الجريمة وصورة الجريمة

حجم الخط
7

حرصت الرقابة العسكرية الإسرائيلية على عدم الكشف عن اسم الجندي الذي ارتكب جريمة قتل الشهيد عبدالفتاح الشريف. الفضيحة في اسرائيل ليست قتل الشاب الفلسطيني الجريح الملقى على الأرض مصاباً، بل في الفيديو الذي استطاع ناشط حقوقي فلسطيني يدعى عماد ابو شمسية تصويره للحظة القتل الوحشية. الصورة هي الفضيحة وليس الجريمة. الناشط الحقوقي الفلسطيني الذي صوّر الجريمة مهدد بالقتل، وسكان حي تل الرميدة في الخليل، حيث يقيم، يشعرون بالخوف من تهديدات المستوطنين، ويقيمون الحراسات حول حيهم.
قتل الشاب الفلسطيني ليس حدثاً، فهو تقليد ثابت في الممارسة الاسرائيلية اليومية في الضفة الفلسطينية المحتلة، فالجيش الاسرائيلي صار جيش المستوطنين، وقوته مسخّرة للدفاع عن الهستيريا اليمينية الدينية التي تجتاح اسرائيل، وتسمح لها بالتصرف بما يمليه عليها انتفاخها بالقوة، وسكرتها بالاحتلال الدائم، وشعورها بأن الشعب الفلسطيني بات في هذه اللحظة العربية المنقلبة وحيداً، حتى قيادته المفترضة تخلت عن واجبها في صون كرامتها وكرامته.
ماذا جرى بالضبط؟
كان عبدالفتاح الشريف ملقى على الأرض جراء اصابته برصاص الجيش الاسرائيلي بعد عملية طعن قام بها مع رفيقه الشهيد رمزي القصراوي لأحد الجنود الاسرائيليين. رمزي استشهد على الفور، اما عبدالفتاح فكان على الأرض وفاقداً للوعي جراء اصابته. وصل طاقم طبي تابع لوحدة «كفير»، تقدم جندي ممرض من عبدالفتاح، لاحظ وجود عماد ابو شمسية حاملاً الكاميراً، فأمره بمغادرة المكان، وقرر أن أفضل علاج يمكن تقديمه للشاب الفلسطيني الجريح هو قتله، فأعدمه على مرأى من جميع الضباط والجنود الموجودين في المكان.
المسألة تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول هو فعل القتل نفسه، اي الممارسة الاجرامية التي تقوم بتصفية الفلسطيني الجريح لأنه ضعيف ويمكن قتله بلا عواقب. وهنا لا جديد، هذه هي ممارسات الدولة العبرية منذ تأسيسها. ولقد تحولت هذه الممارسة التي شهدناها في مراحل النكبة الفلسطينية من 1948 الى 1982 الى 2002 الى حروب الابادة على غزة، إلى ممارسة يومية يقوم بها «زعران» الجيش الاسرائيلي، في عملية اصطياد يومية للضحايا من الفلسطينيين والفلسطينيات، منذ اندلاع الهبّة الفلسطينية.
هذا هو الثابت الذي لم يتغير في مشروع الاستعمار الاستيطاني الصهيوني لفلسطين. فالتطهير العرقي والقتل الجماعي والإذلال المنظم، هي سمات الغزو الاسرائيلي. وهذا هو المآل الطبيعي الذي قام على فرضية احلال شعب مكان شعب آخر. كيف يمكن اقناع الفلاح بترك ارضه وأرض آبائه وأجداده؟ الوسيلة الوحيدة هي العنف بأشكله المختلفة، من المذابح المستمرة إلى اقامة الغيتوات والمعازل، إلى الأقفاص والسجون…
القسم الثاني هو صورة الضحية. هنا تقع اللعبة الصهيونية، يجب تغطية الجريمة وتبريرها واعتبارها عملاً أخلاقياً! هذه كانت لعبة المؤسسين. المجرم يلبس ثياب الضحية، ويتبنى القيم الكونية عن حقوق الانسان ويعلن انتماءه إلى العالم الحر، يبكي ويتمسح بضمير غربي ميت مرر جرائم هتلر والنازيين وأتى ليتلو فعل ندامته على أنقاض فلسطين. هذه هي الصورة التي يجب أن تعمم وتظهّر. مجازر عام 1948 مرت تحت هذا الغطاء الذي أضيف إليه واقع هجوم جيوش سبع دول عربية على «دولة الناجين من المحرقة النازية»! هكذا اختفت الجريمة ولم يعد أحد معنياً بها، القاتل يتنعّج ويبكي، والقتيل هو المجرم.
