«الجراد الأبيض وثلاث مومياوات أعلى النهر» لصلاح مطر : التاريخ الديني والراهن السياسي بين التأويل والرمز

حجم الخط
0

■ لا تُعدُّ رواية «الجراد الأبيض وثلاث مومياوات أعلى النهر» للروائي صلاح مطر، عملاً روائياً تقليدياً يتكون من العناصر المعتادة للعمل الروائي، من شخصيات وأحداث وزمان ومكان وحسب، وإنما هي عملٌ رمزيٌّ فلسفيٌّ من الدرجة الأولى، يعتمد الإيماء والرمز وبناء الأسطورة، والغوص في التاريخ لاستقراء واستخراج حقيقة المشهد السياسي والاجتماعي، بكل ما فيه من حقائق مفجعة في وقتنا الراهن، وطوال الوقت يحضر الرمز والإيحاء المكثفان بشكلٍ يجعل العقل ينظر إلى واقِعه وللمآسي التي نعيش فيها، بمنظور من يستطيع أن ينفصل عن كونه أحد أطرافها، حتى تتضح له التفاصيل التي تغيب عنه، فيكتمل له «نزع الألفة» بتعبير فيكتور شكلوفسكي، وكل ما في الرواية موظفٌ في هذا الاتجاه، بدءاً من العنوان الذي يحمل تفصيلاً قد لا ينتبه إليه القارئ العادي عندما يعنونها بـ«الجراد الأبيض وثلاث مومياوات أعلى النهر».
ونحتاج إلى جهدٍ وإبحار في الرواية، حتى نبدأ في فهم مدلول العتبة الأولية، التي تحملُ في حد ذاتِها أيضاً تلميحاً كاملاً عن مُراد الروائي وغايته، يقول في ثنايا روايته: «إذ وجدا عند منبع النهر تماماً ما يصدق رؤيا مارجي: ثلاثة أجساد جفَّفَها الموت وهي في وضعية السجود، تحيط بها الصخور الشاهقة الارتفاع، ولا يستطيع أحد رؤيتها من أسفل البرج. وسمعت أن الخاليلو حين سُئِل عنها قال إنها ترمز إلى الديانات الثلاثة، فالنهر ينبع من تحت رؤوسها، تتفرع منه ثلاثة روافد، ثم تعود لتلتقي عند السفح وتسير في مجرى واحد؛ هو سر هذه الحياة. ولما سأله أحدهم مستنكراً: «كيف يهبون لنا الحياة وهم جثث؟» أجاب: لقد مات الأنبياء، ولكنهم تركوا لنا إرث الحياة، فحتى لو مات الجسد فإن الدِّين خالدٌ خلود الروح. إيتابو أيضاً عاين تفسير بعض رؤياه التي أخبرني بها من قبل، فقد رأى وجوهاً ثلاثة، ولكنه لم يرَ الجراد الأصفر الذي رآه في الحلم».
هذه الرمزية عن ثلاثة أنبياء، عليهم السلام جميعاً: موسى، وعيسى، ومحمد، الذين نَبَع من خلالهم نهرُ الديانات الثلاثة: اليهودية، والمسيحية والإسلام، فكانت الديانات كالماء الذي ينهل منه الإنسان ليحيا، سر الحياة الهادئة المطمئنة المسالمة لدى معتنقيها، لكن الأمور لا تستمر على حالِها المستقر أبداً، فسرعان ما يأتي ما يعكر صفو الجمال لينال منه، والسكينة ليُبدِّدها؛ فهناك الجَرَاد، وهو يرمز إلى التطرف، والمتعصِّبين لآرائِهم ولرؤيتهم في كل دينٍ من الأديان الثلاثة، الذين يحرقون بتعصبهم الأخضر واليابس، تماماً مثلما ينقض الجراد على كل شيء، ولا يترك شيئاً حياً أمامه من نباتٍ أو حياةٍ، فمن نبع هذا النهر الجاري ينبعث الجراد، يقول الكاتب: «تطلعتُ إلى السماء.. من بعيد رأيت سحابةً كبيرةً داكنةً آتيةً من ناحية الغرب، أخذت تقترب، وتقترب أكثر، حتى كادت تحجب الشمس. وبينما كان الخليل والراهبان بيتر وإيزاكا يقفون متجاورين عند النهر، وعلى مقربةٍ منهم مارجي وجانتانو وثاباتو يتضرعون؛ كانت عيون موما وسانتابو ورجال ونساء كثيرين في أسمال من الكتان تتعلق مذعورةً بالجراد الذي غطى سماء رافدان والجزيرة كلها»
