كانت ليل ابنتي في الشهر السادس من عمرها عندما اجتمعنا في منزلي مع الفنان العراقي رضا العبدالله، وكنا نتحدث عن الأعواد وصناعتها عندما أمسك بيده أحد أعوادي وبدأ بعزف تقاسيم من مقام الحجاز.
انتبهنا فجأة إلى وجه ليل وقد قلبت شفتها السفلى واغرورقت عيناها بالدموع وبدأت حالتها كلها وقد تغيّرت إلى حزن عميق، انتبه رضا أيضا، وحالما بدأت ليل تبكي وهي تتابع أصابع رضا، قلب رضا المقام بسرعة وبدأ بعزف تقاسيم من العجم، وبلمح البصر، وكأننا أمام مشهد سينمائي قام مونيتير بتقطيعه عبر مونتاج سريع، انقلب بكاء ليل إلى ابتسامة خفيفة وحركة فرح عبرت عنها بدفع قدميها الصغيرتين، إلى ضحكة صافية خبأت خلفها الدموع.
هذا المشهد ظلّ في ذاكرتي، بل أني جعلت منه مدخلا لتجارب كثيرة على ابنتي قبل ان تتعلم المشي.، كنتُأحاول اختبار المشاعر الفطرية قبل ان تتدخل فيها قيم المجتمع.
في تلك الفترة كنتُ قد بدأت اصنّف الناس تبعا للمقامات، فهذا يشبه الحجاز، وتلك تشبه النهاوند وغيرها الصبا، تماما كما تصنف الأبراج الفلكية البشر، وبدأت أفكر انه بينما يكتب «المنجمون» عن الأبراج وما يقابلها من أحجار كريمة تناسب كل برج، الفيروز لهذا البرج والزبرجد لذاك، هناك أيضا مقامات موسيقية تنسحب على الشخصيات ومن الممكن أيضا ان تكون لها علاقة بالأبراج نفسها، وهذا ليس مجال اختصاصي لأفتي به لكنه مجال ملاحظة عميقة انبنت على متابعاتي لبعض الشخصيات وعلاقاتها بالمقامات وأنواع الموسيقى.
نقول ان «الناس مقامات» والموسيقى تندرج في المقامات وتعيش في السلالم صعودا وهبوطا، بل تتناغم وهي تصعد درجة وتهبط اثنتين ثم تعلو ثلاثا، ترقص على السلالم تماما كما باليرينا بارعة تتحرك بأخمص قدمها وبخفة فراشة.
المؤلف الموسيقي عندما يلحن، أحيانا تدفعه الحاجة لاختيار المقام أولا خصوصا إذا كان يقوم بعمل تأليف موسيقي لحدث معين أو لموضوع معين، فَلَو كان الموسيقي على سبيل المثال ينوي العمل على تلحين نشيد وطني فانه يذهب إلى الأبعاد الموسيقية»الدرجات أو السلالم الموسيقية» التي يشكل من خلالها ما يريد. وفي حالة النشيد الوطني نرى الغالبية من الموسيقيين يلجأون إلى الميجور الذي يوحي بالصلابة والصرامةوالجدية والقوة لان أبعاد التون فيه أصبحت عرفا لدى المؤلفين والملحنين الذي يعتبرونه مرادفا لكلمة وطن، عندما يُراد ان يكون هذا النشيد لتنبيه الجالس انه بإزاء ما يجب ان يقف ويلقي عليه السلام.
في الجنائز والقداسات المسيحية أو العسكرية الغربية منها أو الشرقية أيضا هناك موسيقى خاصة، وأغلبنا يعرف «الروكواييم» لموزارت «القداس»تلك الموسيقى الجنائزية التي استطاع فيها موزارت ان يقدم قمة عبقريته في نقل مشاعر إنسانية عميقة تجمع ما بين الخسران والفقدان وفي الوقت نفسه مشاعر إجلال لحدث الموت نفسه ووداع الميت بطريقة إنسانية تتنازعها مشاعر شتى من ألم وتمجيد وفي الوقت نفسه اعلان عن هذا الحدث لأي عابر قد يستمع من بعيد إلى صوت هذه الموسيقى فيقف للحظة مستغفرا للراحل.
