«الجزيرة» لم تعد «علبة كبريت»!

حجم الخط
24

عندما زار الرئيس المصري حسني مبارك قناة «الجزيرة» في الدوحة، نظر إلى المبنى، الذي لم يتعد الطابق الواحد، ثم التفت إلى وزير إعلامه صفوت الشريف، وهو في دهشة، وبدا كما لو كان يحدث نفسه بصوت مسموع: كل هذا يخرج من علبة الكبريت هذه؟!
بدا مبارك مستدعياً إلى ذهنه مبنى التلفزيون المصري «ماسبيرو»، وهو مبنى عملاق متعدد الطوابق بني على مساحة (12) ألف متر، ومع ذلك فإن النجاح المبهر يخرج من علبة الكبريت، وهي لحظة كانت فارقة في موقف الوزير المصري، الذي كان ينظر لنفسه على أنه فوق الجدل وأكبر من الخلاف السياسي، حول أي موضوع، فلم يكن يدخل طرفاً في الهجوم على «الجزيرة» قبل هذا اليوم، وعندما كانت تطالبه بعض الأقلام بأن يحذو حذو بعض الدول العربية بوقف مراسل «الجزيرة» عن العمل، كان يرد أن «الجزيرة» ليس لها مراسل من القاهرة ليلغي ترخيصه، أو مكتباً ليغلقه، ولم يكن هذا صحيحاً، لكنه كان مؤمناً بفكرة الوجود العرفي وليس القانوني للمحطة، وظل الأمر على هذا الحال لسنوات، ولعل طريقته هذه أنتجت له هيبة بمرور السنوات عليه في منصبه الوزاري، فلم يقترب منه سوى قلمين على مدى ثلاثين عاماً بالنقد، الأول كان قلم الدكتور حلمي مراد، عندما جرى اختياره وزيراً للإعلام وتساءل في مقال وحيد كيف لواحد كان متهماً في قضية فساد المخابرات، أن يصبح وزيراً؟ والثاني كان قلمي، وكان هجوماً متواصلاً، مع إدراكي بأن لدغته والقبر!
بعد هذه الزيارة اعتبر صفوت الشريف أن كلام مبارك يمثل إدانة له، فكان يخصص البرامج في تلفزيونه للهجوم على «الجزيرة»، التي سحبت الريادة من القاهرة، مع أنها لا تبث من ناطحة سحاب مثل مبنى «ماسبيرو»، وإنما من علبة كبريت!
لم يحضر مبارك ووزيره احتفال القناة في الأول من نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري بالذكرى العشرين لإطلاق إرسالها، ليرى كيف أنها لم تعد مجرد علبة كبريت، فقد صارت من حيث الكيان، مؤسسة، ومن حيث تعدد قنواتها، شبكة، ومن حيث المبنى قصرا مشيدا، فقد شهد احتفال هذا العام الخروج من «علبة الكبريت»، إلى مبنى جديد كان قد بدأ تشييده منذ ثلاث سنوات. كما شهد افتتاح الاستوديوهات الجديدة للقناة، في عملية الانتقال الثالث، فقد انتقلت من قبل من استوديو إلى استوديو، ولكن داخل علبة الكبريت أيضاً، والاستوديو الأول هو الذي كانت تبث منه «الجزيرة مباشر مصر»، والآن هو استوديو بث «الجزيرة مباشر».
وبعد هذا الانتقال لم تعد تبث من استوديو واحد، فقد صار لها أكثر من استوديو، وكان يمكن لمبارك لو شاهدها، أن يلتمس لوزيره العذر، وإن كان التلفزيون المصري لا تنقصه الاستوديوهات، بل لا ينقصه المحترفون في المجالات كلها، وإن كانت تنقصه الإرادة السياسية، ويحد من نجاحه نظرية الاختيار للمواقع العليا، فيتم الاحتفاء بالفشل، ويجري تصعيد أهل الثقة لا أهل الخبرة، لاحظ أن صفاء حجازي محدودة الإمكانيات هي رئيسة اتحاد الإذاعة والتلفزيون الآن!

