لم يبرح القارئ الجزائري الصغير محمد فرح بالي أبدا، استولى على اهتمامي وتفكيري، رغم انشغالي بمحاضرات ومناسبات اجتماعية وثقافية وتحضيرات لبرنامجي الجديد «أمة تقرأ».
ظل الصبي ذو السبع سنوات بفصاحته وبساطته يتجول في أروقة مخيلتي ويبرز بين الأضواء والظلال وكأنه كائن ضوئي.
حبي لهذا البلد قديم، قدم وعراقة وعظمة ثورته، ولعله زاد حين جمعني الله بأصدقاء من الجزائر على رأسهم الروائية فضيلة الفاروق، التي أعتبرها كاتبة صادقة في نصها وفي تعاملها مع من حولها. وقد لمست ذلك حين زرت الجزائر ولمست كل ما قرأته في أدبها وسمعته منها بكل صدق، حين وصفت الجزائر كما هي دون رتوش جمالية.
لم تعرف فضيلة أن تجامل القارئ على حساب انتصار نصها وانتشاره، كتبت ما جلب لها من يحاربها وينتقدها بقوة وحتى في علاقاتها الخاصة ظلّت على مبادئها وخطها الذي رسمته لنفسها ورفضت أن ترتدي أي نوع من الأقنعة التي يمكن أن توصلها لمجد معين.
من خلالها عرفت طيبة الجزائري الذي لا يفتح أبواب قلبه إلا لمن يثق بهم. عرفت دهاليز الأدب الجزائري الذي تنحاز إليه بعنفوان وتطرف أحيانا، وعرفت أن طاقات الجزائر الإبداعية تتجاوز الأسماء القليلة التي يروج لها الإعلام. حرصت دوما أن ترسل لي روايات وكتب أصدقاء لها من العالم العربي كله، كما حرصت على جعلي أقرأ كتابا جزائريين همشهم الإعلام على المستوى الداخلي والعربي لأسباب شخصية. هي من أهدتني مجموعة الشاعرة الجزائرية خالدية جاب الله التي انطلق بريقها من الإمارات وانطفأ في الجزائر لأسباب غير مفهومة. وجعلتني أكتشف الروائي عبد العزيز غرمول الذي أعتبر نصه منعرجا جميلا ومتفردا وإضافيا للرواية الجزائرية، ولكن خصومه على المستوى الأدبي والسياسي ظلوا يطمسون اسمه. قرأت عاشور فني الرقيق ونوارة لحرش المدهشة بلغتها الشفافة، ودهشت أمام اللغة القوية للشاعر يوسف وغليسي ومستواه الأكايديمي الممتاز.القائمة طويلة، وفضيلة المشاكسة لا تكف عن دعم مكتبتي بعناوين وحكايات لا تنتهي عن الجزائر.
أما عن موضوع القراءة فتصر صديقتي أن الجزائري مظلوم لأنه أمام مكتبات فارغة ومسيسة في الجزائر، وأن التيار الديني المتطرف سيطر على تجارة الكتاب، لكن لمعرفة مدى جوع الجزائري للمعرفة والكتاب علينا زيارة معرض الكتاب الذي يستقبل سنويا في موعده أكثر من مليون ونصف المليون زائر. الرقم مهول جدا، وتلك الحكمة القديمة التي تقول «مصر تؤلف ولبنان ينشر والعراق يقرأ» أصبحت تنسجم مع الجزائر بعد أن ضرب العراق. مع أن رأيي الشخصي هو أن بقاء القارئ على قيد الحياة في البلدان التي ضربتها الحروب يقلب تماما تلك النظريات التي تتهم شعوبنا بالنفور من الكتاب.
الصبي الجزائري محمد فرح جلود الذي شغل الإعلام في بلده ليس مجرد ناجح في مسابقة، فالصبي ولد في بيئة تعاني من القحط الثقافي، حتى إن كانت هذه البيئة مدينة قسنطينة الشهيرة بعلمائها وفنونها وتراثها وتاريخها الثقافي العريق. فالمدينة حاليا لم تستطع حتى أن تستعيد طابعها العريق ذاك خلال تظاهرة «قسنطينة عاصمة للثقافة العربية» ورغم ما خصص لها من ميزانية إلا أن سوء إدارة تلك الأموال وابتكار أفكار تشجع القراءة وإنعاش عوالمها الفنية ذهب أغلبه مع الريح. لم تكتشف قسنطينة ابنها محمد فرح، ولم تكتشف أيا من أبنائها العباقرة وما أكثرهم، وفي خبر لا أدري مدى صحته أن مسابقة لأجمل حجاب أطلقت بين المدارس في هذه المدينة، وهذا يعني أن ما تحت الحجاب لا يهم الناشطين هناك. مع أن الجزائر بلد كبير وأنجب نجوما في المجالات جميعها، سواء العلمية أو الرياضية أو الفنية أو الأدبية. لكن الداخل الجزائري يركز على تهميش العقل وتشجيع القشور. مع إهمال للطاقات الجادة في الجزائر.