الموسيقى بوسعها ان ترسل المستمع إلى عوالم تستخرج الدفين في داخله، بمعنى أننا قد نكون في حالة ضحك وما ان نمسك «الريموت كونترول» بين أصابعنا ونقلب المحطة الكوميدية إلىأخرى مثلا في اللحظة نفسها تقدم عمل موزارت، فإننا قبل ان نضع «الريموت كونترول» جانبا سندخل في الحالة التي أملاها علينا العمل الموسيقي نفسه. سيقوم موزارت بنبش دواخلنا كأنه يحفر بأداة حفر سريعة ليستخرج العميق المختبئ أو المتواري خلف الضحك.
أعود إلى ليل ابنتي، الحالة العفوية التامة، والتي لم تتشكل مشاعرها بعد الواضحة تماما تجاه الأشياء والمواقف، التي على سبيل المثال لم تشهد مأساة تعيد استذكارها عبر مقام موسيقي، ولم تشهد حدثا
كوميديا يجعلها تضحك، هنا اتساءل إذا نحن لم ننبش مشاعرها، لم نستخدم أي من أدوات الأطباء النفسانيين في استدعاء الباطن أو معاول الحفر لاستخراج مكنون الذاكرة القديمة، ما الذي يبكيها في الحجاز؟ ما الذي يضحكها في سلم مقام النهاوند؟ هل هي خبرات روحية سابقة؟ هل هو شيء مبني على علاقة بجينات معينة؟
وهل الجينة على سبيل المثال بوسعها ان تنقل المشاعر والأحاسيس كما تنقل الملامح والأمراض الوراثية أيضا؟ هل الموسيقى حدث أو احساس متوارث؟ هل ترتبط «السموات السبع» بألوان قوس قزح السبعة وبالسلالم الموسيقية السبعة؟ هل الموسيقى إذن ارتباط كوني بمعنى انها تعمل عمل «التيليباسي» أو التخاطر عنبعد؟ ما الذي يكوِّن داخل رضيع هذه المشاعر العفوية التي لم يتدخل مجتمع أو حدث في صياغتها بعد؟
هذه الأسئلة وغيرها الكثير دفعتها إلى ذهني لحظة عابرة قد تكون مرّت على عدد كبير من الأمهات تحديدا وهن يغنين لأطفالهن قبل النوم ولم يتوقفن عندها، أو اثارت دهشتهن للحظات..
هي أسئلة عميقة إطارها فلسفي عميق أيضا وتحتاج إلى بحث علمي فلسفي، وربما تأخذنا الإجابات على هذه الأسئلة وغيرها لسبر أغوار علم جديد يربط ما بين خبرات الروح والخبرات الموسيقية التي نراها عفوية وقد لا تكون هكذا أبدا..
دعوني اعتبر ان ما كتب هنا مقدمة أو مقالة ترغب بان تكون تفاعلية من خلال جمهور القرّاء، لعلها تصل إلى إيجاد ركائز تؤسس لبحث مغاير.
موسيقي عراقي
نصير شمه
آسف استاذي العزيز إنها المورثات وليست الجينات وطبعا لك كل التقدير والاحترام
انها المورثات حقا.
الموسيقى هي لغة انسانية يسمعها الجميع ولكن من يفهمها قلة, والطفل بوضعه الحيوي الحر يتفاعل بكل حرية ودون قيود مع ما يحطه وخاصة في بيئه موسيقيه.
أستجابت الطفلة ليل لنداء الحواس عند سماعها نوته موسيقية معينة جذبت انتباه والدها الفنان نصير شمة . أرجوا من الآباء والأمهات أن يعيروا الانتباه لنداء حواس أولادهم ويأخذوها بصورة جادة ، لأنها قد تكون أشارة لولادة مبدع أو فنان والذي هو عالم قائم بذاته.