انتهى العرس السياسي الموسمي، بانتهاء الانتخابات التشريعية، وعادت السياسة إلى مرقدها بالكهف المجهول، تنتظر الخريف المقبل لمعاودة الظهور بزينة البارود والبخور في انتخاب «محلية»، ستعيد السلطة تكريس نفسها بالحقائق المركبة بطلةً بلا منافس… لكن وفي خضم التحولات الخطابية للسلطة بحسبانها منتج الخطاب السياسي الأول بل والوحيد طالما أنها مستمرة على مدار الزمن في إعلام الواقع وواقع الإعلام، يسترعي الانتباه ذلك العنان المطلق للتصريحات والوعود الكاذبة من قبل المسؤولين والساسة على حدٍ سواء، والتي فاقت كل السقوف واجتازت كل العتبات المتعارف عليها ما رسخ قناعة ظلت محل شك، تلك التي تعلقت بالانهيار الكبير على مستويي الاخلاق الشخصية والوظيفية معاً.
إذ ليس أكثر ما يضع بوضوح المرء في العراء من اللغة، فهي تكشف فلربما في ملمح لساني بسيط أعماقه التي لم يكن ينتوي عرضها للآخر، هكذا كان حال الساسة في الجزائر، الذين كشفوا عبر وضيع الخطاب السياسي الحالي الذي يتسيدونه في ظل انطواء المعارضة المهزومة ذاتياً على نفسها، عن مديات ابتعادهم الوظيفي للسياسة، وذلك حين خلطوا بين الكذب السياسي الذي عدّته الممارسات التصارعية حول المصالح القومية من الأدوات الفعالة لكسب المعارك والمناورات التفاوضية مع الآخر في النسق البراغماتي المعروف بكونه عماد المراس السياسي، وبين سياسة الكذب التي تحط من آدمية المسؤول، فظلاً عن شخصيته الوظيفية.
فمكيافلي لم يستثن الكذب من آليات الحسم في ممارسة السياسة، خارج النطاق الاخلاقي العام، بل اعتبر في شهير كتابه الموسم بالأمير، أن أي مسعى لتجاوز ورقة الكذب الفعالة في اللعبة السياسية ستعني بالضرورة إخلالاً بميزان القوى في معركة التفاوض و»التناور» السياسيين، وهذا في ظل عدم تواني الخصم في توظيف كل ما في نفس الانسان من نواقض ونواقص لحسم اللعبة فوق القواعد القانونية والأخلاقية الظاهرة.
مكيافلي واتجاهه صار مع توالي الأزمنة يتقيد بحدود فرضتها تطورات حالة الانتظام السياسي للدولة وتغول سيادة الشعب وفرضها للقانون وعمل المؤسسات كحكم فعلي وناظم للعلاقة بينها وبين الحكام ما جعل الكذب السياسي يتميز عن سياسة الكذب، فالاولى قد تفرضها مصالح ومنطق الدولة على مائدة الندية التفاوضية والعمل الاستخباراتي الموجه للخارج في جلب مصلحة للأمة، فعندما يكذب بوش مثلاً بالقول إن صدام حسين يخفي أسلحة الدمار الشامل ويتوجب اجتياح العراق من أجل تخليص البشرية منها، ليتبين فيما بعد كذب الادعاء، فالمصلحة هنا في الهيمنة على نهر النفط الذي يجري على أرض العراق خدمة لمصالح بلاده العليا في الصراع المتعدد القطبية على المستوى الاقتصادي هي التي فرضت سلوكاً حججياً ادعائياً، فالكذب في الفكر والعمل السياسيين صار مشروعاً لجلب مصلحة للامة وليس يعدو ذلك، أي أن يحرم داخل النطاق الوظفي المحلي، فقد رأينا كيف سيق كلينتون إلى المحاكم في ضيحة مونيكا لوينسكي لمجرد أنه كذب حين صرح في الأول بنفي أي علاقة له مع تلك الحسناء.