يناقش الكتاب مشكلة التطرف، ويصوِّر المتطرِّفين على أنهم جرادٌ أصفر، برَّاق لامعٌ كالذهب الذي قد يغري بريقُه المنخدِعَ به، لكنه في حقيقته وهمٌ، لا يحمل إلا الدمار والهلاك، هو مسروقٌ من كّدِّ وتعب البسطاء لكي يُفجِّرهُم ويحرقهم ويدمرهم، وفي كونه «يأتي من ناحية الغرب» إشارة لما تحمله مفردة «الغرب» من رمزيَّة محمَّلة بالدلالات، والتخوف من أنه يغطي سماء الجزيرة كلها رمزية لسماء الجزيرة العربية، فالمؤلف يعلن موقفه صراحةً بدون مواربة من تخوفه من الخطر الذي قد يُلحقه التطرف والإرهاب، الذي لا علاقة له بالأديان وسماحتها، وإنما هو صناعة وثنيَّة بامتياز، صناعة لا تعرف عبادة الله وتعاليمه، يقول: « كنا نأكل غداءَنا حين جاء جانتانو، ووجهه مصفرٌّ، وأخبرنا بأن معركة وقعت في قرية راويس بين أتباعنا وأتباع الراهب بيتر، وقُتل فيها واحدٌ من كل طائفة، وحُرقت زراعات وأكواخ، ونفقت ماشية، وكان بعض أتباع إيزاكا يتابعون من بعيد. توقف الخليل عن الطعام، وبدا على وجهه الحزن والغضب، ثم أردفته على حصاني، وانطلقنا.. كان ذلك اليوم بداية معارك لم تتوقف، أجّجها خُدَّام للمعبد عرفت وجوههم منذ وجدتهم موزعين بين الطائفتين. شممت مع رائحة دخان الحرائق رائحة روش راوس الكريهة، ورأيت نظراته الثعبانية في عيون من أشعلوا نار الفتنة بين سكان القرى، الذين كانوا بالأمس وُدعاء متحابين، رغم الفقر الذي صفّر وجوههم، وأحال كتانهم أسمالاً لا تكاد تستر من أجسادهم شيئاً».
فمن يشعل الحرائق هم كهنةٌ وثنيون من وجهة نظر الروائي، ومن ثم فالداعي للفتنة والمؤجج دائماً للكراهية هو بعيدٌ كل البعد عن تعاليم الأديان السماوية السمحة، تلك التعاليم التي تهتم بالروح، بنقائها وقدرتها على الوصول إلى الله، يقول: «وشَرَح له فلسفته عن الروح، وأن لها بواباتٍ ثلاثاً: الأذن والعين والأحلام، تماماً كما أن الإسلام واليهودية والمسيحية بوابات إلى الإيمان بالله، ومصدرها كلها إله واحد».
تتحقق متعة مقروئية رواية «الجراد الأبيض» من أشياء أخرى أيضاً بجانب رمزيتها، من ذلك ما بها من بعد فلسفي وتأويلات تتحرَّك بحُريَّة كامِلة بين الماضي والحاضر، حتى أن المؤلف يقدم رؤيته الخاصة عن أهرامات مصر فيقول: «فرسم على الرمل ما يوضح كلامه، قائلاً: وقد جعل الفراعنة إلى جانب تلك الأهرامات الخالدة رمزاً هائلاً مثلها يحرسها، اسمه «أبو الهول»، نحتوه تمثالاً بجسم أسد ورأس إنسان؛ الجسم يرمز إلى تسخير الله الحيوانَ للإنسان رغم قوته، أما الرأس ففيه العقل الذي يهتدي به إلى الدين والخالق، والاثنان ـ الإنسان والحيوان ـ من أرض واحدة، ويعيشان عليها من طعام واحد وماء واحد وتحت سماء واحدة. ويكمل الثالوث خلقٌ لا يُرى، هم الملائكة والجن، والإقرار بوجودهما محك اختبار للإيمان بالله الذي أخبر بهما في الديانات الثلاث».
