الجزائر ـ «القدس العربي»: تعيش الجزائر منذ أسابيع على وقع تطورات ما أضحى يعرف بـ»كوكايين غيت»، التي بدأت كعملية حجز لشحنة كوكايين ضخمة قادمة من البرازيل، لتتحول بسرعة إلى فضيحة مدوية، وإلى قضية دولة، دون أن يعرف أحد مآل هذه القضية ـ الفضيحة، التي تبدو وكأنها قنبلة انشطارية لم ولن يسلم الكثيرون من شظاياها.
يمكن القول دون مبالغة أن قضية شحنة الكوكايين المقدرة بـ701 كيلوغرام تحولت عن قصد أو بدونه إلى قضية سياسية، ويمكن القول كذلك أن هذه القضية وتداعياتها أخذت شكل أزمة وصراعات داخل أجنحة النظام، أو قد تكون هي نتاج أزمة وصراعات وليست السبب فيه، وكأن الأمر يتعلق بخلل دوري داخل علبة سرعات النظام يستوجب التوقف وإصلاح العطب، بمعنى أن ما يحدث اليوم وبعيدا عن تفاصيله تكرار لما حدث من قبل، وكأن علبة سرعات النظام تتوقف كل عقد أو عقدين من الزمن، بعد أن تصطدم التروس ببعضها محدثة صوتا مزعجا ومصدرة رائحة كريهة، قبل أن يتم إصلاح العطب واستئناف السير!
عودة إلى الماضي
عند وفاة الرئيس هواري بومدين سنة 1978 دخلت البلاد في أزمة غير معلنة، فالزعيم مات ولا أحد كان يتوقع أن يموت بتلك السرعة، وانطلقت معركة الخلافة، فوزير الخارجية عبد العزيز بوتفليقة، الذي كان مقربا من الرئيس هواري بومدين كان يرى نفسه الأحق بالخلاقة، ومحمد صالح يحياوي رجل الحزب الواحد القوي كان يعتقد نفسه الوريث الطبيعي، واندلعت حرب في الكواليس، وتدخل جهاز الاستخبارات العسكرية القوي وقائده الراحل قاصدي مرباح، واختار أن يكون رئيس الجزائر شخصا آخر، فوقع الاختيار على الرئيس الشاذلي بن جديد باعتباره الأكبر سنا في أعلى رتبة عسكرية، وفرض الخيار على الجميع، بدليل أن مرباح لما زار يحياوي لإبلاغه بالقرار قال له : «أمامك اسمين تختار منهما، إما الشاذلي وإما بن جديد»! أما بوتفليقة فحاول أن يجد لنفسه مكانا تحت الشمس، ولما فشل في الحفاظ على منصبه كوزير للخارجية، اكتفى بمنصب وزير دون حقيبة، قبل أن ينتهي به الأمر مقالا، ومتهما بقضية فساد اضطر على إثرها على مغادرة البلاد.
حكم الرئيس الشاذلي بن جديد الجزائر بطريقة مختلفة، ورغم أنه كان يقدم نفسه أيضا على أنه وريث للرئيس بومدين، إلا أنه فعل كل شيء لمحو آثاره، ففتح أبواب الاستيراد، وشجع على الاستهلاك. وبعد حوالي تسع سنوات من حكم الشاذلي بدأت الصراعات والاضطرابات تدب في كيان الدولة، والتي كان من أول تداعياتها أو المؤشرات الدالة عليها ما عرف بقضية اللواء مصطفى بلوصيف، الذي سبق له أن تولى قيادة أركان الجيش، وهو أول ضابط في المؤسسة العسكرية يحصل على رتبة لواء، وأول عسكري يتهم بالفساد. عزل بلوصيف ووضع تحت الإقامة الجبرية في 1987 ثم أودع السجن وحكم عليه 20 عاما، لكن الرئيس السابق اليامين زروال أفرج عنه بعد ذلك بسنوات قليلة، وإلى غاية اليوم ما زالت قضية بلوصيف لغزا، بين من يتهمه أنه بالفساد جمع ثروة طائلة، وبين من يعتبره ضحية صراعات منظومة حكم جعلت منه كبش فداء لإضعاف الرئيس الشاذلي بن جديد.
