أبدًا، يجب ألا نستسلم للغائب، أو نرفع الرايات البيضاء للمجهول، لا نريد جنانًا اسمها المستقبل، نريد شكر ربنا الكريم الكبير الواحد على هبة الحياة بأن نعيشها بالحمد والأخلاق العالية والشكر. الفردوس جنة يومنا تنشأ بما كتب لنا، والمواعيد لا تتأجل بل تأتي تباعًا، كما أرواحنا تسبح في أبعاد الزمان والمكان، تساكن في العلا من تشاء وبدون استئذان.
نحن نمنح الحب ونقتله بأيدينا، نحن تلك اللحظة المسكونة بالفرح، وإذا ما اشتعل فتيل الحب عنوة لا نعرف متى وكيف وأين…
قدر الوجوه أن يطغى عليها وجه واحد، هو ذاك القلب الذي يخطفنا ولا يرحم، يسافر معنا في الحلم والواقع، هي الوعود التي قدرها أن تحضر، ما دام العاشق لا يحرك قلبه إلا البعد والحرمان.
الجنة في تفاحة آدم المحرمة… الفاصل الوحيد الذي نعرفه بين الجنة والنّار، فالسواد لا نعرفه بدون البياض، في الممنوع المرغوب… لا في هذه الجنة التي يموت فيها اليأس والتعب والمحرمات.
وإذا لم نتعب فكيف نرتاح؟ وإذا لم نبكِ كيف نفرح؟ كيف نفهم الفرق؟ نريد خصيلات الشيب ودموع الحنين، فالبحر الذي تصنعه حبات المطر هو البحر الذي تمخر فيه لحظة الحب القاتلة.
الجنة حتمًا هي النقطة المفقودة التي تقارب الصفر بين الماضي والمستقبل. والمطر البحر هو الذي ينهمر على القلوب لتحيا فيه قلوب الطين وتخضر من جديد، وتصدأ فيه قلوب الحديد التي قست علينا وهجرتنا. الجنة هي الآن وليس غدًا، الحياة هنا والآن.
إهدار الحياة مقامرة غير مضمونة للحصول على الجنة في مجهول ما بعد الموت، لقد قيل في وصف الجنة إنها حالة العشق في الشعر، وإنّها لحظة سكينة عابرة، حين تهدأ الروح من متاعب الحياة، وهي من وحي النّص القرآني أو نصوص الأئمة لا تختلف عن جنان الحياة، وعلى نحو مبالغ فيه كثيرًا هي درجات مئة، وأبواب ثمانية، كما ورد عند ابن القيّم، وهي إن لم تكن نتاج مخيلته فما يكون هذا الوصف؟ جنة الممنوعات المسموحة، التي لا تأتي إلاّ بعد صوم طويل يلازمنا منذ الولادة حتى الموت، هي العيد المنتظر لنا جميعًا، وهي المكافأة.
المكان الذي تتوافر فيه كل الملذات الملموسة والمحسوسة، هناك البعيد عن العين، البعيد جدًا عن الحاضر، في الآخرة، في الحياة الأخرى، هناك الجنة، ولا شيء فيها يكافئ الروح التي عانت الخواء الدنيوي.
