ترى العديد من الدراسات في حقل ما بعد الكولونيالية، أن عقل عصر التنوير كان يقوم بالأساس على «دفع الآخر إلى الوراء في الزمن» كمبدأ في تصور كونية الزمن والتقدم الغربيين، ولذلك فإن الذات المركزية الغربية لكي تقيم حدودها كذات إنسانية ومتحضرة وعالمية، نقشت تاريخ الآخرين بوصفهم متخلفين، تقليديين، وبذلك وضعت ثقافات الأنواع المختلفة في ترتيب غائي وتسلسل زمني للتاريخ.
ومن هنا، كان بناء هذه الزمانية المعيارية قد أمن أرضية لإخفاء العنف الذي يمارس من خلال احتلال البلدان الأصلية، بوصفه نشرا لمنافع الحداثة على الثقافات اللامتحضرة. ولذلك يرى أبناء هذا الحقل (ما بعد الكولونيالي)، أن مشروع عصر التنوير لا يحتاج إلى أن يفهم كنتاج جانبي لتقاطع النزعة الإنسانية الليبرالية مع ضرورات الامبراطورية فقط، بل أيضا كسيرورة تزمين عززت سردية بعينها للعالم وكرست الغرب بوصفه المركز.
وباتباع هذه الرؤية حيال جغرافية العالم الإسلامي، نجد أن الخطاب الكولونيالي أخذ بتمثيل مجتمعات هذا الفضاء عبر العلاقة اللامتكافئة بين الغرب واللاغرب بوصفها مسافة زمنية، الأمر الذي فسره الأنثربولوجي الباكستاني طلال أسد باعتبارها مباينة تسعى لإظهار غياب «الحرية» و»التقدم» والإنسانية في المجتمعات الإسلامية، عبر القول إن سبب هذا الغياب يكمن في الجوهر الديني للإسلام. فانعدام الحرية يرد إلى النمط الاستبدادي الآسيوي للإنتاج، واللاعقلانية يتم اكتشافها في التراث، والبربرية يستدل عليها في شتى الممارسات الثقافية والدينية. هذه «الاكتشافات» كلها كانت تعني ضمنا أن الشرق البربري يجب تدجينه وتحضيره، عبر نشر الإجراءات العقلانية لمؤسسات القانون والنظام الغربية وإعادة تنظيم تفاصيل الثقافات الشرقية وفقا لمبادئ الغرب «الحديث» و»المتقدم» و»المتحضر».
النظام المنظاري للكولونيالية والذات النسوية المستعمرة
في السياق نفسه ترى الباحثة التركية ميديا أوغلو- أستاذة علم الاجتماع في جامعة أنقرة- في كتابها «استيهامات استعمارية: نحو قراءة نسوية للاستشراق» دار الرحبة، أنه ضمن هذه الصورة المتجهمة للشرق، كان وضع المرأة التي تحجب خلف حجابها، يبدو أكثر رهبة للنظر الغربي، لذلك تطلب وضعها عملا أكثر جدية بكثير، لأن المسلمات الأكثر جوهرية للثقافة يفترض أنها منقوشة على المرأة، فهي تعتبر تجسيدا ملموسا للتقاليد الإسلامية الاضطهادية التي كان الشرق في حاجة ملحة إلى كسرها، لكي يبلغ مستوى التطور الذي حققه الغرب منذ زمن طويل.