سمو الأمير وسمو المواطن

هناك محاولات كثيرة لمنافسة القناة، انتهت إلى رماد تذروه الرياح، ومن أول «العربية»، إلى «الحرة»، إلى «سكاى نيوز العربية»، وفي مصر كانت تجربة قناة «النيل للأخبار»، ثم محاولة قناة «الحياة»، التي وئدت في مهدها بالتذكير بأن القانون المصري لا يعطي القنوات الخاصة ترخيصا بقنوات سياسية أو إخبارية، إذ كانت رؤية صفوت الشريف تقوم على أن نشرة الأخبار عمل من أعمال السيادة!
لقد مر عشرون عاما على افتتاح «الجزيرة»، التي كانت بمثابة صدمة، لم يكن للأمعاء العربية أن تهضمها بسهولة، فأي حكم هذا، الذي يخرج بقناة تلفزيونية لا تهتم بأخبار سموه، وإنما تنطلق لتخاطب سمو المواطن، إلا إذا كنا حيال مؤامرة، ولم نكن نعلم أن القناة قرار لحاكم تأخر ليقدم الشعوب، وكانت عنواناً لإعلام جديد، تأخر فيه سمو الأمير ليتقدم سمو المواطن. وفي ثورات الربيع العربي راهن الإعلام العربي على الأنظمة الشمولية، وانحازت هي للمواطن، وكانت هذه مرحلة اكتمال المهمة ووضوح الرؤية.
الأمير لم يعد هو «أمير البلاد»، بل صار «الأمير الوالد»، وعندما جاء للمحطة ليشارك في احتفالها بمرور عشرين عاماً على انطلاقها، كان يحتفل بمولوده، الذي أدخله التاريخ، في وقت خرج منه حكام لدول كبرى، أزمات كثيرة سببتها لهم «الجزيرة»، كان في غنى عنها، لكنه لم يتراجع عنها، ولم يواريها التراب بحثاً عن الهدوء، وكان يمثل الحماية لها، فهي مشروع عمره، وعندما دعي بصوت جمال ريان الجهوري ليلقي خطابه، كان تصفيقا حاداً ينطلق من حيث يحتشد المحتفلون إلى الفضاء الفسيح، لم يكن تصفيقا بروتوكوليا للأمير الوالد، بقدر ما كان تقديراً لصاحب المشروع.

أيقونات «الجزيرة»

عشرون عاماً بالتمام والكمال، مرت على الإطلاق الأول والثاني، كان النجم فيهما هو جمال ريان، كان في الظهور الأول يملأ الأمل عينيه، وفي الثاني كانت قطرات الدمع تتجمع في مقلتيه توشك أن تغادرهما لولا انتهاء الافتتاح، وفي الواقع أنه كان نجم الافتتاح الأول، وقد قدم الحفل بعاطفته الجياشة، وليس بمهنيته المجردة تشاركه المبهرة أبدا خديجة بن قنة. يبدو جمال ريان شخصاً حاداً إن اقتصرت علاقتك به على الشاشة، لكنه على الخلاف من ذلك من قريب، هل يصدق المشاهد أن جميل عازر، إنساناً طيباً في الواقع، يضحك ويبتسم!
إنها أيقونات القناة، جمال، وجميل، ومحمد كريشان، وخديجة بن قنة، وأحمد منصور، وفيروز زياني، وإيمان عياد، وتوفيق طه، وفيصل القاسم طبعا.
والذين جاءوا من بعدهم، سلمى الجمل، وغادة عويس، وحسن جمول، ومريم بعالية، ورولا إبراهيم، ومحمود مراد، وزين العابدين توفيق، وحسينة أوشان، وصابرين الحاج فرج، فضلا عن فتى الشاشة الأسمر عثمان آي فرح.
وقد جاءت أجيال جديدة، ببرامج جديدة، مع هذا الشكل الجديد، ومن سباق الأخبار، إلى المقابلة، إلى المسافة صفر، وللقصة بقية، وكان يمكن أن نسأل عن معنى المسافة صفر، لولا أن الخبيرة العسكرية الكبيرة «سامية زين العابدين»، أرملة فقيد الجيش المصري العميد عادل رجائي، في ظهورها التلفزيوني أكدت أن زوجها قتل من المسافة صفر، وإنها كمحررة وحاصلة على دورات عسكرية تعرف معنى المسافة صفر!
والتغيير المهم من وجهة نظري هو في البرنامج الصباحي، وكنت قد كتبت كثيرا في هذه الزاوية أن «الجزيرة» ينقصها هذا البرامج الذي يهتم بالأخبار الاجتماعية والمنوعات.
خسرنا برنامج «في العمق»، ولم نخسر مقدمه علي الظفيري، الذي أمتعنا في أولى حلقات برنامجه الجديد «المقابلة» بحواره مع الرئيس التركي رجب أردوغان، وبالجانب الإنساني في حياته. وقد أُوقف «في العمق» فقد رفع عنا الحرج للاعتراف بأنه البرنامج الوحيد الذي تمنيت المشاركة فيه، وقد دعيت لذلك مرة واحدة، وأسفت لأني كنت قد سافرت عند الاتصال بي لاسطنبول.
«في العمق» برنامج من الوزن الثقيل، يناقش موضوعاته بجدية بعيداً عن الصراع والحدة، وهو مثل برنامج «من واشنطن» في رصانته، والذي استطاع عبد الرحيم فقراء أن يحافظ على نجاحه كل هذه السنوات، وإذ كنا قد خشينا من فشله بعد أن تركه مقدمه الأول حافظ المرازي، لكن فقراء امتلك القدرة على المحافظة على هذا النجاح.
على ذكر حافظ المرازي، فإن كثيرين خسرتهم القناة وخسروها، مثل المرازي، وغسان بن جدو، والليلتين: الشايب والشيخلي، ويسري فودة، وسامي حداد، ولم تخسر طبعاً لونة الشبل!

