الجسر الذي سيربط بريا بين الأراضي السعودية والمصرية مشروع كبير وحيوي، ولكنه يستدعي كثيرا من التساؤلات، والهموم أيضا، خاصة أن الجسر الذي سيعيد التواصل البري المبتور بين الشقين الآسيوي والأفريقي لما أصبح يعرف مجازا بالوطن أو العالم العربي، لن يمكن المصريين من أن يستقلوا سياراتهم ببساطة لينتقلوا عبره إلى الأراضي السعودية، من أجل البحث عن عمل أو أداء فريضة الحج.
والجسر سينتهي في جانبيه إلى ردهات استقبال وتدقيق وتفتيش، وسيتصفح الأمن جوازات السفر بحثا عن الفيزا، أو سيدخلون لإجراء التحريات الروتينية على أجهزة الكمبيوتر الخاصة بهم، وهو تحديدا ما يجعل الجسر وسيلة اقتصادية من شأنها أن تخفف من تكاليف الانتقال بين البلدين، وربما ستجعلها أكثر أمنا قياسا بالعبارات والطائرات، وكذلك سيمكن الجسر مئات الآلاف من السعوديين والخليجيين من إعادة النبض السياحي لشبه جزيرة سيناء، ومن ورائها مناطق جديدة في الدلتا وعلى سواحل البحر الأحمر لم تكن معروفة كمقاصد سياحية من قبل.
من المستبعد أن يؤثر الجسر جديا على حركة الملاحة عبر خليج العقبة، ولكنه سيدفع إلى تراجع بعض المقاصد السياحية والتجارية داخل الخليج، وهو تحديدا ما كان يثير علامات استفهام في الأردن حول مستقبل استثماراتها وآمالها في منطقة العقبة، التي تعتبر محطة أساسية للنقل البري والبحري بين الشقين الآسيوي والأفريقي في المنطقة العربية، وبين مصر والسعودية أيضا. وتحدث الأردنيون بكثير من العتب عن الجسر الذي سيؤثر عليهم بصورة جذرية، خاصة أن العقبة منفذهم الوحيد بحريا، بينما يختلف الأمر بالنسبة لاسرائيل التي ينصب اهتمامها على سواحلها الممتدة على البحر المتوسط، وربما أتت زيارة ولي ولي العهد السعودي للتخفيف من الاستياء الأردني تجاه مشروع الجسر بشكل عام، وتجاهلهم من الترتيبات المبدئية بخصوص الجسر بشكل خاص.
في المقابل، لا يبدو أن إسرائيل التي أطلقت بعض التساؤلات ذات الطابع الأمني ليس حول الجسر وحده، ولكن حول تنازل مصري عن السيادة على جزيرتي تيران وصنافير عند مدخل خليج العقبة، وصلت لمرحلة الاستياء، كما أوحت ردود الفعل الأول في الصحافة الإسرائيلية، وعلى العكس من ذلك فإنها وجدت نفسها أمام فرصة متميزة لتحصل على مدخل جديد لقبولها فاعلا في البحر الأحمر، فالحديث مع المملكة السعودية عن ترتيبات أمنية بخصوص تيران وصنافير من شأنه أن يجعلها أمرا واقعا (طبيعيا) في الممر الحيوي الذي تفتقد لأي علاقات مع العديد من شركائها على سواحله، مثل السعودية والسودان واليمن.
مع السيادة السعودية على الجزر تستورد المملكة إشكالية كانت حرصت على تصديرها للجانب المصري في الخمسينيات، فمضائق تيران كانت السبب المباشر الذي تذرعت به إسرائيل لضرب مصر وسوريا سنة 1967، حيث اعتبرت إعلان الرئيس جمال عبد الناصر إغلاق المضائق قبل الضربة الإسرائيلية بنحو أسبوعين بمثابة اعتداء صارخ عليها. اليوم لا يشكل الجسر تحديا مباشرا لإسرائيل، ولكن آثاره يمكن أن تتحول إلى مصدر قلق حين تتحول سيناء إلى استقبال السياحة العربية وبأعداد كبيرة، وذلك بالطبع سيسبب قلقا أمنيا لإسرائيل يدفعها لمحاولة العمل على طرح موضوعات الأمن في سيناء بصورة مغايرة لما تطرحه حاليا.