هذه الروح التي تشعر بالألم والفقدان وغياب الفرح بغياب الحلم الذي يسكننا، والتي وحدها تأخذ طريقها وحيدة إلى الله تاركة قوقعتها تهترئ في التربة الأرضية، هذه الباقية الأبدية، المسافرة عبر السماوات التي لا يعرف الأئمة والمفسرون عددها، ويحددون عرش الله نهاية لدروبها، في وصف خرافي لا يختلف عمّا نراه في أفلام هوليوود الخيالية، تصل إلى هناك ثم تعاود الدخول في أجسادها الجديدة، وتُمنح الكثير من المتع المبالغ فيها، فهل هذا ما نفتقده فعلاً؟ وهل هذا ما نريده لنفني شمعة العمر في التقشف الحسي، والوجداني أحيانًا؟
مجددًا تنتهي رحلة الروح إلى الجسد مجددًا، إلى الجنة التي نفي منها بسبب تفاحة، فما الجدوى من تلك الرحلة في دائرة مغلقة؟ هل يكفي أن يكون المكان مؤثثًا بأفرشة من حرير ومآدب فيها ما لذ وطاب، مزدحمًا بالنساء الحور ليصبح مكانًا موعودًا يجاهد الإنسان نفسه طيلة حياته للحصول عليه؟ قد يقتل من أجله، وقد يفجّر نفسه؟
الخطاب الذي يتسلق غرائز الإنسان منذ مئات السنين ويشوش كل مساره الدنيوي، ثم يقوده عبر أنفاق مظلمة إلى قتل نفسه، ماذا نسميه؟ وإن كانت الغريزة هي الأقوى أمام العقل فما جدوى النصوص التي تخاطبه؟ إن الذي قلب موازين الحياة البشرية وعكّر صفوها هي مكاسب هذه الجنة التي لا نعرف أين هي وماذا فيها ولماذا وجدت؟
في تعريف قديم عثرت عليه لأحد الشعراء الأجانب ولا أذكر اسمه الآن، يقول «الجنة ليست مكانًا، إنها حالة روحية، إنّها النعيم» وفي هذا المفهوم أرى بصيصًا من نور، يهدئ وتيرة القلق التي تولّدت في أعماقنا وتخفف من ثقل الأسئلة.
في كلام آخر يبدو تجديدًا مخالفًا تمامًا لما كُرِّس سابقًا، يذهب محمد الصوياني إلى أن الجنة هي «الحب الذي بخلت به الدنيا، والفرح الذي لا تتسع له الأرض… هي وداع المعاناة… وزمن الحصول على الحريات… وموت السلطات»، ولكن أيضًا فيه من الدنيوي الكثير، الذي تتشكل من خلاله قراءة للواقع المر الذي يعيشه الإنسان وهو واقع فيه كثير من المعاناة والقمع والحرمان والكراهية.
هل الجنة مكافأة متأخرة للإنسان؟ أم هي « كل أحلامنا الجميلة « كما قالت ذات يوم سيمون دي بوفوار؟
هل هي مفهوم متغير متقلّب، مختلف من شخص لآخر، حسب درجة الحرمان والقمع والأشياء المؤلمة المرتبطة بحياته الخاصة، أم غير ذلك تمامًا؟
في كل الحالات إنها جنّة نسبية، مفصّلة حسب أحلامنا ورغباتنا، ولكنّها ليست الجنة الحقيقية تلك التي نجهلها جميعًا، وما نورده من مفاهيم لها لا يتعدّى التكهنات.
أفلا ينطبق هذا على ما جاء به غريغوار لاكروا بقوله إن الجنان كلها مصطنعة؟ أم أن وجود الجنّة والنّار من ضرورات الحياة، وقد وجدت لتضع الإنسان بين قوسين لا يمكن تجاوزهما، بتوفر حرية محدودة تسمح له بأن يسرح ويمرح بينهما، مع أن نزار قباني لا يرى منطقة وسطى بين الجنة والنار!
إلى أين نحن ذاهبون إذن؟
لا أدري، فأجوبة الكتب لا توصلنا لشيء، إلا أنها بقصد أو بغير قصد، تجعلنا ننهمك في بناء جنتنا بطرق مختلفة، أمّا الذي يسلكه التقاة، ذوو الضمائر الحية والقلوب النابضة بالإنسانية، فهم يعيشون جنتهم الخاصة في الدنيا قبل الآخرة، يغرفون من متع العطاء ما استطاعوا، يحبون وفي الحب فرح، يزرعون ويقطفون ثمار تلك المحبة، وفي ذلك ما يكفي من الطمأنينة لتوقع آخرة هادئة.