وغير ذلك من أمثلة الرؤية الفلسفية التي نفتقدها في الكثير من الأعمال الروائية، وإن وجدناها تكون ذاتَ ثقلٍ يعيق الجاذبية والتشويق، لكن في حالة «الجراد الأبيض» فإنها من الروايات القليلة التي تتمكَّن من الحفاظ على جاذبيتها وتشويقها، رُغم ما بها من رمزية دقيقة من ناحية، وفلسفة عميقة المغزى من ناحية أخرى، وقد تحقَّق جانبٌ كبيرٌ من ذلك بواسطة التنقُّل عبر الزمن، وعبر الشخصيات والأحداث التي تشعر المتلقي بأنه قد عاد إلى عصرٍ من العصور الرومانية أو اليونانية، أو حتى عصور ما قبل التاريخ، سواء من حيث أسماء الشخصيات، التي تتخذ دلالاتٍ مختلفة داخل الرواية، ويتعمَّق الراوي في تحليل صلات القرابة ومعاني الأسماء، فنجده يقول: «يارانوري لا تعرف – كما لا يعرف «ثاباتو» وفتاته «ريمي آريات»، وربما مارجي- أنني ابن الملك.. ماذا لو عرفت محبوبتي أنني لست راعياً ولا خادماً في المعبد، كما أوهمها «مارجو» شقيق مارجي؟». هنا يصنع الراوي صِلاتٍ من القرابة تُذكِّرُنا بتلك التي كان يبحثها ليفي شتراوس، في أنظمة القرابة في العصور البدائية، ولا يغيب عن ذهن المؤلف أو يقع في أخطاء أبداً حول القرابة التي ينسج من خيوطها تصاعداً في الأحداث.
أما الوصف، فهو الحيلة الأساسية لتحقيق إمتاعٍ جماليٍّ، وتحقيق قدر من التخفيف من حدة الرؤية الفلسفية المقدمة، فاللغة فصيحة رقراقة، لا تتحيز للهجة دون لهجة أو مكان دون آخر، تصلح أن تكون لسان حالٍ للعرب أجمعين، سواء كانوا في الجزيرة العربية أو في الشمال الإفريقي، أو غير ذلك، حتى أن الوصف ذاته يتضمن تلميحاتٍ تاريخيةٍ ذات معنى خاص، يقول: «حقيقية مع أبناء عمومتي الذين تمردوا، واستقل كل منهم بحكم القرية التي أمّره أبي نفسه عليها، وإن كان بعضهم لم يقطع الصلة بنا، وأكدوا لأبي أنهم لا ينسون أنه ملك البلاد المبجل. أما المعركة الكبرى فقد صارت جهاداً مقدساً واجباً علينا جميعاً لاسترداد طاليس من أعدائنا أهل دات مادي، الذين احتلوها يوم اصطفى أبي لنفسه جارية عمرها خمس عشرة سنة، كانت تتمّة الرقم (1948) من زوجات وجوارٍ وأولاد تزوجهن واصطفاهن وأنجبهم، لتتحقق نبوءة عرّافة حذّرته قبل ثلاثين سنة من هذا الرقم».
يصنع صلاح مطر معادلاً موضوعيا لأوضاع الجزيرة العربية التي كانت تعبد الأوثان في الجاهلية، ثم تحوَّلَت بفضل رسالات الله وهدايته إلى الأديان السماوية، ولكنها الآن تخوض مرحلة حاسمة في تاريخها؛ إذ جاء من بــــين النبع الصافي لهذه الأديان السماوية «جرادٌ أبــيض»، يمكنه أن يهلك الحرث والنسل، عدته التعصب، وسلاحه التطرف، ومن وسط هذا الزخم يقف الحب بوصفه الأمل الوحيد القادر على إنهاء معاناة البشرية، الحب للإله، وللآخرين، ولبعضنا البعض، وللمحبوب الذي تكتمل به أرواحنا على الأرض بالزواج، إنها ملحمة تتناول مسيرة نضال وشقاء الإنسان العربي في أزمته الراهنة.

٭ شاعر مصري

«الجراد الأبيض وثلاث مومياوات أعلى النهر» لصلاح مطر : التاريخ الديني والراهن السياسي بين التأويل والرمز

حمزة قناوي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية