تلك رام الله التي رأيت لأول مرة، كان فيها الكثير من الفرح، لكن في اليوم الموالي سافرت نحو مدينة نابلس في 24 حزيران 2013، مدينة التاريخ والمقاومة.
كل شيء بدأ بلقاء في باريس مع نضال خندقجي في 25 أيار 2012، تمت برمجته من فلسطين إذ كان صديقا لي على الفيسبوك قبل أن يصبح المشرف الرئيسي على صفحة فتحها خصيصا لأعمالي يرتادها اليوم قرابة 300 ألف صديق.
عندما التقينا أول مرة وهو برفقة منظمة زيارته والوفد الفلسطيني إلى فرنسا، اكتشفت شابا فلسطينيا جميلا، متحمسا لأرضه وشعبه. وأمام الناس جميعا، في أحد مقاهي باريس، قام من مكانه ووضع الكوفية الفلسطينية على عنقي التي أشعرتني بدفء كبير، وهو يقول: قراؤك في فلسطين ينتظرونك، قرأوك بحب كبير.
لكني لم أكن أعرف أن جملة خرجت بعفوية من فم شاب ألتقي به لأول مرة، ستقودني نحو مدينته ذات صيف.
هو قال كلمته ومضى، لكنها وجدت صدى غريبا فيّ، أنا المضاد لتزكية غطرسة إسرائيل. وكأن الصدفة استمعت لقلبي إذ أول ما وصلتني دعوة متحف درويش، لم يكن سامح، مدير المتحف، في حاجة كبيرة لإقناعي. أجبته نعم سآتي، كيفما كانت نتائج هذه الزيارة.
تلك الأرض قطعة من لحمي أيضا، أنا الذي عرف ما معنى أن تفقد أبا في حرب استعمارية ضروس خلفت وراءها قرابة المليوني شهيدا. أول ما خطوت أولى خطواتي في فلسطين، كانت زيارة نابلس جزءا من برنامجي الذهني.
ربما أفسدت قليلا نظام الصديق مدير المتحف، لكنه كان كبيرا في استجابته، ورافقني هو والكاتبة العزيزة الغالية الروائية ليانة بدر، التي كانت دليلنا الصدوق، أنا وزوجتي الشاعرة الدكتورة زينب الأعوج، في رام الله، ورسمت لنا أيضا خارطة نابلس ثقافيا ومقاومة الاحتلال. دخلنا إلى نابلس صباح 24 حزيران 2013. كان الجو يومها ساخنا، لكنه لم يكن قاسيا، أو على الأقل، كان ذلك إحساسي. بعد زيارة المكتبة الشعبية والتعرف على طاقمها الإداري، بالخصوص نضال ويوسف والوالد صلاح أبو باسم، انتقلنا إلى زيارة الطائفة السامرية في جبل جرزيم الذي يحضن مدينة نابلس ويحميها من العواصف والرياح، وقد ذكر في التوراة.
الزيارة كانت بالنسبة لي اكتشافا كبيرا. اكتشاف عالم الأقلية السامرية الفلسطينية، والفخورة بفلسطينيتها التاريخية وانتماءاتها الثقافية، واللقاء مع كاهنهم المثقف والعلامة الموسوعي حسني واصف السامري، صاحب كتاب «التيه الإسرائيلي في شبه جزيرة سيناء» الذي وصف فيه تاريخ تيه بني إسرائيل، وفق الرواية السامرية للتوراة، التي تضم كتب موسى الخمسة ولا تتعداها إلى الأسفار 24 كما هو الحال في التوراة اليهودية. زار بنا المتحف السامري، وشرح تاريخ السامريين، وأرانا توراتهم الخاص المحفوظ بإحكام. كان الغذاء بعدها في بيت عائلة خندقجي الكريمة، حيث تعرفت على المطبخ الفلسطيني الأصيل، الذي يسرق الاحتلال اليوم الكثير من خصوصياته، مثله مثل بقية القيم التاريخية والفولكلورية. التراث جزء حي من هوية الأمة، بل يصنع جزءا من ذاكرتها وحاضرها. طبعا الكنافة النابلسية كانت سيدة طاولة الأكل.