غوته يريد جنة يرفل فيها وحيدًا، إذ يبدو أن مشاريع الكتابة لديه كثيرة، وإنجازها في مكان لا ضجيج فيه هو جنته، أليس غريبًا ألا يحلم غوته بحور العين وبأنهار من الخمر وصوان من الفواكه والحلويات؟
نعم، هذا غريب علينا، غريب حدّ رفض كل مفهوم يخالف ما ورد في تراثنا الديني والاجتماعي، لكن ما الذي تعنيه الجنة لطفل فارق الحياة في عز طفولته؟ أليست هي حضن أمه وألعابه المفضلة وقليلاً من (الآيس كريم)؟
أليست أقلّ بكثير مما وصفه الشعراء وكتبه الأئمة وشيوخ الدين؟
إن قال البعض إن كلامي مجرّد وجهة نظر، فهو كذلك فعلاً، لكن أليست الجنّة بالمختصر «مسكن آدم وزوجه حواء» أليست فقط تلك المودّة والرحمة وعناقًا روحيًا وسكنًا؟ فما الذي يمنع من أن يكون السكن على الأرض جنة في انتظار جنة الآخرة التي لا تُشَيَّد إلاّ بالمحبة وكثير من جهاد النّفس على سيئاتها؟
٭ شاعرة وإعلامية من البحرين
بروين حبيب
(”وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)..
الشكر الجزيل لكِ استاذة بروين لاعلائكِ هذا الطرح من على منبر القدس العربي الغراء!! ولرميكِ بحصى الاثارة في مياه الآجام الراكدة الآسنة؟!
لا احد يعلم الغيب الا الله سبحانه وتعالى !! وبناءً عليه فان اي وصف للجنة ولجهنم , ما هو الا اجتهاد آدمي يصب كله في دوائر التخمين ليس الا ؟؟! وللمقارنة اين وصف النعيم والجحيم كما جاء , من وصف دانتي وما يلاقيه البشر من النعيم ومن الجحيم ايضًا؟؟!
لماذا لا يفطنون الى ان النعيم لاي انسان هو رضى الله تعالى عنه في دنياه وما وراء دنياه ؟! وبما ان جميعنا يتكلم في الغيبيات… الا يحق لي كمخلوق ان اتصور ان النعيم هو انسجام الروح الجزئية مع الروح الكلية وهي روح خالقها ؟!! اكثر منطقية من الوعود بالانهار والحواري البيض و…و…و الخ , لهذا اخوتي لا تتهموني بالكفر ان قلت ان الجنة شيءٌ منشود غير موجود !!!
جنتي هي اتساع عقلي باستيعاب مصداقية الاشياء , والتمييز ما بين المعقول وعدمه والسلام.
قال الله تعالى في كتابه العزيز (( خِتَامُهُ مِسْكٌ ۚ وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ )) ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في نهاية حديث صحيح : رفعت الاقلام وجفت الصحف ، وهذا واضح ان الانسان خُلِق وقد كُتب له قدره خيره وشره ، ويجب عليه أن يقتنع بما كتبه الله له ، ولا يحقد او يحسد غيره على نعم يراها هو انها اكثر من نعمه ، وبمعنى اخر يجب ان يترك البشر التنافس والتحاسد في الدنيا بعد أن يبذلوا الأسباب والإجتهاد ، ويتفرغوا للتنافس على الجنة بكثرة الاعمال الصالحة لانها تكون في يد الانسان ان يكثر من حسناته قبل الممات وهذا هو التنافس الحقيقي .
