في تونس يستعمل المثقّفون خاصّة عبارة « تشليك « في معنى مجازيّ يفيد اهتراء الأحْوال والفكر والسياسة والفن وغيرها؛ وهي عبارة مشتقّة من لفظة « شلاكة» وهي عبارة محلّية تطلق على ضرب من النعل يلبس في البيت أو في الصيف ولا يعدّ رسميّا من الانتعال الحسن. واستعمل العرب أسماء كثيرة لهذا الضرب من النعال الخفيفة أهمّها «الجمشك» وهي لفظة أعجمية الأصل استعملها العرب في معنى قريب من هذا الضرب من النعال.
يبدأ التشليك، وسنسمّيه الجَمشكة من هنا فصاعدا بمرضين اجتماعيّين يظهران معا في مجموعة ثقافية: المرض الأوّل هو التهاون في حمل الأشياء الجادة والمهمّة محاملها الحقيقيّة فيحدث في السّياسة وفي الدّين وفي الثقافة ضرب من التهاون في إتيان العناصر من مآتيها الحقيقية ففي السياسة مثلا يبدأ التشليك من تولّي الساسة مسؤوليات على غير أحجامهم فيصبّون الخلّ في الزيت ويسكتون دهرا وينطقون خلفا. أمّا المرض الثاني فهو انقلاب في القيم والأخلاق بحيث تسود أخلاق الشطار ويضيع الحقّ في ركاب الباطل ويصبح الأبطال من العيّارين ويخجل السويّ بينه وبين نفسه وتسود ديكتاتوريّة جديدة باسم التمرّد على الحقّ الذي ساد والعدل الذي لا يخدم الصعاليك. الجمشكة بمرضيها وبأعراضها الانقلابية تكون في السّلوك وفي القول وهذا ما يعنينا.
تقوم الجمشكة على التمرّد على النمط الكلاسيكي وإحلال نمط آخر محلّه أقلّ منه نجاعة. فهو تمرّد لا يعيد التوازن المختلّ بل يحاول بلا آليّات أو بآليّات خاطئة أن يصنع منوالا غير مقبول.
في مسرحيّة «البورجوازي النبيل» لمولير أراد البطل أن يتسلق من الطبقة الوسطى إلى الأرستقراطية واعتقد أنّ نعمة المال يمكن أن تقود إلى الرفعة والشرف. تبرز المسرحية أنّ الطبقية هويّة ثقافية واجتماعية قبل أن تكون وضعيّة مادّية أو اقتصاديّة. هذا مثال من محاولة الجمْشكة الطبقية التي لم تنجح لكنها تنجح في مجتمعاتنا في الثقافة وفي السياسية وفي التعليم . تلحظ الجمشكة سياسيا في السياسات التي تتبنّى نظام حكم وتدّعي تطبيق مبادئ الحرّية والديمقراطية ولكنّ سلوكها الفعليّ في السياسة يشبه البورجوازي النبيل الذي أراد أن يقلّد مشية الحمام فنسي مشيته. في الثقافة أيضا كثير من الجمشكة إذ يريد بعض النّاس أن يصبح بين عشية وضحاها شاعرا أو أديبا فيكتب معتقدا أنّه يقول شعرا وقد يصادف أن يجد ما كتبه طريقه إلى النّشر في كتاب أو إذاعة فـ «يجمشك» الشّعر رسميّا تحت شعارات كثيرة كان أشدّها خطرا ادّعاء أنّ الانتظام الإيقاعي قيد على الفكر والإبداع وليس أمرا معجزا يفصل بين الشاعر والمتشاعر؛ ومنها أيضا الفهم السّيء وبالتالي الاستعمال المخلّ بالذوق لاستعاريّة الكلام.
أن يلبس الأرستقراطي الأصلي لباس العامة ذات مرة فذاك موقف واعٍ يوظّف لشيء ما يدخل في باب تكسير الرتابة والفرار الوقتي من قيد الطبقة . هذا يشبه أن يكتب شاعر محنّك بلا قيْد إيقاعي أو أن يكتب بلغة يوميّة بسيطة خالية من الاستعارية تشبه لغتنا اليومية: يلبس الارستقراطيّ اللباس نفسه الذي يلبسه الشعبيّ ولكنّ هناك شيئا ما في سلوكه وفي بشرته وفي جيناته الطبقية لا يغيبه اللباس: كذلك الشأن بالنسبة إلى من كتب بلغة بسيطة فإنّه سيزرع فيها رغم ذلك شيئا من نفسه الشعريّ . لكن أن يكتب المتشاعر بغير نفس شعريّ ويتكلّف الاستعارات فإنّه سيكون كمن لبس من العامة لباس الارستقراطية وتوهم أنّ لباسه سيصنع طبقته الجديدة ولكنّ المشية وتناسق الألوان وعيون النّاس التي تلحظ ما لا يلحظه من انخرام الأنساق ستفضح أنّه من غير طبقته وبالتوازي ستفضح اللغة التي يعتقد المتشاعر أنّه أتقنها من روحه أنّه دخيل بل ومجمشك للغة الشعر وللإبداع القولي عموما.
ما يقال في الشعر يقال على غيره من فنون القول وما حدث ليس هو فقط جمشكة المبدعين للإبداع لتحقيق لقب في غير موضعه هو لقب الأديب أو الأديبة والشاعر والشاعرة والكاتب والكاتبة، بل هو جمشكة أخرى أعظم أبطالها الجمهور أو متلقّو هذا الإبداع.