نجحت اسرائيل في تغطية جرائمها، وفي الظهور على صورة الضحية. انها عبقرية الجريمة! بن غوريون يأمر بالتطهير العرقي وهو يقرأ بيان اعلان الدولة المفعم ببلاغة الضحية، والعالم يصفق.
انتصرت الصورة على الحاضر في زمن ما قبل عصر الصورة. امحى الحاضر، ومنعت الضحية من التعبير عن نفسها كضحية. والحق يقال، إن هذا المنع لم يكن بفعل القمع اللغوي والثقافي الاسرائيلي والغربي فقط، بل كان مسؤولية عربية وفلسطينية ايضاً. اذ احتلت لغة المؤامرة وانتظار انبعاث عربي وشيك مساحة الألم وسحقتها. وهذه حكاية اخرى، آن اوان تفكيكها والخلاص من انتفاخها الساذج بالماضي؟
تم حجب الحقيقة قي شكل كامل، وفعل الحجب لم يكن مجرد لعبة اعلامية، بل كان تعبيراً عن سياق تاريخي جعل من الغزوة الصهيونية لفلسطين آخر موجات الاستيطان الكولونيالي في افريقيا وآسيا، وأكثرها تعقيداً لأنها تربط بين اسطورة «الرسالة التمدينية» والاسطورة الدينية بشكل وثيق.
الفيديو الذي التقطته عدسة عماد ابو شمسية ووزعته منظمة «بتسليم» على وسائل الاعلام، يعلن تطابق الصورة مع الحاضر. وحكاية هذا التطابق بدأت مع الانتفاضة الاولى عام 1987، حين انتشرت صورة تكسير عظام الأطفال الفلسطينيين التي أمر بها رابين. ومنذ تلك اللحظة واسرائيل تعيش مخاضات الانزياح في اتجاه تزايد العجز عن فصل الصورة عن الحقيقة، إلى أن أوصلها منطق الاحتلال والتحول نحو النيوليبرالية والصعود اليميني إلى السقوط النهائي في الخطاب الديني- القومي، الذي يدفع بها إلى التحول إلى دولة فاشية تقيم نظام ابارتهايد متكاملاً، وتبرر القتل والطرد والقمع والابادة عبر استخدام خطاب ديني قروسطوي.
لذا لا نعجب من مواقف وزراء اسرائيليين يعلنون دعمهم للجندي القاتل. ولحملات التأييد للقاتل الذي بدأ يصّور بصفته ضحية!
هذا هو المنطق الاسرائيلي السائد اليوم، فلقد مضى الزمن القديم، حيث كانت صورة الضحية اليهودية ممحاة للجريمة الصهيونية. مضى زمن القيم الليبرالية التي شكلت غطاء للتلاعب بالصورة، وأتى زمن الحقيقة العارية حيث تتطابق الصورة مع الحقيقة، وتتحول الجريمة إلى بوصلة الاحتلال الوحيدة.
والمفارقة أن هذا الزمن يأتي مع موت الرأي العام العالمي وعدم اكتراثه، ومع تراكم الكوارث العربية التي يمتزج فيها الاستبداد المتوحش بوحشية الأصولية الداعشية واشباهها، بحيث تتم محاولة تدمير المبنى الأخلاقي برمته، ليحل في مكانه شعور باللامعنى، وبتفاهة الجريمة.
هذا هو التحدي الفلسطيني اليوم.
التحدي ليس أن نقوم بفضح ممارسات اسرائيلية تفضح نفسها ولا تبالي، بل في تقديم بديل أخلاقي- سياسي للحظة هذا الانزلاق المخيف إلى هاوية الموت داخل الأساطير الدينية المتوحشة. وهو تحد مقياسه الممارسة وبلورة معنى جديد يعيدنا إلى أفق المقاومة باعتبارها فعلاً أخلاقياً يدافع عن القيم الانسانية.