انتفاضة فتعددية
لم تمر سوى بضعة أشهر على قضية بلوصيف، حتى انفجرت البلاد فيما عرف بأحداث 5 تشرين الأول/اكتوبر 1988، والتي كانت أول انتفاضة شعبية تعرفها البلاد، دون أن تكون هناك مقدمات، ودون مطالب محددة، وفي غياب قيادة أو وجوه لهذه الانتفاضة.
رغم مرور حوالي ثلاثين عاما على تلك الأحداث ما زال الاختلاف قائما بشأنها حتى اليوم، هل كانت عفوية أو مفتعلة؟ هل كانت تعبيرا عن رفض شعبي لاستمرار واقع ونظام وصل إلى نهاية صلاحية، أم أنها كانت نتاج صراع عصب داخل النظام، وأن جهة حاولت تحريك الشارع ضد جهة ثانية للتخلص منها؟
قرر الرئيس الشاذلي بن جديد بعد أن هدأت الأوضاع، وخلافا لما كان متوقعا الترشح إلى فترة رئاسية جديدة، فعدل الدستور، وفتح الباب أمام تعددية سياسية، وحاول التعايش مع الإسلاميين الذين بدؤوا يسيطرون على البلاد شيئا فشئيا، وأصبحت أعينهم أكبر من بطونهم كما يقول المثل الفرنسي، في وقت ضعفت فيه سلطة الدولة، أو هكذا أريد للناس أن تعتقد. وسارت البلاد على كف عفريت، وبدا أن الصدام قريب، فالسلطة كانت تتراجع وتعد العدة، والإسلاميون كانوا يتغولون يوما بعد آخر، ويعتقدون أن الرئاسة أضحت على مرمى حجر، واشتعلت أول شرارة في مسلسل النهاية عندما تدخلت قوات الأمن لفض الإضراب السياسي الذي أعلنته جبهة الانقاذ ربيع 1991، وتم سجن معظم قيادات الحزب الإسلامي، لكن السلطة أبقت على الانتخابات البرلمانية التي تم تأجيلها إلى نهاية السنة، وهنا أيضا تختلف الآراء بين من يعتقد أن السلطة أو جناحا فيها دفع بالأمور إلى التعفن للضرب بيد من حديد في الوقت المناسب، وبين من يقول إن السلطة وقعت في شر سوء تقديرها.
الصدمة كانت عنفية لما فاز إسلاميو جبهة الإنقاذ بالأغلبية الساحقة في الدور الأول، وارتفعت أصوات وخرجت مظاهرات تطالب بوقف المسار الانتخابي، ومنع الإسلاميين من وضع يدهم على البرلمان، وتسارعت الأمور، ودفع الرئيس الشاذلي بن جديد إلى الاستقالة، وقبل ذلك حل البرلمان، ودخلت البلاد فيما عرف بفترة فراغ دستوري، وانفتحت أبواب جهنم على مصراعيها.
ثنائي الشرق!
بعد أن «أستقيل» الرئيس الشاذلي بن جديد، كان لابد على الجيش الذي أحكم سيطرته على مقاليد الحكم أن يجد البديل، فلم يكن ممكنا أن يتولى الرئاسة (على الأقل ظاهريا) عسكري، وكان الأفضل البحث عن واجهة مدنية، والأمثل أن تتمع هذه الواجهة برصيد تاريخي وثوري، ووقع الاختيار على محمد بوضياف الشخصية الثورية النظيفة والمتمردة على نظام الحكم منذ الاستقلال، والذي فضل العيش في منفاه في المغرب، وبعد أن رفض العرض مرة أولى عاد وقبل لأسباب ما زالت غامضة، إلى الجزائر رئيسا معينا ليقود البلاد على رأس هيئة رئاسية خماسية، لكن فترة حكمه لم تدم سوى ستة أشهر، إذ اغتيل في مدينة عنابة يوم 29 حزيران/يونيو 1992، ليتم تعويضه بالرئيس علي كافي، الذي لم يبق في السلطة سوى عامين، عندما انتهت ولاية المجلس الأعلى للدولة.
انطلقت قيادة الجيش في رحلة للبحث عن بديل، ورغم أن المفاوضات كانت قد عرفت تقدما مع عبد العزيز بوتفليقة، إلا أنها فشلت في آخر لحظة، ولم تجد القيادة غير الجنرال اليامين زورال وزير الدفاع لتولي رئاسة الدولة، تحسبا لانتخابات رئاسية بعد عام ليصبح زروال رئيسا للجمهورية، وهو ما حدث فعلا.