بيد أن نطاقي توظيف الكذب لا يزالا مترابطين في عقلنا السياسي الجزائري غير مرتبطين بظرفي زمان ولا مكان محددين، وفي ظل بقاء أدوات المتابعة والمراقبة، الاعلامي منها والعملي السياسي الشعبي كما والرسمي غير فاعلين ولا مفعّلين فلا ضير أن يكذب المسؤول أو المعارض على الشعب والقواعد النضالية مثلما يكذب في حياته الشخصية، المهم أن يصل إلى ما يريد الوصول إليه، إنه أمر شائن وأسهم في انتشار الخمج في كامل الجسد الوطني، تبعاً أو تصديقاً لمقولة الشعوب تظل نسبياً على أخلاق حكامها ومسؤوليها بالطوع او الإكراه.
فإذا كانت للوعود السياسية الكاذبة سوق موسمية سميت في أبجديات السياسة الحملة الانتخابية التي تقع في مدار زمني وتاريخي محدد، فقد جُعلت السياسة في الجزائر كلها حملة انتخابية مفتوحة، ما حول السياسة إلى جزء من العملية الانتخابية وليس العكس، فعلى مدار الفترة التي تفصل بين العهدة الرئاسية والأخرى، يتم تسويق الدجل والكذب، وتدشين المدشن والوعد بالمستحيل، وتصريح باللامعقول دونما حرج أو وجل لأي اعتبار لمستوى النضج والوعي اللذين تجاوزا الشعب بهما فترات العهد القُطري الأول الذي تلا فترة الاستقلال.
فعندما يصرح وزير النقل مثلاً، أن العاصمة الجزائرية أحسن بكثير من اسطنبول، في وقت تزحف فيه هاته الأخيرة لتأخذ لها مكاناً ضمن أهم وأعظم عواصم العالم بفعل النجاحات التنموية التي رأتها ومن ورائها البلاد التركية برمتها، ندرك أن طبيعة التعاطي السياسي مع الكذب الذي يُرام من ورائه ارتهان الحقائق والدوس على المنطق بأهواس وهواجس كرسي المسؤولية، فحتى في ظل علم هذا المسؤول أن العالم صار بلدة يقطعها قطار غير متوقف دائر بدوران الشمس، وأن الشباب الجزائري يمتطي هذا القطار صباحاً ومساءً ذهاباً وجيئةً من وإلى تركيا ويعلم علم اليقين أن البون شاسع بين العاصمتين، وأن التاريخ المتوقف في العاصمة وضواحيها وكل أخواتها من مدن الجزائر ليست كذلك بالمرة في اسطنبول، إزمير، أنقرة وغيرها، فالوطنية لا تحتاج إلى تعمية وافتراء كي تتأجج في الصدور والقلوب.
وزير آخر لم يجد حرجاً قط من أن يصرح بأن قطاعه (قطاع الصحة) هو من الأكثر تطوراً وحداثة في آلياته في العالم! بل ذهب إلى حد عدم الاستثناء سوى أمريكا وبلد آخر لم يذكره أو لم يتذكره، كونهما يتوفران على تجهيزات طبية أفضل من مستشفيات الجزائر، ما أثار استغراب الجزائريين من ساكنة عالم الافتراض، فأمطروا هذا الوزير سخريةً وتهكماً مما صرح وساءلوه لمَ يسافر الرئيس للعلاج في فرنسا، طالما أن مستشفياتنا مجهزة بأحسن من مستشفيات بلد الجن والملائكة؟