ومن هنا فقد كان الربط الكنائي بين الشرق ونسائه، أو بشكل أكثر تحديدا، تمثيل المرأة بوصفها تراثا وبوصفها جوهر الشرق، قد جعل إزالة الحجاب بمثابة «البارومتر للتغير الاجتماعي في العالم المسلم»، لأن سفور المرأة الشرقية ومن ثم تحديثها إنما كانا يرمزان إلى تحول الشرق نفسه نحو التقدم. أما عن الأبعاد المعرفية/السلطوية لهذه الرغبة والأحلام الكولونيالية حيال السفور، فإن الباحثة تفسرها من زاوية أن السلطة التأديبية الحديثة قد نسجت معا المعرفة والرؤية/الابصار وتقنيات التحكم العقلي والهيمنة الإنتاجية. وبعبارة أخرى، وكما بين فوكو في مناقشته للسجن الكلي الانكشاف، فإن عصر الحداثة/ التنوير كان يتسم بالرغبة في السيطرة والتسيد الكليين (على الجسد) القائمين على المرئية الكاملة. في ضوء هذا التبصر الفوكوي، فإن العقلانية السياسية التي شكلت المنطق الكامن وراء اهتمام المشروع الكولونيالي بسفور النساء، يمكن فهمها على النحو الأفضل إذا حددنا موقعها ضمن سياق مبادئ السلطة التأديبية الحديثة، التي تعنى بالتشكيل الفاعل للعقول والأجساد الفردية، القائم على المعرفة المكتسبة عن طريق جعلها مرئية بشكل كامل.
كما أن كشف الحقيقة ينطوي على سعي ايروتيكي وراء العري، لأن العري ينطوي على فعل كشف وتعرية للجسد، الذي يعد الموضوع المطلق للمعرفة. وفي تراث يحكمه الاقتصاد البطريركي، فإن الجسد الذي يحتاج إلى أن يكون سافرا هو دوما جسد المرأة ويكون النظر ذكوريا. لهذا السبب فإن الرغبة الإمبراطورية في تحرير الجسد هي جزء من منظومة قائمة على النظر المؤدب والممعير للسلطة التأديبية الكولونيالية الحديثة، وجعل جسد النساء موضوعا قابلا للرصد ومرئيا، ومن ثم قابلا للتلاعب به. من هنا تعتقد اوغلو أنه من خلال هذا الفهم للجسد بوصفه مادة نقش للمعايير والممارسات والقيم الاجتماعية، يمكن توسيع هذه الرؤية لمناقشة التحجب وتحديد موقع أجساد النساء المسلمات ضمن التمثيلات الغربية، إذ يمكن القول إن ممارسة السيطرة الكولونيالية المشمولة في السفور كانت بمثابة طريقة للاستيلاء على الأجساد المسلمة. هذا الاستيلاء كان يتطلب المعرفة واستخلاص المعلومات حولها، لكن هذه المعرفة كانت تتطلب جعلها (أي الأجساد) مرئية (سافرة في الشرق) في المقام الأول، لأن المرئية في ايديولوجيا التنوير، تعتبر الشرط المسبق لإمكانية المعرفة الحقيقية، ولأن أجساد النساء المسلمات لا يمكن أن تكون قابلة لإعادة التشفير وإعادة التعريف وإعادة الصياغة وفقا للشيفرات الغربية الجديدة، إلا عن طريق جعلها مرئية، الأمر الذي يعني اكتشاف الشرق.
النزعة القومية كاستشراق (تركيا، الجزائر)
من جانب آخر، ترى المؤلفة أن المخيال الكولونيالي السابق استطاع وما يزال يعيد انتاج نفسه في دول ما بعد الكولونيالية داخل العالم الإسلامي، ذلك أن المبادئ التي تبناها الخطاب القومي/الإسلامي التحرري كانت تقوم على فكرة انفصال حقل الثقافة إلى مجالين: مادي وروحي. فالمجال المادي يفسر بوصفه الموقع الذي يحتاج المشروع القومي إلى عقلنته ومن ثم إصلاح آثار الثقافة التقليدية، لأنه إذا كان يريد أن يهزم الكولونيالية فيجب عليه أن يمتلك المعرفة بالتقنيات المتفوقة للغرب. ما كان يعني أن اندماج المبادئ الغربية للعقلانية يتطلب أن يكون محدودا بالعالم المادي، فالجوهر الروحي للثقافة يجب أن يبقى غير ملوث من قبل الغرب، وإلا فإن السمات التي تجعل الشرق متفوقا ومتميزا عن الغرب سوف تختفي وستكون الهوية الذاتية للأمة مهددة.