واستقرت الأمور نسبيا، وأعاد انتخاب زروال بعض الأمل في الخروج من الأزمة الأمنية التي كانت تعصف بالبلاد، لكن بعد سنوات قليلة، وبالضبط سنة 1998 اندلعت حرب خفية داخل كواليس النظام ضد الجنرال محمد بتشين الرجل الثاني في رئاسة زروال، واشتعلت حرب إعلامية تحت عنوان محاربة الفساد، والتي شارك فيها الوزير الأسبق نور الدين بوكروح من خلال سلسلة مقالات هاجم فيها امبراطورية بتشين، وتعرض وزير العدل محمد آدمي كذلك إلى حملة دفعته إلى الاستقالة من منصبه، قبل أن يقرر الرئيس زروال نفسه فجأة في تشرين الأول/اكتوبر 1998 الاستقالة من منصبه، وأعلن عن انتخابات مبكرة في نيسان/ابريل 1999، وهي انتخابات فتحت الباب لوصول بوتفليقة إلى السلطة بعد أكثر عشرين سنة من «حرمانه» منها على حد اعتقاده.
رجوع إلى المستقبل
في الأيام الأخيرة من شهر أيار/مايو الماضي أذاع التلفزيون الحكومي خبر حجز شحنة ضخمة من الكوكايين تقدر بـ 701 كيلوغرام. الشحنة ضخمة بكل المقاييس، ومنذ اللحظات الأولى بدا أن القضية هذه مختلفة تماما عن عمليات الحجز العادية.
العملية قام بها الجيش باستخدام وسائل حربية على غير العادة، والباخرة التي تحمل شحنة المخدرات وسط شحنة لحوم كانت في عرض البحر تنتظر ترخيصا بالرسو في ميناء وهران (400 كيلومتر غرب العاصمة) قبل أن تعترضها سفينة حربية مدعمة بطائرة هليكوبتر، ويتم تفتيشها في عرض البحر قبل مرافقتها للميناء. ومنذ الساعات الأولى بدأت بعض الأنباء تتحدث عن أن هذه القضية تخفي وراءها صراع عصب، وأن استعراض القوة الذي قام به الجيش لم يكن مجانيا.
بسرعة ظهر إلى الواجهة اسم لم يكن معروفا لدى العامة، كمال شيخي، صاحب الشركة التي استوردت اللحوم، المتهم الرئيسي في القضية، وكمال معروف في أوساط المال والأعمال وحتى لدى السياسيين بكنية «البوشي» (الجزار) التي احتفظ بها، ولكن بعض الأصوات بدأت تقول ان «البوشي» ليس مجرد جزار عادي، وأنه رجل استطاع في ظرف قصير أن يتحول من بائع لحوم في السوق البلدي في القبة أعالي العاصمة، إلى صاحب واحدة من أكبر شركات استيراد اللحوم، وصاحب مشاريع عقارية فخمة في العاصمة وفي مدن أخرى، يتمتع بجاه ونفوذ وثروة طائلة.
ومع الأيام الأولى للتحقيقات بدأت تسريبات تصل إلى الصحافة، وأسالت التفاصيل الأولى لعاب الكثيرين لمعرفة المزيد عن «البوشي» وعلاقاته ونفوذه، فقبل الوصول إلى ملف الكوكايين تبين أن هناك فضائح متفرعة، فعند تفتيش مقر شركته تم العثور على تسجيلات كاميرات المراقبة الداخلية، وظهر أن «البوشي» كان يسجل ويوثق صوت وصورة كل من يدخل مكتبه، وكل من تلقى «هدية» أو رشوة.
وحسب ما نشرته الصحافة فإن أربعة قضاة تم توقيفهم عن العمل واستدعاؤهم إلى التحقيق، وأن هناك حوالي 30 قاضيا معنيا بالتحقيق. المتهم الرئيسي، حسب التسريبات، كان يمنح رشاوى لبعض القضاة لمساعدته في ملفات القضايا المتعلقة بنشاطه العقاري، ومنحه تسهيلات للحصول على عقارات معروضة في المزاد العلني، والغريب هنا هو أن «البوشي» لم يكن دائما يمنح أموالا أو سفريات كرشاوى، بل إنه كان يجلب للقضاة ترقيات ويحصل لهم على مناصب!