الياس خوري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول رياض- فلسطين:

    استاذ الياس شكرا لقلمك النابض بالمقاومة والناطق بالحق في عصر الصمت والإذلال والخنوع والتدجين. من هنا من قلب الخليل الصامدة احييك، نحن هنا ندفن شهاداءنا ونضمد جراحنا ونلملم اشلاءنا ونمضي الى الامام ليس معنا الا الله وهو كافينا. يا استاذ الياس البلدة القديمة في الخليل والقدس تفوح منهما رائحة الموت وكتب التاريخ على جدرانهما بدماء طاهرة زكية عن جرائم هذا الكيان المسخ ومؤيديه من الشرق والغرب. اقول لزملائي في المانيا وفي العالم الذي يسمي نفسه بالحر اقرؤوا ما كتبت جريدة دي فلت الالمانية وهي تبرر بكل وقاحة فعل هذا الجندي الارعن وبالخط العريض ( ان يخطئ جندي ويعود الى اهله حي، خير من ان يتصرف بحكمة ويعود الى اهله جثة) هذا هو رد الصهيونية العالمية وابواقها على هذه الفظائع والفضائح الكبرى مع انني اصبحت اشك انهم يعتبرونها جرائم فالتبريرات موجودة دوما في الادراج وجاهزة للطباعة والنشر! كم من طفل كسرت عظامه ولم يصور وكم من شاب وفتاة نكل بهم ولم توثق قصصهم، هي هكذا يوميات الفلسطينيين ولكن هذا لم يمنع ابن جيراننا ابن السبع سنين من ان يصنع طائرته الورقية وكأنه يقول فلسطين لنا ببحرها وارضها وسمائها مهما طال الزمان. هنا سيد الياس فعلا قوم جبارين فما اغبى الصهاينة اذ اختاروا هذه الارض وهذا الشعب ليقارعوه، فهنا احترقت على مر التاريخ سفن الغزاة وعلى صدور اجدادنا تكسرت رماح الغرباء فلم تبق لهم من باقية، فاين هم؟! ذهبوا ونحن من بقي ! سيخرج الجندي بريئا لانه كان يدافع عن نفسه او لحسن سيرته وسلوكه وستتهم الكاميرا بالارهاب في مشهد معتاد من الكوميديا الكاذبة السوداء. رحم الله الشهداء الاحياء فهم احياء ونحن من ماتوا. تحية طيبة.

    1. يقول Ossama Kulliah أسامة كليَّة سوريا/المانيا:

      معك حق أخي رياض صحيفة جريدة دي فلت الالمانية ( Die Welt) هي جزء من الإعلام الصهيوني-غربي وهي معروفة بذلك لكنها منتشرة وسياسة الصحيفة هي الوصول إلى الطبقات المتعلمة في ألمانيا وتلقينها دورسا في الدفاع عن سياسة إسرائيل الصهيونية العنصرية

  2. يقول الكروي داود النرويج:

    كل شخص صهيوني بفلسطين المحتلة يعتبر هدف مشروع
    ولا حول ولا قوة الا بالله

  3. يقول خالــد الشـــحام:

    زريف الطول يعود إلى أمه الفلسطينية !

    مرة ثانية وثالثة يعيش قلمك الخالد في كلمات مقاومة استاذنا الكبير

    لم يكن المشــهد إلا رمز المرحلة بكل التراجيديا الانكسارية فيها ……….. بذات قدر البطولة والتضحية والشهادة يقف القاتل الاسرائيلي في الطرف الآخر من الميزان ليوازن كل ذلك بالهمجية واللانسانية والتجرد من الآدمية لكي يفهم هذا العالم سبب التضحية وسبب الثورة وسبب الافتداء حتى الموت وكيف ولأجل ماذا يرحل أبناء فلسطين .

    دعونا لا ننسى ان بنو اسرائيل في مملكة صهيون هم المعلمون الأوائل والمدرسة الريادية في الذبح وطقوس القرابين وإمتهان الحياة البشرية لكل حواضنهم العربية والغربية التي قامت على القمع والقتل واستعباد الخلق ، دولة اسرائيل المقامة على مجارير أوروبا القديمة لم تكن يوما إلا كما نراها كل يوم في أعمال القتل والتحطيم والتخريب ..تكفي غزة وحدهـــا لضمير العالم الرقمي لتشهد على حصيلة رحلتهم التاريخية المكللة بالدماء والضحايا والمؤامرة لكي يفهم أحد ما ما وراء السبي البابلي وحدائق الجيتو المزنرة بالشوك والسياج.
    ما سجلته الكاميرا التي رصدت الظاهرة الاسرائيلية ووضعتها أمام أعين العالم يؤكد أن الأخير أصبح أعمى ويؤمن بما تقوله اسرائيل وغطرسة المارقين في هذا الافتراض اللامتناهي .

    الجندي الوضيع لم يقتل فلسطينيا عديم القيمة ، بل اسرائيل النازية تعيد المطالبة فطريا في حقها بإزاحتها من التاريخ والكون والوجود وتضع أمام أعين الذين نسوا التاريخ أسباب انتقام التاريخ وهكذا تختار اسرائيل نهايتها .