هذه الخصيصة المتناقضة تحديدا للآيديولوجية القومية، كما بين عالم الاجتماع بارثا تشاترجي في دراسته عن العلاقة بين الخطابين القومي والكولونيالي في الهند، هي التي يمكن أن تفسر كيف أن الفكر القومي بقي يعيش في التصورات الجوهرانية والنمطية القائمة على التمييز بين «الشرق» و»الغرب» نفسها، التي خلقتها الذات الكولونيالية. ولعل ما يؤكد هذه الحالة هو أن جسد المرأة ولباسها وسلوكها وطعامها وتعليمها، دورها في البيت وخارجه، أصبح بمثابة الأرض التي بنى عليها الخطاب القومي/الإسلامي هويته التحررية. ما ساهم في ظهور تعريف جديد للمرأة لم يكن متباينا مع المجتمع الغربي فحسب، بل متميزا عن التراث البطريركي المحلي أيضا، ولذلك ترى الكاتبة أن هذا الإطار الجديد حول حالة الاشتقاق القومي للكولونيالية، قد يقدم لنا مدخلا جديدا لمناقشة الرؤية القومية للحجاب عبر مشروعين قوميين مختلفين (التركي والجزائري).
فمع تأسيس جمهورية تركيا في نهاية الحرب العالمية الاولى، اشتد مدى الانهماك القائم قبلا بالتأورب واتسع، فأصبح التحديث العلماني هو الايديولوجية الرسمية. وبالتلازم معه كان التحضر يقاس بحسب درجة التغريب المنجز في قطاعات مختلفة من الحياة الاجتماعية.
في هذا السياق، نجد أن الإسلام قام بوظيفته بوصفه الآخر للذات القومية الجديدة، التي أخذت تعيد توطين جسدها عبر تضادات المخيال الكولونيالي وإعادة إنتاج الفصل داخل العالم الثالث: المتخلف (العثماني /الإسلامي) والمتحضر ( الغربي)، المحجب والسافر، القومي والعالمي، الشرق والغرب، ولذلك نجد أن لباس النساء وقبعات الرجال، من منظور اصلاحات كمال، كانا بمثابة المؤشرين الأكثر وضوحا وظهورا على الولاء للغرب «المتحضر» أو للشرق «البربري».
لكن مع ذلك وبرأي الكاتبة- فإن مصطفى كمال بقي في مساعيه لتحديث الأمة التركية، حذرا أبعد مما ينبغي. ففي مسعى منه لتخفيف الصدمة، لم يتجاهل التأكيد على هوية مستقلة للأمة التركية عن طريق استعادة الأصيل والتقليدي. هذه السمة المزدوجة الملتبسة شكلت مثالا على الصفة التناقضية للفكر القومي التي أشار اليها تشاترجي. ففي حين يتوجب على النساء أن يتخلين عن الحجاب في سبيل تحقيق هوية حديثة، ينبغي أن يكن حريصات على عدم المبالغة بذلك عن طريق تقليد النساء الغربيات في كل مظهر وهو ما عبر عنه اتاتورك بالقول «أولئك اللواتي يتطرفن في شكل اللباس والتقليد الحرفي للنساء الأوروبيات ينبغي أن يعرفن أن لكل أمة تقاليدها وعاداتها الخاصة بها، وخصائصها القومية… ومن هنا فإن روح الأمة يجب عدم تجاهلها.