ومن بين الأسماء التي قالت الصحافة الجزائرية إنها استدعيت إلى التحقيق، وأنها أودعت السجن المؤقت، نجل رئيس الوزراء السابق عبد المجيد تبون، وكذا السائق الشخصي للواء عبد الغني هامل مدير الأمن العام، قبل أن تسارع مديرية الأمن العام إلى تكذيب الخبر، والتأكيد على أن الأمر يتعلق بسائق في حظيرة العتاد التابعة إلى المديرية، وليس السائق الشخصي للواء هامل.
وزير العدل طيب، لوح عن صمته ليقول إن كل من تورط سيحاسب، مهما كان منصبه أو درجة مسؤوليته، ودون أن يخوض في تفاصيل كثيرة بخصوص قضية الكوكايين، أكد أن هناك عدة قضايا تفرعت عن القضية الأصلية، خاصة ما يتعلق بالنشاط العقاري للمتهم كمال شيخي.
بعد تصريح وزير العدل بأقل من 24 ساعة خرج اللواء عبد الغني هامل بتصريح غريب جدا، إذ اعتبر أن التحقيق المبدئي شهد خروقات وتجاوزات، مشددا على أن لديه ملفات سيسلمها إلى القضاء، ولكن الجملة التي كان لها وقع أكبر من القنبلة هي قوله: «الذي يريد أن يحارب الفساد يجب أن يكون نظيفا»!! وكررها مرتين، وكان باديا على ملامحه الاضطراب، قبل أن يضيف بصيغة الجمع: «ما زلنا واقفين ونقاوم الفساد»!!
سيل من الأسئلة أثارها هذا التصريح من كان يقصد هامل؟ ومن كان يهدد بالملفات الموجودة في حوزته؟ ولم يتأخر الرد كثيرا، إذ صدر قرار بإقالة اللواء هامل بعد ساعات وقبل غروب شمس ذلك اليوم، وبقيت العديد من الأسئلة مطروحة.
هناك شبه اتفاق أن هامل كان يوجه انتقاداته إلى الدرك الذي قام بالتحقيق المبدئي في القضية، وأنه كان يوجه اتهاماته المشفرة إلى الفريق قايد صالح قائد أركان الجيش، الذي أكد أنه لا خوف على مستقبل البلاد، ولكن لا أحد يعرف تفاصيل ما جرى، فهل الشرطي الأول في البلاد متورط فعلا في فضيحة «البوشي»، أم أن أناسا محسوبين عليه هم من تورطوا؟ أم أن هناك من أراد أن يجعل منه كبش فداء؟ وبين التحاليل المختلفة والقراءات المتضاربة غابت الحقيقة، خاصة وأن النظام أضحى أكثر انغلاقا على نفسه من أي وقت مضى، وعندما ينفتح تصدر عنه حركات عنيفة دون مقدمات ودون تفسيرات كالتي وقعت عند إقالة اللواء هامل.
لا أحد في إمكانه التنبؤ إن كان اصطدام التروس ببعضها هذه المرة، ينبئ بتحولات وتغييرات عميقة داخل النظام، أم أنه عطب تم إصلاحه على عجل. النظام يبدو أنه يسير رأسا نحو ولاية خامسة لبوتفليقة، فبصرف النظر عن طموح الرئاسة مدى الحياة، فإن ساعة الخلافة لم تحن بعد، والخوض فيها قد يؤدي إلى انفجار مزيد من الأزمات والصراعات.
كمال زايت
سبحان الله…فاز الإسلاميين و تظاهر الليبيراليين اامزورين طالبين وقف المسار الديمقراطي..مثل تفويض السيسي..و تدخل الجيش و انتصر صفي اول معركة ضد الشعب و تصفية الحاضنة الشعبية جسديا بدعوى الإرهاب و سلط الله عليهم ديكتاتورية عسكرية… .نرى انعكاساتها في جميع الميادين….اولاءك من انقلبوا على المسار يطالبون الآن العسكر بالنزاهة….با للسداجة من يملك السلاح و النار لا يعرف لغة الانتخابات….و هدا اختيار من طلب وقف المسار.. و الأيام بيننا