    الجندي الصغير لم يقترف جريمة أمام عين الكاميرا المومس بل هي دعوة مفتوحة لكل أبنــاء فلسطين للشهادة وتلبية النــداء والعيش حتى الموت فداء لفلسطين وللشجرة المباركة التي يقيم تحتها الشهداء الخالدون .

    أصحاب الهولوكوست تحولوا إلى مرضى به ويمشون على دربه أينما حلوا وأينما احتلوا وأصحاب الكهف المتفرجون يؤمنون أنه كلما طال نومهم زادت احتمالية اكتمال القمر والستر من الله وهكذا يتسلق الذباب الموسمي العربي على جراحك الخالدة يا زريف الطول .
    كلنا ثقة بأننا شاهدنا روح الشهيد تتجلى فلسطينيا سويا أمام جمع الأشباح التي كانت تراقب الحدث حيا أو من وراء الشاشات وكلي يقين بأنه كان يردد قبل رحيله يا زريف الطول …قبل أن يعود مرة أخيرة إلى أمه الفلسطينية الأزلية !

  4. يقول Abu Maher:

    للتذكير فقط
    اقول
    بأن الإعلام الألماني بالذات إعلام صهيوني
    بحت ومن يسيطر على كافة القنوات ووسائل الإعلام الألمانية
    هم صهاينة
    وغير ذلك
    يتم توجيه الإعلام الألماني من مجلس اليهودي العالمي في لندن
    و
    رديفه في برلين
    وطبعا ينطبق هذا الأمر على جميع وسائل الإعلام العالمية الكبيرة والصغيرة ومنها ايضا
    بعض القنوات العربية
    فمانشرته مجلة دي فيلد أمر عادي
    الجميع يحاولون تغطية الشمس بغربال
    لكن هيهات
    أخيراً
    رحمة الله على الشهيد وثورة حتى النصر
    وحسبنا الله ونعم الوكيل
    أبو ماهر
    برلين

  5. يقول Ossama Kulliah أسامة كليَّة سوريا/المانيا:

    شكراً وشكراً أخي الياس ماذا يستطيع واحد مثلي من سوريا أن يضيف حيث دماء الشعب السوري تسيل أيضا كل يوم وحيث جنود وشبيحة الأسد تقتل الشعب السوري بإجرام فظيع وبنفس ممارسات الصهيونية وتحت ادعاءات واهية ويتم تلبيسها نفس اللباس الصهيوني. نعم إنها لعبة متكاملة لتدميرنا وتهدد وجودنا ويحتاج إلى بديل أخلاقي- سياسي ينقذنا من هذه الهاوية

  6. يقول حي يقظان:

    الأخ إلياس،

    بعد أن سقطت كل أنواع الأقنعة التي كان أزلامُ النظام الأسدي الطائفي المجرم يتخفَّون وراءها في وضح النهار العربي والعالمي، وبعد أن نجحت كلُّ أنواع الأكاذيب التي كان أزلامُ الكيان الصهيوني العنصري الغاشم يتذرَّعون بها من خلال سياسة «وضع اللائمة على الضحية» (تلك السياسة التي أصبحت تُتَّبَعُ اتِّباعًا ممنهجًا منذ عهد البربري هولاكو)، يكاد الشعب السوري والشعب الفلسطيني، في هذه المرحلة من تاريخنا المحزن والموجع تحديدًا، يكادان أن يتآخيا في الدماء من جديد، بعد أن تآخيا في أشياءَ جوهريةٍ لا تحتاج إلى أيِّما تذكير.

    كم كنتُ أتمنَّى أن يتَّحدَ هذان الشعبان وأن ينتصبا في وجه عدوٍّ واحدٍ لا يحمل سوى اسمين مختلفين، النظام الأسدي الطائفي المجرم والكيان الصهيوني العنصري الغاشم، كم كنتُ أتمنَّى أن يتَّحدَا منذ بداية الثورة الشعبية في سوريا قبل أكثر من خمس سنوات، أو حتى منذ بداية ما كان يُسَمَّى بـ«ربيع دمشق» قبل أكثر من خمسة عشر عامًا. كم كنتُ أتمنَّى ذلك من أعماق القلب لأن هذا الحراك الثوري العارم لَهُوَ الحراك الثوري الوحيد الذي خرج من قاع الأرض المروية بالدماء على مدى قرون وقرون، قاع الفقراء والمُعْدمين والمهمَّشين الذين لا يملكون أيَّ شيءٍ ماديٍّ يُذكر حتى يخسروه في المقام الأول.

إشترك في قائمتنا البريدية