مجهودات هذا الصبي الصغير الذي توجته دبي تعني بدون مناقشة أن الأطفال في الجزائر تنقصهم مرافق القراءة والاعتناء بهم فكريا. لأن الصــــــبي كان يستمتع وهو يقرأ ويلخص ما قرأه، وكان سعيدا طيلة الوقت وواثقا من نفســـه، وإن كان هذا بعضا من شخصيته فإنه أيضا يحمل بعضا من شخصية الفرد الجزائري عامة.
وقد كتبت في مقال سابق عن معاناة التلميذ الجزائري حسب حكايات صديقتي فضيلة، وأذكر من بين ما أذكره أنها حكت لي أيضا عن طالب جامعي عانى من ضيق سكنهم وكثرة أفراد عائلته ـ وهذه ظاهرة عامة في الجزائر- فكان يدرس في حافلة الطلبة، حيث يأخذ مكانه في الأخير ويقرأ، وأنه عمد إلى هذه الحيلة حتى لا ينسى نفسه في مكتبة الجامعة ويتأخر عن النقل الجامعي فيضطر لاستقلال النقل العام وهذا مرهق له ماديا.
قصص غريبة وجميلة تفسرها صديقتي بفلسفتها، وأجدها لطيفة وحقيقية كأن تصف الروائية الصديقة أحلام مستغانمي بساحرة القراء لأنها على رأيها جعلت من لا يقرأ يقرأ، وجعلت المشرق الذي خاصم المغرب كثيرا ينتبه لطاقات بلادها، ولأن أحلام لم تكفهم ولم ينظر إليها النقاد كظاهرة أدبية عالجت مجمتعنا من النفور من القراءة، وذهب أغلبهم نحو أمور جانبية أثاروا حولها جدالات لم تنته إلى اليوم، فقد أرسل الله محمد فرح من الجزائر نفسها ليحمس الأطفال على الإقبال على الكتاب، في وقت يعاني منه أطفال الجزائر عامة من رعب الخطف والقتل وهذه ظاهرة لم يتم إلقاء الضوء عليها وتحليلها بشكل جاد مع أنها أصبحت لا تحتمل في الجزائر.
نعم فكرت كثيرا في هذا الطفل الذي أثار زوبعة إعلامية كبيرة في بلاده، لم يثرها الفائزون الآخرون، والسؤال الذي يطرح هنا، لماذا في الجزائر تختلف الأمور؟ ولا أجد جوابا واحدا كافيا، فالطفل حصل على الجائزة لأنه اجتهد، والجائزة ضخمة تفوق حلم طفل في عمره، وهي أيضا هزت عالم الكبار والأطفال معا، كما أنها جائزة تكافئ الفكر وتشجع على المضي قدما في درب العلم والمعرفة، فتراها ستقلب واقع الأطفال سواء في الجزائر أو في غير بقعة من العالم العربي؟
هل هذا الفوز رسالة للمسؤولين قبل الأهل؟
لأن فوزه رسالة تقول إفتحوا مكتبات عامة للأطفال، فالطفل في هذا العمر يمكن توجيهه لما نريد. فقد تبادر إلى ذهني لو أن الجائزة موجهة للناضجين في هذه البلدان التي يسودها القلق والتعب النفسي ومتاعب الحياة هل سيبرز شخص مثل هذا الطفل؟
تحكي لي صديقتي فضيلة في أول لقاء جمعنا منذ أكثر من عشر سنوات، أنها ولدت في قرية معزولة في جبال الأوراس وكانت محظوظة لأن تلك القرية آنذاك لم تخل من مكتبة عامة، حوت أجمل ما صدر من أدب عربي وعالمي. كانت تقول إن تلك كانت جنتها، وعلى مدى عدة سنوات عاشت في تلك الجنة، ورأت العالم كله من خلال قراءاتها وعشقت كاتبها الأول البريطاني تشارلز ديكينز وكتابا آخرين فحلمت أن تصبح كاتبة وتحقق لها ذلك. وتقول أيضا إنه لولا تلك المكتبة التي أغلقت في ما بعد لأسباب مجهولة لما كانت ما هي عليه الآن، ولبقي وعيها بحجم القوالب التي صنعت آنذاك لعقول العالم الثالث. كثير من الكلام يحضرني الآن، بسبب هذا الطفل الجزائري النجيب، كثير من العلاقات الجزائرية الجميلة التي أثرت حياتي، لكن فضاء البوح ضيق، وعسى أن أخوض في هذا الموضوع بشكل أوسع في المرة المقبلة، مراهنة على قدرات أطفالنا، وأن ما تنقصهم مجموعة كتب جميلة وغرف دافئة وحصيرة على الأرض ليستمتعوا بالقراءة ولتنمو عقولهم حتى تصبح بأحجام أدمغة العلماء الذين غيروا وجه العالم باختراعاتهم وأفكارهم النيرة.