أما في الحالة الجزائرية، فنجد أن الفرنسيين قد فسروا الإسلام بوصفه جوهر المجتمع الجزائري. وهو ما عبروا عنه من خلال إطلاق اسم محمد على جميع الرجال واسم فاطمة (بنت النبي) على جميع النساء. ضمن هذا العالم المانوي (الشرق الإسلامي المتخلف/ الغرب التنويري)، صارت النساء عند كل من الفرنسيين والجزائريين يرمزن إلى تجسيد جوهر الجسد الاجتماعي الجزائري. لهذا خيض الصراع على هذا الجوهر الأصيل فوق أجساد النساء، وغدا الحجاب رمزا فعالا في هذه المعركة. ولعل الخصائص التعريفية لهذا الانقسام يمكن تتبعها في الإصلاحات الدينية للعلماء بقيادة ابن باديس الذي أيد تحسين وضع النساء ودافع عن تعليمهن، على أن يجري هذا التعليم في المدارس الدينية حصرا. لقد افترض أن هذا من شأنه أن يساعدهن في أن يصبحن الحراس الأخلاقيين لأسرهن، عبر استدعاء فعل التحجب: فمن شأن الحجاب أن يكفل الحماية للنساء من النظرات الشهوانية للأجانب وكذلك من اغراءات الأزياء الفرنسية، وبذلك جرى تعريف موقع ذات الشعب الجزائري بأنه موقع يجري بناؤه على أساس التقسيم الواضح للفضاء السياسي إلى قطبين متضادين. من هنا كان نشوء التضاد بين الموالي والخائن، المؤمن والكافر، الأجنبي والأصلاني، هو ذات الخطاب الذي خلقه المخيال الاستشراقي/ الكولونيالي حيال الجزائر، ما كان يعني أن الخطاب القومي/الإسلامي للعلماء أعاد إنتاج البنية الإبستمولوجية للهيمنة الاستشراقية، من خلال الإبقاء على التفريق بين الغرب والشرق.
بعد قراءة كلتا التجربتين تتوصل الباحثة إلى نتجية مفادها، أن الخطاب القومي بصبغتيه العلمانية والإسلامية كان بمثابة «استشراق معكوس»، ونتاج للهمينة الكولونيالية/ الاستشراقية، وهو ما بدا بشكل واضح في مسألة الحجاب الذي لم يعد مجرد استمرار لعادات دينية أو تقاليد محلية قديمة، بل بات نتاجا غربيا أو خلقا من «تراثية استعمارية» للمرأة العالمثالثية المأسورة بين التراث والتحديث.
كاتب وباحث سوري
محمد تركي الربيعو
تجدر الاشارة الى ان الناقد السوري صبحي حديدي كتب عن كتاب ميديا اوغلو قبل عشر سنوات ربما .. في هذه الصحيفة بالذات وبمقالة عميقة حول مفهوم الحجاب ولم يكن الكتاب مترجما الى اللغة الانجليزية يومها . . وربما كان مستحيا من الكاتب محمد الربيعو لو نبه القراء الى هذا السبق من منطلق انصاف عمل الناقد حديدي .. وله الشكر بكل الاحوال
لا أعتقد أن على كل كاتب او ناقد او باحث أن يشير لكل من كتب عن كتاب ما,قبله أو بعده !!! مقالة ممتازة
يبقى الحجاب المشكل الاكبر والازلي بين التقد و التخلف ، مازال يمثل للغرب الشبح الذي يدل على ترسخ الاسلام و مازال يدل عند المسليمين على العفة رغم انه في الجقيقة فقد الكثير من معانيه فلا المراة المحجبة بالضرورة عفيفة ولا المراة الغير المحجبة بالضرورة سافرة ، هناك شق اخر ربما نرى ان الفتيات في الثناويات والجامعات لا يرتديم الحجاب لكن مجرد ان تتزوج اغلبهن يرتديينه تحت رغبة الزوج .الزوج الذي يمثل الرجل الذي لا يبالي بعري المراة بل يستمتع بمضياقتها او التمع فيما يظهر من جسدها لكنه يصر ان ترتدي زوجته او اخته الحجاب .يبقى انه الحجاب لا يقيس تخلف و تقدم المراة ولا درجة فكرها فلا يعقل ان نحكم على المراة الغير محجبة انها متحضرة وذات علم و ثقافى و تحرر فقط لانها لا ترتدي حجاب وبالعكس التي ترتديه هي متخلفة و لا تتمتع بثقافة ولا مستوى تعليمي ولا مستوى تفكير يجب تصنيف الامور بشئ من المنطق و في الوقت الراهن يجب احترام حرية المراة ان ارادت ارتداء او عدم ارتداء الحجاب …4