سيدة بروين حبيب اود اولا ان اثني على القيمة الادبية للمقال والصدق في طرح الاسئلة مع الذات ومع القارئ رغم انني ارى فيهاكثيرا من حجب الطين على الروح ! ولا اعلم يا رفيقة القدس كيف يحلق المقال في فضاءات السعادة المعنوية ثم يعود فيفعل عين ما انتقده فيحصر الجنة بلحظة دنيوية عابرة كومضة برق في مفهوم الزمان الحقيقي الكبير وفي مفهوم المكان الحقيقي الكبير واعني بذلك يا سيدة بروين .. الزمان الحقيقي الكبير هو ان لا نعيش قلق الموت والانتهاء (خالدين فيها ابدا ) والبعد المكاني الكبير ( وسارعوا الى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والارض اعدت للمتقين )!! اما المتقون يا رفيقة القلم بروين فهم اولئك الذين تمردت ارواحهم على ثقلة الطين وحجب عتمته فتاقوا الى السفر في الملكوت وحطموا قيود الجسد الفاني وانتصروا على الشهوة التي تهبط بهم الى عوالم الغرائز المقضية في زمن الهبوط اذا كانت حراما وهو زمن محدود والمه ممتد لانه زمن انانية الحيوان وانتصاره على الانسان في جوانحنا الانسان الذي تتلخص كرامته واعلى علياء له ككائن سيد في قول العلي القدير عن لحظة الانتقال من كينونة الحيوان الغرائزي الى لحظة الانسان المتقد ة (ثم سواه ونفخ فيه من روحه ) انها لحظة الحنان الالهي المجيدة التي صنعتنا بشرا عاقلا مفكرا ينظم جوع الغرائز كلها بقوة الروح ولا يعاب ان كانت فيه الغرائز منظمة لهدف سام فهو في النهاية مخلوق وليس الها يقتله العطش ويفنيه الجوع ويجمح به الغضب ويثور فيه بركان الغرائز الجامحة التي وضعت فيه ليبقى ويتناسل ويقاتل في الجبهات للبقاء ويصارع للقيادة ويرد الظلم سيدة بروين من دفتي نهر لا ينضب هو كوثر الروح ومنتهى عليائها من بين ضفتي الكتاب العزيز احمل لك سفن الشوق الى جنة اخطر ما في وصفها ان كل انواع الانعام فيها سواء المادي او المعنوي هي رسالة للحب الالهي !! قال تعالى يا بروين :(وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله اكبر ذلك الفوز العظيم ) انها تشير بوضوح الى ان اعلى درجات النعيم هو ما اشار له الاخ رؤوف رضوان من اللكبر ذاك فردوس الروح وسدرة منتهاها وجنة مأواها سيدة بروين وحتى النعيم المادي لا يكون له معنى الاان كان علامة على الحب الالهي والتكريم بين يدي العلي القدير ولهذا له مذاق ! في قلوب المتقين …يتبع لطفا
تحياتي استاذة بروين على هذا البوح الجميل …
ياحبذا لو انه بامكاننا العيش في هذه الحياة بالجمالية والهدوء الذي ذكرتيه …الحياة صعبة جدا ومرهقة ومتعبة وفي احيان ليست بالقليلة مستحيلة …في خضم كل مانحياه على هذا الكوكب…
دائما ماكنت اميل الى التفسيرات السيميائية للحياة ومعنى النعيم والجحيم في الاخرة ..اجدها اكثر عقلانية وروحانية … والتفسير ليس حكرا لعلماء دون غيرهم…
فالنسعى حثيثا لسلامة القلوب وبعدها ايا كان المعنى والسر فمرحى به….
تحياتي لكل الاخوة المعلقين ….و للاحبة رؤوف بدران ..د.رياض ود.أثير …تقبل الله طاعاتكم في هذه الليلة المباركة ….
هذه التحية الراقية منكِ اختي الغالية منى من الجزائر لها وقع زخات المطر على ناطرٍ في نواحي الجفاف , فانعشت ما كان منكمشًا وفتحت ما كان مكمنًا ليتمتع بنور لطفك فلكِ محبتي واحترامي وتقديري …. وبهذه المناسبة لا بد من ارسال التحية الى الاخوة د.جمال البدري ود.اثير الشيخلي ود.رياض والغالية غادة الشاويش والياس من الجزائر والاخ محمد الحاج وابو عمر من اسبانيا وابن الجاحظ وكل اللاحقين من المعلقين…. تلذذت بتعليقاتكم واستفدت من اطلاعكم وثقافتكم مع تحياتي والسلام.