ما كشف عنه، إذن، العهد البوتفليقي الذي يمتد لقرابة العقدين، هو أنه بالإضافة لانهيار أخلاق الساسة والمسؤولين شخصياً ووظيفياً، ما تسبب في أزمة للسياسة بالجزائر قل مثيلها في التاريخ الوطني وانعدم في باقي العالم عدا طبعاً العالم العربي الذي هو خراب لكل أخلاق وقيم السياسة – بالإضافة إلى ذلك – فقد أبرز ضعف التكوين السياسي للكادر الإداري المسؤول الذي تنتجه المدرسة الوطنية للإدارة، ذلك لأن معظم الوزراء القطاعيين هم ولاة محافظات في سابق مشوارهم مع المسؤولية، رصيدهم من حرفية السياسة ضئيل لذا سرعان ما يتساقطون في مطب التخبطات في الخطابات ويخرجون عن سياقات الكلام والسلوك المسؤولين في كل مرة وجدوا أنفسهم حيال ضرورة التبيين والتوضيح والمحاججة، وهذا ما يفرض سؤلاً جدلياً: لماذا هذا الإصرار على توظيف الكادر الإداري في مناصب المسؤولية السياسية العليا، في حين يترك السياسي للأعراس الموسمية حيث يتصاعد بخور وماخور الانتخاب عبر كامل المستويات المحلية والوطنية منها؟ هل لأن السياسي الجزائري غير مؤهل لأن يكون مسؤولاً قطاعياً حتى يتم اللجوء إلى توزير الإدارة لتزوير الإرادة؟
في الحقيقة ثمة شيء من هذا وذاك، فالاستناد على الإداري لملء منصب سياسي هو ضمان لعدم إفلات الإرادة الفوقية من زمام الحاكم الأول وحاشيته، ذلك لأن البعد المفهومي للمسئولية السياسية في البلاد متصل بشكل غير منفصل بالبعد الغنائمي وليس الاحترافي، وهو ما يفسر ظاهرة اختراق الدساتير وتغيير القوانين في كل مرة للاستدامة في الحكم والاستحواذ على ما يجود ويعود به الحكم الفوقي على أصحابه، كما أن الطبقة السياسية التي عجزت عن أن تحرر قواعد إدارة لعبة السياسة من يد السلطة بدوائرها الخفية منها والظاهرة، انكمشت على نفسها وقبلت أن ينتقل الصراع الذي كان مفترضاً أن تخوضه مع السلطة إلى داخلها، وبالتالي عجزت عن إفراز ساسة بوسعهم إزاحة أو مزاحمة الإداريين الذين لا قواعد نضالية ولا مسارات وتجارب سياسية خاضوها وصعدوا إلى أعالي المناصب المسؤولة في السياسة وباتوا يرنون لقيادة الوطن خلف سلطة رجال المال، وهذا كله يفسر سبب فشل التعددية السياسية التي فرضها ربيع الجزائر الذي اندلع ذات خريف من سنة 1988 رام الشباب من خلاله استعادة السلطة من يد محتكريها وأن تتعدد الأيادي والتي تقودها وتتحالف وتتداول، لكن لا تعددية ولا تداولية حدثت، ويستمر الكذب والدجل باسم الخصوصية الظرفية والتضحية بحقائق الميدان من أجل وطن يراد له العيش فوق الحقيقة.
كاتب جزائري
بشير عمري
هولاء الحكام رغم أنهم جنرالات اغبياء لم يخلوا تنمية و أنهم بدؤوا 1000 مليار دولار أي ما يعادل مشروع مارشال و أنهم انقلبو ا على المسلسل الديمقراطي و قتلو المدنيين قرب الثكنات ناهيك عن قتلهم لبوضياف فانهم هم من صنعوا شخصية المواطن الجزائري اللدي يصدق الوهم و العيش على الشعارأت لأن هدا النظام لا زال يتغنى بالمليون شهيد و ينكر أن التسليح أتاه من مصر و تونس و المغرب …إنه نظام يعيش على الأساطير و يوهم شعبه انه قوة إقليمية في حين أن القمل هجم على 12 ولاية من قلة النظافة و بطاطا تساوي 100 دينار….الفيلسوف الفرنسي الان صورال زار الجزائر و ارجوا ان تزوروا يوتيوب لتعرفه حكمه الواقعي بعد الزيارة هناك نوعين فقط من الأماكن نظيفة ..المسجد و الثكنات العسكرية و كأنك في كوريا الشمالية إبان الخمسينيات