يومها أبدعت أم باسم، في كل شيء حفظها الله وأبقاها. أعرف المطبخ الشامي جيدا، لكن لفلسطين أيضا خصوصيتها في الطعام وتنويعاتها. قرأت بعدها الرسالة التي بعثها لي الحبيب الغالي الأسير المحكوم عليه بالمؤبد، الشاعر والروائي باسم خندقجي. رسالة مليئة بالشجن، لكن أيضا مليئة بأمل الحياة وانتصار الخير على قوى الشر. وأنا أسير نحو المكتبة الشعبية للقاء بجمهور القراء، كانت وما تزال جمل باسم القوية بين عيني كأنها علامات من نور. المكتبة الشعبية هي التي تولت طبع «مملكة الفراشة» طبعة خاصة بفلسطين، جميع حقوقها خصصت لدعم الحركة الأدبية داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي. دهشتي إلى اليوم لا أستطيع توصيفها بدقة هي بين المكتشف لنفسه ولصورته عند الآخرين أيضا. كان الشباب الفلسطيني من القراء، كبيرا لدرجة أن المكتبة لم تستطع استيعاب إلا جزءا يسيرا منه، وفدوا من مدن فلسطينية كثيرة. جاءوا من أجل كتاب أعطوه معنى، هو «مملكة الفراشة» التي ولدت يومها تحت نجمة الحظ الذي تبعها حتى فازت هذه السنة بجائزة «كتارا» للرواية العربية، ومشروع تحويلها إلى عمل درامي.
وربما جاءوا أيضا يومها للاستماع إلى كاتب عربي اختار أن يكون من بينهم متخطيا حاجز خوف تهمة التطبيع التي لا معنى لها على الأراضي الفلسطينية، يسمع ويتبادل معهم الأفكار حتى الشائكة منها. الازدحام داخل المكتبة كان قويا، ودرجة الحرارة عالية جدا، من الصعب تحملها، ومع ذلك اندهشت زينب وهي تناولني كأس ماء: راكْ مليح؟ نعم كنت في أسعد حال. حقيقة لم أشعر إلا بتلك الوجوه المشرقة إيمانا بأن شيئا جميلا كان يملأنا جميعا. لاحظت أن بعض رواياتي في المكتبة كانت غير أصلية، تأتي من عمان كما سمعت. وسط هذا الحصار الأعمى، من حق الفلسطيني أن يقرأ أيضا في ظل حصار أعمى. لم تكن هناك أية قوة قادرة على أن تنغص علي لقائي مع قارئ يجوع من أجل كتاب، في أجواء فلسطينية، لم أكن أعلم أنها ستتكرر بعد سنتين. دهشتي كما دهشة غيري من مثقفي المدينة كانت كبيرة، من هذا الجمهور الذي يمنح أملا كبيرا في الخير. سعدت بعد سنتين أيضا أن رواية «مملكة الفراشة» ساهمت، بفضل مبيعاتها وطبعاتها العشر، في طباعة أربعة كتب من نصوص الأدباء الأسرى. تسرب الوقت يومها بسرعة كبيرة. البرنامج واسع والساعات المتبقية كانت تضيق. وكان لا بد من الانتقال إلى البلدية للإطلاق الرسمي لرواية «مملكة الفراشة» في نشاط مشترك بين المكتبة الشعبية ومكتبة البلدية. في الطريق زرنا بعض معالم المدينة برفقة الناقد الكبير الدكتور عادل الأسطة، الأستاذ في جامعة النجاح في نابلس، فهو سيد العارفين الذي خبر مدينته وتاريخها وثقافتها جيدا. كشف لي عن مدينة أخرى تنام تفاصيلها الجميلة وتاريخها وراء الحيطان المرئية. المدينة القديمة التي بقيت راسخة في ذاكرتي بشموخها الكبير، التي لم تستطع غطرسة الاحتلال من طمس صرختها من خلال أمكنة استشهد فيها الكثير من الشباب الفلسطيني وهم يدافعون عن أرضهم، في انتفاضاتهم المتعاقبة ضد الجبروت والظلم. البلدية كانت تنوي تنظيم الأمسية في المكتبة، ولكنها اضطرت إلى نقلها إلى الحديقة العامة الواسعة التابعة للبلدية، بسبب كثافة الجمهور.