البرامج الجديدة

في برنامجه «بلا حدود»، من داخل الاستوديوهات الجديدة، طرح أحمد منصور على «ياسر أبو هلالة» مدير الأخبار سؤالاً حول طبيعة البرامج الجديدة، مشيراً إلى أن هناك من يقولون إنها قريبة من البرامج القديمة، التي اشتهرت بها في فترة من الفترات، حتى برامج التحقيقات، هي مثل برامج يسري فودة «سري للغاية»، و«نقطة ساخنة»، لأسعد طه، وبرنامج حواري كان يقدمه «سامي كليب»، في فترة ما قبل إقامته في الدوحة!
لا أحد يخترع العجلة، وقد يختلف الشكل، وطريقة التناول، لكن تظل شخصية المذيع هي ما تميز هذا البرنامج عن ذاك، فهل في الأجيال الجديدة من يمكن أن يتفوق بأدائه على «فودة»، و«سامي»، والعبقري أسعد طه؟! وهل يمكن لـ «ٍسلام هنداوي» صاحبة «المسافة صفر»، أن تنافس صاحب «نقطة ساخنة»؟ أم أن الاعتماد سيكون على الأجيال الجديدة من المشاهدين، التي لم تشاهد جمال ريان وهو يطل على المشاهد قبل عشرين عاماً؟!
تقييم البرامج الجديدة أمر سابق لأوانه، لكن يظل مرور عشرين عاماً على إنشاء قناة انحازت للمواطن، وانتصرت للإنسان، وكانت بجانب الربيع العربي، أمرا يستحق الاحتفاء، حتى وإن كان التطوير ألغى برامج مثل «حديث الثورة»، و«الواقع العربي»، فليس بعد إلغاء «المشهد المصري»، ما يستحق الرثاء.
من مقعد المشاهد، نحيي «الجزيرة» في مرحلة ما بعد «علبة الكبريت».

صحافي من مصر

«الجزيرة» لم تعد «علبة كبريت»!

سليم عزوز :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    نعم الجزيرة علبة كبريت أشعلت العالم بنورها فأضحى للعرب مكان رفيع بين إعلام الأمم
    شكراً للجزيرة ومن ساهم فيها فلقد رفعت رؤوسنا بالغرب – وها هي الآن تجري في كابلات الغرب لأن الغربيين قد وثقوا بأخبارها
    ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول عبد الله:

    لا أوافقك الرأي أن الجزيرة قد خسرت بن جدو.

  3. يقول Ateya gaza:

    الجزيرة ليست قناة فضائية الجزيرة عقيدة وفكر

  4. يقول ياسير كزار المغرب:

    أظن أن “الجزيرة ” لم تخسر كذلك غسان بن جدو.

