قد يكون من المفيد تبني مفردة الدولة العثمانية، للابتعاد عن الأخذِ بناصيتنا إلى المسألة الخلافية حول جدلية القول بخلافة عثمانية حكمت البلدان العربية، أو استعمار عثماني طيلةَ قرون انتهت مع نهايات الحرب العالمية الأولى بعد فترة طويلة من التراجع والضعف في بُنية الدولة العثمانية.
وفي هذا المقام لا نُريد أنْ نغوص عميقاً في السرد التاريخي والقراءة النقدية لفترة الحكم العثماني وبصماته على مجتمعاتنا ودولنا فكرياً وثقافيا وحضاريا، لكنْ في كلّ الأحوال ثمَّة ثوابتَ لا خلاف عليها عند الكثرة الغالبة من المسلمين، أنّها فترةٌ أرَّخت لحكم إسلامي انتفتْ بعده الصبغة الإسلامية عن شكل الحكم في البلدان العربية مع نهايات حكم الدولة العثمانية. تعرضت فترةُ الحكم العثماني لحملةِ طمس وتغييب عن المناهج الدراسية طيلةَ قرن كامل من شيوع الثقافات التغريبية الوافدة مع بدايات ما عُرف باسم النهضة القومية، أو اليقظة العربية، خلال العقدين الأول والثاني من القرن الماضي، والتي جاء بها مُبتعثونَ إلى البلدان الغربية قصدوا إعادة صياغة الوعي العربي باتجاه تعزيز الانتماء القومي وتغليبه على الاعتقاد الديني والانتماء للمحيط الإسلامي الأرحب.
لكنَّ نسبة من العرب المهتمين بالاطلاع والمتابعة وبناء ثقافاتهم وتطوير معارفهم بعيداً عن المناهج الدراسية فَهِموا الحالة العثمانية والتاريخ العثماني بوقائعه الحقيقية، ولعل السرد التاريخي وإنْ كان اقتصر على محطات فارقة في فيلم تسجيلي كتبت نصه وأنتجته الكاتبة الأردنية إحسان الفقيه تحت عنوان «الجذور» من شأنه أنْ يُعطي تعريفا ببعض تاريخ الدولة العثمانية للقارئ أو المشاهد العربي من أبناء هذا الجيل الذي هجر الكتابَ الورقي واستبدله باكتساب المعرفة مما هو متاح في وسائل التواصل غالبا، وعموم المواقع الإلكترونية على نطاق أضيق.
الشريطُ المصور بدقائقه الثماني عشرة يقودُ المشاهد في سياق سرد تاريخي متسلسل لمحطات مختارة بذكاء أبرزت علامات فارقة في التاريخ العثماني حتى مرحلة الأفول قبل أنْ ينتقل النص إلى تركيا الحديثة التي تبنّت النهج العلماني كنقيض للنهج الإسلامي الذي قامت عليه الدولة العثمانية.
الاستماع إلى النص المُنتقى بعناية رفقةَ صورٍ ومقاطعَ تسجيليةٍ يُوحي للوهلة الأولى بجهدٍ مقدّم للمشاهد بدقائقَ اختزلت عشرات الساعات على الأقل من القراءة والتنقيب في بطون كتب التاريخ. لكنّ هذا ليس كلّ الحكاية التي تبدأ من مرحلة بناء تركيا الحديثة إلى ليلة منتصف تموز/يوليو الفائت، ليلة الانقلاب الفاشل.
يقودنا الفيلم عبر رحلة في تاريخ تركيا الحديث والمعاصر يتعرف من خلاله المشاهد العربي الذي يفتقر إلى الدراية بهما على شخصيتين وضعتا بصماتهما على طريق الانتقال من علمانية متطرفة في علمانيتها إلى إسلامية متدرجة في إسلاميتها، وهما عدنان مندريس ونجم الدين أربكان اللذان قلّةٌ من العرب سبقَ أنْ تعرف عليهما بشكل مستفيض. كما يقودنا الشريط المصور إلى امتدادات هذين الرجلين واستمرار نهجيهِما بظهور رجب طيب أردوغان مطلع القرن الحادي والعشرين والخطو نحو الأسلمةِ مع مراعاة التطور القيمي لمنظومة المجتمع التركي.