كان الجمهور متعددا من مثقفين وجامعيين وإداريين، ومحبي الكتاب من كل الأعمال والمهن، وإن سيطرت فئة الشباب على الحضور، والفتيات على وجه التحديد. كان المستوى السجالي مهما وعالي القيمة، قاد الجلسة يومها بإحكام ودربة أستاذنا الكبير الدكتور عادل الأسطة، إذ كان حكيما في تدبير الأمور بالخصوص الرغبة الملحة والمبررة لكل واحد من الحاضرين في التدخل والشرح. وقد كتب عن ذلك مقالة في غاية التوصيف والجمال لتلك الأمسية. انتهى اللقاء بتكريم نبيل من جهات متعددة من سعادة رئيس البلدية غسان الشكعة، ومن تنظيمات سياسية مناضلة كثيرة في المدينة، كانت عربون محبة كبيرة ووساما تشريفيا أحتفظ به في القلب. اضطررنا بعدها إلى المغادرة قبل غلق المعابر الموصلة إلى رام الله، وحزنت جدا لأني لم أستجب لكل الرغبات الصادقة التي كانت كبيرة وبينت مرة أخرى أننا أمة تقرأ على الرغم من الصعوبات والمعضلات الحياتية التي جعلت من الكتاب العربي كمالية من الكماليات، وهو ما لم ألحظه أبدا في فلسطين. لولا إكراهات الظروف الأمنية، لما توقفت عن التوقيعات في حديقة البلدية. كان الليل وطريق رام الله شبه خال إلا من الإنارات الكثيفة واللامعة للمستوطنات التي تجرح في العمق الأراضي الفلسطينية، وهي الأكثر ظهورا من البلدات الفلسطينية التي ينام أغلبها داخل الظلام أو إنارات خجولة. ربما كان خوفي الذي عدت به في أول زيارة والثانية أيضا، أن تحول هذه المستوطنات الأراضي الفلسطينية إلى كانتونات معزولة عن بعضها البعض، لكل واحدة شأنها ومصيرها الذي تصنعه في عزلة تامة عن البلدات والمدن الفلسطينية الأخرى.
وصلنا عند مدخل رام الله، كان جيش الاحتلال الإسرائيلي يستعد لغلق المعبر المؤدي إلى عمق المدينة، مما كان سيجبرنا على الالتجاء إلى مسالك شديدة الصعوبة. كان القمر يرتسم في السماء، مررنا بخير نحو رام الله التي كانت ما تزال منتشية في فرحة اكتشاف ابنها محمد عسّاف المغني صاحب علّ الكوفية. قلت لسامح: الاهتمام جميل، يوفر راحة الاعتراف بالجميل، لأن وراء محمد فلسطين كلها، وليس غزة وحدها فقط، فقد وحّدها بصوته، ومنحها فرحا استثنائيا في عز الآلام وحرب غير عادلة وغير متوازنة. رهان الفلسطينيين أيضا أن يحفظوه من أن تسرق التجارة ومؤسسات الغواية المالية موهبته العالية ويصبح عاديا. في المرة الأخيرة عندما طرحت على مدير المتحف، سامح خضر، نفس السؤال، ونحن عائدون من القدس باتجاه رام الله: ضحك فقط، ولم يضف شيئا. عرفت أن رام الله هذه المرة لم تكن كما في المرة الماضية. كانت تشبه قليلا حيرة محمد عساف.
واسيني الأعرج
شكرا لك استاذي الفاضل على هذه الزيارة لأهلنا في فلسطين ثم شكرا لك على تدوين هذه الزيارة بروح فنية عالية تستمد عبقها الفواح بازكى الشذى من رواية الأمير…
تحياتي استاذ واسيني،ولك من نابلس الاحترام كله والتقدير،وما زال الحضور يتذكرك.مباركة جائزة كتارا
تحية
ليتني لم أقرأ هذا المقال
مهما بررنا ومهما سوغنا فالزيارة تندرج تحت باب التطبيع
لا نريدكم ان تأتونا تحت الحراب بل نريدكم ان تأتونا محررين ومحررين بكسر الراء الاولى وفتحها )
ولعلك في قرارة نفسك تدرك ذلك يوم قلت ما معناه سآتي فلسطين مهما قيل انها ستندرج تحت التطبيع ( مضمون ما اشرت اليه اعلاه حضرتك )
نحن مبتلون بالاحتلال وهو كاسر ارادتنا وقامع حريتنا ولا نريده ان يزيد من رعاياه فأنت آخر المطاف مورس عليك ” طقس ” احتلالي ولو طلب منك ” الجندي” عدم الدخول الى رام الله لاضطررت للذهاب الى المسالك الوعرة أي أنك عشت القمع الاسرائيلي والله اعلم كيف تمت الموافقة واي كلمات قيلت ” للخواجة ”
تحياتي // 26 / حزيران / 2015
اضافة لما ذكرته في التعليق السابق وهو رفض الزيارة كونها خضوعا للاحتلال وزيادة في عدد المبتلين به اؤكد اني أصدر عن هذه القناعة كوني أعتبر مثقفينا متراسنا الأخير وعليهم دوما ايقاد جذوة التحرير.