تحية للكاتبة وللجميع
للتوضيح لا بد من القول ان الاديان السماوية لا تتفق كلها على مفهوم الجنة وكذلك صفاتها وانا برايي الشخصي اؤمن بان هناك حياة بعد الموت ولكن مسالة العقاب في جهنم لا استطيع ان اتخيلها واقبلها كفكرة من الخالق العظيم الذي جعل لنا عقول لا تستطيع الاان تختلف مع بعضها البعض فهناك اسئلة كثيرة يمكن ان تطرح ولا يمكن الاجابة عليها فعلى سبيل المثال ما ذنب هؤلاء الناس في الهند او في مجاهل افريقيا وكذلك الملحدين انفسهم الذين لاتستطيع عقولهم تصور امور غيبية وهناك المؤمنين بوجود خالق للكون ولكنهم لا يؤمنون بالاديان فالنتيجة هي ارادة ربانية جعل التنوع في الدنيا في كل الامور ومن حق المؤمن المسيحي والمسلم ان يعيش كما يعتقد وكذلك الاخرون ولو اراد الله ان يجعلنا كلنا على دين واحد ومعتقد واحد فهو قادر في لحظة واحدة ان يفعلها
تحية واحتراما للكاتبة المشكورة على هذا المقال الممتع والذكي والنافع.
لماذا لم تستيقظ ابنتي لتناول سحورها ؟ {1}
كنت في حديث صباحي على الوتساب مع صديق عزيز عليّ يعيش في أوروبا فإذا به في سياق كلام عن رمضان وتجارب الناس مع هذا الشهر الفضيل يحكي لي واقعة طريفة حدثت لابنته.
أحببت أن أُطلِعَ عليها القارئ لِما فيها من فائدة معنوية وروحية قد تساعد المرء على الوقوف على بعض أسرار الحياة.
يقول لي صاحبي: ” جاءت ابنتي من العاصمة حيث تتابع دراستها الجامعية لزيارتنا في الشمال. كانت أمها مريضة ولم ترها منذ شهرين على الأقل. لكنها تعالج في مصحة خاصة في مدينة بعيدة جدّاً عن بيتنا. اِتّفقنا على أن نقوم بزيارة أمها غداة وصولها.
قضت ابنتي الليلة عند جدتها، وفِي الصباح أخبرتني في الهاتف انها لم تستيقظ للسحور ليس بسبب المنبّه الذي ما فتأ يرنّ ويلحّ في الرنين بل لكونها كانت تعتقد أنها في حلم أو كابوس أو عالم آخر. نصحتها بما أنها ستسافر قصد زيارة أمها وستقطع أكثر من مائة كيلومترا أن لا تصوم.
وبعد أن اِلتهمت السيارة الطريق الطويل ووصلنا الى المدينة التي توجد بها المصحة المذكورة آنفا حتى هرولت ابنتي شوقا لرؤية والدتها فرأيت عند اللقاء شيئا تجاوزني. رأيت الزمن الإنساني في شرط العناق والاحتضان والالتصاق والدموع،وقد تحوّل إلى حضور وجودي مذهل يتجلى فيه حضور يكاد يكون إلهيّاً !
وبينما أنا أنتظر،صائماً ،أسرتي الصغيرة في السيارة أثناء وجبة غذاءها في مطعم بروطاني أشرقت في قلبي خاطرة ! همست بها لابنتي في اُذنها بعد أن فرغت من الأكل وعادت تحدثني فرحة بقضاء لحظة ممتعة مع أمها وجدتها وأخيها الصغير: لم تستطيعي القيام لأخذ سحورك٫ياعزيزتي٫لأجل حكمة أرادتها مشيئة الله ! أراد الله ان تأكلي مع أمك التي لم تراك منذ أكثر من شهرين، أراد الله ان لا يحرمك من الجلوس مع أمك وأن لا يحرمها ويحرمكم كلكم من قضاء لحظة جميلة فيما بينكم !
وأضفت قائلا : ألآ أردّد على مسامعكم دائما أن رحمة الله أوسع ممّا نتصوّر ونأمل ؟
ابتسمتْ لكن ابتسامتها لم تكن ابتسامة عادية! كانت عريضة وعميقة تحمل في ثنايا الشفتين وسماء العينين شفافية غريبة تلمع بنبض التصديق، ووهج التسليم.
كانت عظمة هذه الابتسامة في بساطة ونصاعة رسالتها. كانت ابتسامة ثقة فيما يقوله الأب لابنته ! وكانت، في آن واحد، ابتسامة ثقة في الرب، في رحمة الله !