إذا كان ثمّة ما يقال في الرجال الثلاثة فكل منهم تعرض لمكائد المغرضين الذين يهمهم أن لا ينتقل المجتمع التركي من قيمه العلمانية مرتدا إلى جذوره الإسلامية التي ما زالت تُربتها ندية بعد قرن من التعطيش المُتعمد. عدنان مندريس الرجل الذي أراد إعادة أسلمة قيم المجتمع التركي وتَجرأ على كسر أقانيم العلمنة حين رد الاعتبار للأذان الذي كان يُرفع بلغة غير لغة القرآن وإعادته إلى اللغة الأُم ودفعَ حياته ثمناً حين واجه الموت على يد إنقلابيين هم ذاتهم الذين أطاحوا بنجم الدين أربكان الذي أسّس أكثرَ من حزب إسلامي واعتُبر بحق أبا للحركة الإسلامية التركية المعاصرة، وهم ذاتهم الذين أرادوا الانقلاب على رجب طيب أردوغان منتصف تموز/يوليو الماضي.
الصور والمقاطع المصورة في بدايات الفيلم، والنص السردي المرافق لها، تنتقل بالمشاهد إلى أجواءَ عثمانية خالصة تعودُ بنا إلى ذاكرة التاريخ مصحِحَة لما رسخ في العقل الجمعي للعربي والمسلم عن الدولة العثمانية في إطار محاولات استلاب صورتها خلال عقود من الانسلاخ الجبري الذي أرادَ أنْ يُعطي صورة مشوّهة لتاريخ حُكم إسلامي امتد إلى أصقاع بعيدة كادت تقتحم أسوار فيينا قبل أنْ يتلقى العثمانيون طعنة أطماع الصفويين في ممالكهم لتعود حشودهم قافلةً إلى المشرق العربي وإلى أسوار حاضرة بغداد لمواجهة الصفويين الذين يصحُ توصيفهم بالكيان الموازي.
إذنْ، سقطت تركيا الحديثة في قبضة «علمانية متطرفة» سعت لتغيير الوجه الإسلامي للدولة بعد إسقاط الخلافة. وتُعَدد كاتبة النص منتجة «الجذور» إلغاء المحاكم الشرعية الإسلامية وحلول القوانين الوضعية التي كان من ثمارها منع رفع الأذان بلغة القرآن الكريم واستبدال الحروف العربية بحروف لاتينية كفلت ابتعاد الأتراك عن تُراثهم الحقيقي المدونِ بالحرف العربي، لكنَّ القلب التركي ظل ينبضُ بالإسلام بحرف عربي يُرددونه على الأقل في صلواتهم الخمس.
أما الوقفة الأخيرة، فكانت مع رجب طيب أردوغان، الذي لا يحتاج العربي أو المسلم كثير جهد كي يتعرف عليه بعد أن باتت وسائل المعرفة متاحة لهم دون عناء. لكنَّ الفيلم أشّر لعلامات فارقة في مسيرة أردوغان وتوجهاته التي أراد منها حين انتُخب عمدةً لإسطنبول متعهداً بأنْ يُعيد إلى «إسطنبول وجهها الإسلامي، برمزية تُجسدها عودةُ آيا صوفيا كمسجد للمسلمين»، من خلاِل عملٍ دؤوب في أروقة حزب العدالة والتنمية الذي أسسهُ مع رفاق له في 2001 بعد حل حزبي الرفاه والفضيلة الإسلاميين.