  5. يقول مسلم:

    نجاح الجزيره لسبب واحد ليس لخبرة مقدمي البرامج وكفائتهم و انما تشعر ان المواطن هو من يقدم النشره و ليست مطبوخه و منقحه بغرفة المخابرات و جل كلامها استقبل السيد الرئيس و ووصولا برحب السيد الغفير و شتان بين مذيع يفرح بفوز اردوغان و استمرار نهضة نصيرالمواطن على حساب المسؤول و مذيعة لقناة منافسه الغضب وعلامات الشيخوخه تملا وجهها …كيف فاز ٥٢ عالحفه..لانهم عودونا على فوز ساحق للرئيس ابو كرسي ملتصق بغراء ..٩٩ فاصله ٩٩

  6. يقول جلال العربي:

    الجزيرة بقعة ضوء واحدة في هذا العالم العربي مظلم والإعلام بصفة الخاصة الجزيرة الشعوب والحرية أفضل ما أنتجه العرب في 20 سنة الماضية جزى الله خير كل من شارك وقدم وابدأ وأخرج واجه الضغوطات إخراج هذه قناة فريدة من نوعها

  7. يقول احمد -الجزائر:

    عقبال 2000 عام,دمتم لنا و لجميع الامة العربية و الاسلامية مشكاة للحق و نصرة المظلومين في كل بقاع المعمورة.
    بارك الله فيكم .

  8. يقول مراقب.المانيا:

    البعض سيسمح لي حتما ان أعطي رايي بحرية ، قناة الجزيرة الموقرة ،كانت وما زالت ناجحة ، وتعطي حتما الأخبار الصادقة ،،،لكن. لكن هذه الأخبار تعطى بطريقة مميزة و بعمل صحافي غريب نوع ما ، على طريقة برنامج الاتجاه المعاكس ، فعند المشاهد اختيار واحد لا غير ، على طريقة ان اللبيب من الاشارة يفهم، فتكون النتيجة بما معناه هذا( A).الجيد وهذا (B) السيء ،انا اعتقد ان هذه القناة تأثرت كثيرا بالتقنية الغربية وخاصة الأميركية في إيصال المعلومة للمشاهد ،والعلم عند الله،

  9. يقول السعيد بن أحمد / الجزائر:

    يختلف الكثيرون حول رأيهم وموقفهم من الجزيرة الفضائية لاعتبارات تخصهم ، ولكن تبقى الجزيرة قناة إعلامية ناجحة في الوطن العربي والعالم . البعض من منتقدي الجزيرة ومعارضي توجهها يحاولون ” شيطنة الجزيرة ” بسبب الحجم الواسع من الحريات الذي تتيحه للصحفيين العاملين بها ولضيوفها المتحاورين معها ومشاهديها المتابعين لها بسبب الخوف والرعب من الحرية ، فإذا كانت الحرية شيطان فمرحباً به في عقولنا وبيوتنا .
    الجزيرة هي قطرة الماء التي بعثت الحياة في الكيان العربي المحطم بالانكسارات والإخفاقات ..
    تعلمنا منها حرية التعبير ، وإبداء الرأي والرأي الآخر ..
    شاهدنا فيها نقل الصورة والحدث المباشر دون مقص الرقيب ..
    هنيئاً للجزيرة ومشاهديها عيد ميلادها العشرون وشكراً على كل ما قدمته والمزيد من الحرية والنجاح والتقدم .

  10. يقول خليل ابورزق:

    الاعلام عموما لخدمة مموله او بهدف الربح في القطاع الخاص. و الفرق هو المهنية و مقدار المصداقية و احترام عقل المتلقي.
    و هناك فرق بين ان يكون هدف الاعلام الرسمي هو التطبيل للنظام و تمجيده مهما كان او عرض وجهة نظر النظام. فاذا كان التطبيل هو الهدف فمن الطبيعي ان يسود فيه الطبالون واذا كان النظام واثقا من نفسه فمن الطبيعي ان يجتذب النظام افضل الكفاءات ليعرض بضاعته الجيدة.

1 2 3

إشترك في قائمتنا البريدية