من المتعذر أن يفصل الجسر تماما عن التخمينات المتعلقة بردود الفعل الإسرائيلية، فثمة تناقض استراتيجي في الأمر، فإذا كانت المملكة مطمئنة اليوم إلى أن الصراع العربي – الإسرائيلي انتهى في جانبه العسكري، فإن خليج العقبة يبقى ورقة، ولو شكلية، في أي احتمالات تصاعد سخونة الأوضاع بين العرب وإسرائيل، وإذا كان عصر السلام مقبلا فلماذا استثمار هذه المليارات في جسر بري بين مصر والسعودية، بدلا من وجود طريق يمر عبر العقبة وإيلات باتجاه سيناء. وتل أبيب بدورها تستطيع أن تتلاعب من خلال إثارة الجدل المرهق حول المخاوف الأمنية والوعود الاقتصادية.
المشهد في مصر اتخذ ملامح الصدمة، فمن ناحية وكأي شعب كبير يرى المصريون مثل هذه الخطوة بمثابة انتقاص لمكانتهم، والحديث عن ملكية الجزيرتين أتى في مرحلة لم تكن مصر اليد العليا في المنطقة، بل في أضعف حالاتها منذ فترة طويلة من الزمن، ولم يتوقف الإعلام المصري الذي توجه بانتقادات قاسية وغير مسبوقة للرئيس السيسي وفريقه أمام مجموعة من الحقائق تتعلق بالجزر، فمثلا كانت الصحف المصرية تنشر نصوصا مقتبسة من عميد الجغرافيين العرب والمصريين الدكتور جمال حمدان حول الأهمية الاستراتيجية لجزيرتي تيران وصنافير، علما بأن النص نفسه لا يزعم ملكية مصر للجزيرتين من الناحية التاريخية، كما أحدثت المسألة انقلابا واضحا في المواقع، فأصبح مناصرو الرئيس السيسي يستشهدون بأحد النصوص القديمة لمحمد البرادعي وصف الوجود المصري في الجزيرتين بالاحتلال، وأخذ الإخوان المسلمون والمتعاطفون معهم يسوقون تسجيلا للرئيس عبد الناصر يتحدث فيه (مصرية) الجزر.
عمليا من المتوقع أن يستغرق تحويل الجسر من مرحلة الاتفاقية بين البلدين إلى فعل هندسي على الأرض إلى العديد من السنوات، وفي النهاية فإنه سيكون بحد ذاته إنجازا مهما، ولكنه بالطبع لن يمثل مكسبا اقتصاديا منقطع النظير كما جرى تقديمه إعلامياُ في مصر والسعودية، من دون أن يؤول إلى ذات الحال الذي وصلته قناة السويس الجديدة، التي انتقلت بسرعة من منجز وطني يناهز مكانة السد العالي إلى مصدر احباط ويأس بالنسبة للمصريين ومعهم المتحمسين لثورتهم.
الجسر من شأنه أن يعود بفوائد تتعلق بحركة التجارة بين السعودية والخليج من جهة، ومصر والمغرب العربي من جهة أخرى، ولكن هذه التبادلات التجارية تبدو دون المأمول، وليس في المستقبل ما يدلل على أن هذه الحركة يمكن أن تتصاعد، بحيث تصبح مجزية للأطراف المختلفة، ولذلك يجب الحديث بواقعية عن عوائد اقتصادية للجسر تمتد إلى عشرين أو ثلاثين سنة لتصبح مجزية ومجدية للبلدين، ولا يمكن أن ينظر إلى الجسر إلا كونه تدويرا لأفكار اقتصادية قديمة ترتكز على تسييل الأصول الخاصة بمصر، وهو المنهج الذي شهد تسارعا في عصر مبارك، فكان الاعتماد على الاستثمارات السياحية والعقارية، التي تستهلك تسهيلات حكومية كبيرة في مجال الأراضي يجعل قدرات مصر الزراعية والصناعية تتراجع، حتى وصلت لمرحلة حرجة على مستوى التنافسية، بينما الحلول التي تحتاجها مصر يجب أن تكون جذرية وقائمة على استثمار كامل طاقات مصر الاستراتيجية، خاصة موقعها وزخمها السكاني، وعدا ذلك فلن تكون هذه المشاريع سوى مزيد من جرعات الأمل التي بدأت تفقد تأثيرها وأصبحت تخرج بنتائج معاكسة لما تتقصده الدولة المصرية.
٭ كاتب أردني
سامح المحاريق