قد يكون من المفيد أنْ نقتبس بعض ما جاء في سياق الفيلم من نص الكاتبة لمعرفة أكثر عن أردوغان الذي لمْ يُخف توجهه الإسلامي حين «خاض معركة الحجاب تحت مظلة الديمقراطية واحترام الحقوق الشخصية» وقراره «تدريس اللغة العربية في المدارس التركية كلغة أساسية لربط الشعب التركي بالقرآن، وتحقيق المزيد من التقارب مع الأمّة العربية والإسلامية».
يبقى أنّ التوجه نحو أسلمة المجتمع التركي «وإعادته إلى أحضان الأمّة الإسلامية أثارَ رُعب حكومات غربية تتخوف من المدّ الإسلامي، وأخرى عربية تخشى انتقال عدوى التجربة الديمقراطية إليها، فكان التواطؤ على تركيا الذي تجسّدَ في محاولة انقلاب الخامس عشر من تموز/يوليو»، كما تقول الكاتبة التي تُراهن على «عودة تركيا إلى أحضان الأمّة الإسلامية من جديد بعد أنْ تغيّر وجهها بفعل العلمانية المتطرفة.. وسيكون هذا.. وإنْ كرِهَ الكارهون».
لقد أرادت كاتبة النص إحسان الفقيه ومنتجة فيلم «الجذور» القول أنّ الإمبراطوريات، العثمانية هنا، حتى وإنْ ضعُفت أو انتكست وغربت شمسها، يبقى الأصلُ فيها أنّها تظلّ مثار اعتزاز واجب، فهي كما غيرها من الإمبراطوريات تضعف وتقوى حسب الظروف المحيطة بها، لكن امتداداتها حاضرة في نفوس أجيال لمْ يُغادروا حالة الاعتزاز بماضيهم بعد.
لكنْ سيظل الرهان، كما يُفهم من الفيلم، على ثقافة تصنعها الأغلبية الواعية بتاريخها وامتداداته وعمقها الحقيقي المُرادُ له التعبير عن كينونة وجودية أرادت لها ثلّة من العابثين بالتاريخ أنْ تغيبَ وسط زحام ثقافات مهترئة أوردت الأمَّة المهالك.
رائد الحامد
مقال رائع
مقال جميل
يكفي العثمانيين شرفاً أنهم لم يبيعوا فلسطين
ولا حول ولا قوة الا بالله
في البداية شكراً للكاتب الرائع رائد الحامد وللقدس العربي الغراء والشكر كل الشكر للكاتبة المتألقة إحسان الفقيه.
رحم الله الشهيد عدنان مندريس الأب الملهم للصحوة الإسلامية التركية والرحمة أيضاً لرجال أفذاذ قادوا الصحوة بشجاعة نادرة كنجم الدين أربكان ولكن لا يجب أن ننسى أن هناك جنوداً مجهولين وراء هذا النجاح وللأسف القليل يذكرهم وعلى رأسهم الرئيس الراحل تورغوت أوزال رحمه الله الذي مهد بشكل كبير لظهور الصحوة الإسلامية وقد كان منافحاً عنها بقوة إلى أن اغتاله العسكر التركي العلماني المجرم عام 1993 واستطيع أن أقول عنه أنه “رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه” كما في التعبير القرآني لأنه كان يتظاهر العلمانية ويؤمن بالأسلام قولا وعملاً وقد كان يصلي خلسة كما قيل.
رحمة الله عليك يا تورغوت أوزال فأنت بحق أبو الصحوة الأسلامية التركية المجيدة. وكل التحية للقائد أردوغان وأركان حزبه ووفقهم الله لما فيه الخير لهذه الأمة المنكوبة بحكامها.
اغفال ذكر اوزال رحمه الله يندرج في اطار ما قال عنه الكاتب تغييب تاريخ العثمانيين ومن على نهجهم مثل اربكان او اوزال عن مناهج التدريس
لابد للجذور من النمو من جديد على ايدي احرار الامة.