لقد حُرمنا شيئا فشيئا في هذا الوطن العربي الحزين ذلك النّوع من القرّاء الذين لهم ذائقة ولهم القدرة على فكّ شيفرات الرموز في الأدب الرّمزي بما في ذلك الأدب الذي يعتمد الاستعارات والكنايات والإيماءات والتلطيفات. كنّا نعتقد أنّ تعميم التعليم وبالتالي تعميم القدرة على القراءة سيجوّد التلقّي أكثر لكن كانت معضلة المدرسة الكبرى أنّها تعلّم فكّ الخطّ أكثر ممّا تعلّم عمق القراءة والغوص فيها إلى أقاصيها. كان لربط القراءة بالامتحان الموجّه إلى اصطفاء متعلّم أكثر من تكوين مثقف مميز دور في تدمير القارئ المثقف. لم يعد خرّيجو الجامعات قادرين دوما على التأثير في المجتمع وآرائه والآليات التي تتحكم فيه؛ بل صار هو موضوع تأثير. في كثير من أقطار الوطن العربي خلق الجو الإعلامي مشاهدين وكلّما ولد «مشاهد كريم» مات قارئ عليم . خلق الإعلام النجومية بين عشية وضحاها فيمكن أن يصبح المتشاعر شاعرا و مدّعي الكتابة كاتبا ومتهافت السرد روائيا. وفجأة اكتشف الجمهور العربي في القنوات العربية شيئا منسيّا اسمه الحبّ والزواج ثمّ بعد ذلك أحبوا الخيانة الزوجية باسم العشق. صار المشاهدون عشّاقا لا للقصص بل للأبطال، أو للصورة الفاتنة. سلبتهم الصورة لبّهم فتغافلوا عن نوعيّة النصّ ومتانة الحبكة بل عن كثير من الأخطاء الدرامية الساذجة. صار البطل الصورة هو البطل الحقّ وبدلا من التركيز على الحكاية وفنّها صار التركيز على شخص بعينه. انهدم النصّ واهتزت أركانه لأنّ المتلقّي جمشك الشروط وتسامح فيها. الجمهور السياسي لا يختلف عن الجمهور الفنّي، من يظهر أكثر هو الأكثر نجوميّة بقطع النظر عن متانة مواقفه السياسية. أبطال السياسة في دول العالم التي تحكمت في مصائرها بيدها هم من يراوغ أكثر من غيره ،هو من يخالف للخلاف وليس هو من يُحسن بناء أفكاره وضبط برامجه ولأوّل مرّة ولد السياسي البطل ومات الزعيم . صار المتفرّج في مسرح سمعيّ بصري كبير وتجمشك لديه كل شيء لأنّه حرم آليّات التفكير ومفاتيح النقد وصار عاجزا عن فهم العميق وتأويل الرمز واستشراف المستقبل.
في التلفزة ينتصب الذين يبيعون الكلام بالأسقام يقولون ويصدّق الناس ما يقولون يفتون ويجمشكون التأويل لأنّهم غير قادرين على فهم عيون الشروح فيصدّقهم الجمهور. وفي المدرسة بات المتعلمون يعيدون بضاعة المعلّمين ولا يتثبّتون منها وبات المدرس الناجح هو من يملي المقرّر لا من يطرح المسائل للنقاش. جُمْشِك العقل وأكبر أدلّته منتوجات العقل اللغويّة. في الشارع لا تسمع إلاّ كلمة « عادي « كلّ شيء يبدو لهم عاديّا . ماتت ملكة التعجب وملكة التفاعل مع المحيط ومن الممكن أن يصدّق في ثقافة الـ «عادي» كلّ خارق وعجيب ويقبل كلّ تطرّف وديكتاتوريّة، وكلّ وصوليّة، كلّ جمشكة تبدأ حين تسمع في الأفواه لفظة «عادي» ومرادفاتها؛ وحين يتثاءب من تحدّثه عن شيء عميق ليشعرك أنّك قائل ثقيل.
٭ أستاذ اللسانيّات في الجامعة التونسية
توفيق قريرة
استاذ توفيق قريرة وككل الأساتذة التونسيين الذين عرفتهم يمتلك مفاتيح لغتنا المقدسة ونصه جاحظي بامتياز وهناك متعة لغوية لا تقدر في قراءته فالتشليك والجمشيك اللذان أصابا مجتمعاتنا العربية في الصميم تدفع أمتنا إلى الاندثار، وأول عوامل الاندثار هو اللغة التي باتت بين ايدي التلشليكيين والجمشكيين.
شكرا استاذ قريرة على هذا المقال الجميل نصا ومضمونا
قد يكون من الخطأ، إني مضرب عن المحطات التلفزية والإذاعية في بلدي منذ سنين … تفشّت التفاهة في سائرها … رجال الفكر والثقافة واللغة … صامتون، كأني بهم لا يفهمون الوضع !!!!! كيف السبيل إلى تغيير هذا الوضع ؟
أستاذ توفيق شكرا لك على هذا المقال
ولكن ألا توافق معي أن أحد أكبر أسباب ظهور الجمهور السطحي والذي يفتقر إلى العمق والموضوعية يكمن في ظهور طبقة المثقفين والكتاب من ذات الفئة الغير عميقة وغير مثقفة،،فلا نسطيع أن نلقي باللوم على الجمهور بدون النخبة من المثقفين والكتاب واشباه الشعراء..وقد تصدوا للمشهد وقدموا (بضم القاف وتشديد وكسر الميم) الينا على أنهم النخبة والصفوة ؟!! إلا القلة القليلة،،
عموما نشكرك على هذا المقال مرة أخرى
تحية للجميع