حتر، الذي اتسمت كتاباته بالحساسية المفرطة تجاه العلاقة الأردنية – الفلسطينية وشكلها المستقبلي، يترك المساحة التنظيرية فيما يخص مفهوم المواطنة ضمن الدولة المدنية مغلقة أمام تأويلات أخرى تتطلع لما وراء الاشتباك الظاهري حول العلمانية، فالدولة المدنية في الأردن تتطلب حسماً كاملاً ونهائياً لتعريف المواطن الأردني، وهو الأمر الذي سينعكس بأثر رجعي على مجموعة من الأطر التي دفعت بتعريف المواطنة في الأردن إلى صورته الإشكالية الراهنة، وخاصة في ظل تواجد قطاع من المواطنين الأردنيين يعيشون قلقاً مزمناً على خلفية التفسيرات المتباينة جذرياً حول النتائج القانونية لقرار فك الارتباط بين الأردن والضفة الغربية.
وبذلك فإن الحديث عن سيادة القانون والدولة المدنية يجب ألا يتوقف عند بعض التفاصيل الصغيرة، ولكن عليه أن يمتد ليعبر عما هو اجتماعي وسياسي واقتصادي ليتماس ويشتبك مباشرة مع ما هو وجودي ويتعلق بمستقبل كينونة الأردن وخياراته المستقبلية، وربما سيؤدي التفكير في الحقوق المدنية والحريات في هذه المرحلة إلى سحب الجميع إلى معارك جانبية بعيدة عن استحقاقات الأردن الوجودية المرتبطة بمسارات الإقليم الذي تصاعدت في أروقته ترتيبات وتسويات يمكن أن تفتح الباب لمزيد من الخيارات الصعبة.
كاتب أردني
سامح المحاريق
كلام من ذهب لا غبار علية