لماذا لم تستيقظ ابنتي لتناول سحورها ؟ {2}
وهذه الثقة تنقص الكثير من المسلمين الْيَوْمَ لأنهم يعيشون علاقة متوترة، مبنية على الخوف، مع دينهم وربهم ! وهذا الخوف يتحول الى خوف من الحياة نفسها ويجرّ الانسان الى عدم الثقة بذاته !
وعندما تكون الذات الفردية على هذا الحال فما بالك بالذات الجماعية التي تكوّنها وتنتمي اليها الذواتُ الضعيفة المهزوزة، الخائرة والخائفة من كل شيء ؟
هل يمكن لها ان تساهم في عمران ما ؟ هل تستطيع ان تكون خلاقة مبدعة ومنتِجة؟ هل بمقدورها ان تساهم في العطاء المعرفي والعلمي والحضاري فتدفع بنفسها، ومجتمعها والإنسانية التي هي جزء منها، الى الأمام ؟
أعود الى ردة فعل ابنتي. لم تكتف بالابتسامة بل قالت لي في حماس شديد: لن أضيع فرصة النهوض لأخذ السحور غدا فأنا عازمة أكثر مما مضى على النجاح هذه المرّة!
وهنا حصل ما سيجعلني أفهم السرّ الحقيقي بصدد إرادة الله. سمعت قلب ابنتي يتكلم ! وهذا شيء غاب عني في البداية. كانت إرادة الله ان لا تستيقظ ابنتي من أجل السحور، وأن تفطر، وأن تقضي وقتا سعيدا مع أمها بالقرب منها أكلاً وحديثاً وامتلاءً عاطفيا وحضوراً شعورياً لأن الله اضطلع على قلبها فعلم أنّها كانت صادقة ! وهل هناك شهادة أكبر على حب الله مثل الصدق ! صدق القلب ؟! كفى الله ابنتي عناءَ الصيام، وهو من الحقائق الربّانية الكبرى، وعوّضها بحقيقة ربّانية أخرى. هذه الحقيقة تتجلّى في عنايته بها بوجوده في قلب علاقتها بأمها. هكذا ظلّت حقيقة الصيام في حميميتها الإنسانية-الالهية متواصلة في شكلها الآخر المضاد الذي هو الإفطار ، بخيط رفيع من نور الرحمان الذي كان حاضرا في علاقة البنت بأمها !
وها أنا أذهب بعيداً في تأويلي، إنّني أدّعي كاْب أنّ في إرادة الله عدم ايقاض ابنتي لتناول سحورها حتى لا تصوم علامة على حبه لها !
وكم أتمنى وأدعو الله ان لا أكون خاطئا لأنّه إذا كان ما أحس به صحيحا فسوف أكون أسعد أب على وجه الأرض » !
انتهى نصّ صاحبي الراوي ! والحال، لا أخفي على القارئ أنّي أغبط هذا الأب الصديق !
الأخ حمودان عبد الواحد…القصّة رائعة ؛ وأروع ما فيها واقعيتها ؛ وهي تقع ضمن الرؤية الحضارية والإنسانية المؤمنة ؛ بعيدًا عن مفاهيم تقليدية لفهم الدّين وطقوسه.فعلًا رحمه الله أوسع بكثيرمما نعتقد ؛ أليس سبحانه من أسمائه الحسنى : الواسع ؟ لكن الجهلاء يحصرون السعة بالمظاهرالشكلية ؛ فهم يقولون لكنهم ينسون : إنّ الله لاينظرإلى صوركم ولكن ينظرإلى ( قلوبكم وأعمالكم ).وفي الواقع هم يتعاملون وينظرون إلى الصورة لا إلى الجوهرة المصونة المكنونة.ومن صفات الجنّة السعة.بكلّ مفاهيمها الواقعيّة والمكنيّة.وأوسع السعة : عمل الخيرمن دون غرض مسبق مما يحقق الراحة للجميع.وهل الراحة الحقيقية إلا أوّل درجات الجنّة في الدنيا والآخرة؟ انتهزهذه الفرصة لتقديم التهنئة بمقدّم عيد الفطرالأغر؛ جعله الله مناسبة راحة وسعادة على القراء بالصحة والخير.