٭ شاعرة وإعلامية من البحرين
بروين حبيب
شكرا جزيلا للكاتبة البحرينية المنصفة على هذا المقال…، وكي تتأكدي يقينا مما ذهبت إليه: (وعرفت أن طاقات الجزائر الإبداعية تتجاوز الأسماء القليلة التي يروج لها الإعلام. حرصت دوما أن ترسل لي روايات وكتب أصدقاء لها من العالم العربي كله، كما حرصت على جعلي أقرأ كتابا جزائريين همشهم الإعلام على المستوى الداخلي والعربي لأسباب شخصية) عليك بقراءة رواية الشاعر والكاتب البروفيسور “عبد الله عيسى لحيلح” الموسومة بـ “كرّاف الخطايا”…وكذا قصائده ودواوينه الشعرية…ستذهلين حتما…شكرا جزيلا مرة أخرى “بروين حبيب”…دون أن ننسى “العمدة -الكروي داود-“..
حياك الله عزيزي سفيان وحيا الله أصلك الطيب وحيا الله الجميع
ولا حول ولا قوة الا بالله
شكرا جزيلا للكاتبة البحرينية المنصفة على هذا المقال…، وكي تتأكدي يقينا مما ذهبت إليه: (وعرفت أن طاقات الجزائر الإبداعية تتجاوز الأسماء القليلة التي يروج لها الإعلام. حرصت دوما أن ترسل لي روايات وكتب أصدقاء لها من العالم العربي كله، كما حرصت على جعلي أقرأ كتابا جزائريين همشهم الإعلام على المستوى الداخلي والعربي لأسباب شخصية) عليك بقراءة رواية الشاعر والكاتب البروفيسور “عبد الله عيسى لحيلح” الموسومة بـ “كرّاف الخطايا”…وكذا قصائده ودواوينه الشعرية…ستذهلين حتما…شكرا جزيلا مرة أخرى “بروين حبيب”…دون أن ننسسى “العمدة -الكروي داود-“..
ارقى التحايا لك سيدتي على هذا المقال الرائع والكلام الناضح بصدق الاحساس في حق الجزائر ومبدعيها
الحقيقة وراء تهميش عديد من الكتاب و الشعراء في الجزائر هو الكبقة العلمانية المتغلغة في الادارة والتي تحارب الحرف العربي ولها ولاء للغرب خاصة المستعمر السابق فرنسا وقد اثلج صدري لما قال الطفل حفظه الله وجزا والديه خير الجزاء انه يحلم لان يكون مثل بن كثير او عبد الحميد بن باديس اما ماقد يكون غاب عن الاستاذة الكريمة هو العلم والمخطوطات الموجودة خاصة بالجنوب لكن للاسف وبسبب ماسبق وان ذكرت تعطل التحصيل و اهملت الزوايا ودور العلم ولم يحافظ على الارث الكبير الذي تركه لنا الاجداد والله المستعان
آه يا أخت بروين أنصفتنا من حيث لم ينصفنا الآخرون
شكرا لك و أعلق على السيد سفيان أن كراف الخطايا رواية جميلة لو أن الشاعر عيسى لحيلح قال فيها كل شيء
تجربته في حمل السلاح مع الإسلاميين يجب أن يكتبها لكنه أجبن من أن يعترف بالحقيقة خوفا على حياته
من صفاهم الإسلاميون في الشرق من مثقفين خاصة في قسنطينة مثل حكيم تاعكوشت و مخلوف بوخزر ربما لعيسى لحيلح و جماعته يد في ذلك، أقول ربما لأني سمعت أشياء قيلت حول الموضوع .
و لا أحد كان بريئا يومها من دماء من قتلوا، فلا تروج لصديقك حتى يمتلك الشجاعة لقول الحقيقة عن أيامه في الجبال و المخابئ.