يجمع أغلب الدارسين على أن الميلاد السياسي الحقيقي للإسلاميين، أو الخروج الأول لهم ارتبط بسياق ما بعد النكسة، وفشل الخيارات الإيديولوجية التي كانت مطروحة وقتها، وأن التأسيس المبكر لجماعة الإخوان، لم يثمر تجربة سياسية ذات بال، سوى ما كان من بواكير تأصيل لأهمية المشاركة السياسية، ونماذج محدودة من ممارستها، ومشاركة في حرب 1948، كان لها تداعيات خاصة على موقف النظم السياسية العربية والدولية من هذا التنظيم. والملاحظ أن عددا من الحركات اليسارية اشتركت مع الإسلاميين في هذا الخروج، لكن خيارها انطبع بالعمل من خارج النسق السياسي والميل أكثر للثورية، في حين انطبع الخروج الأول للإسلاميين بالبراغماتية، والميل للمشاركة في العملية السياسية، والرهان على توسيع الهوامش. ولم يتغير هذا الخيار الاستراتيجي للإسلاميين على طول عقد من الزمن، إلى أن جاءت الثورة الإيرانية، مؤذنة بالخروج الثاني للإسلاميين، وبداية رهان مكونات داخل هذا الطيف على فكرة الثورة. فإسلاميو تونس الغنوشي وسودان الترابي، وأيضا شبيبة مطيع في المغرب سارعوا قبل غيرهم لقراءة هذه التجربة، ويكيفون منهجية العمل الإسلامي في اتجاه الرهان على المسألة الاجتماعية والقوى الثورية، فيما بدت جماعة الإخوان، بحكم تنظيمها العالمي، ووجودها الواسع داخل دول الخليج، متحفظة وحذرة في قراءة هذا التحول، ومحافظة على خيارها في المشاركة السياسية، سوى ما كان من وضعها المؤلم في دول البعث وخاصة العراق وسوريا، إلى أن اضطرت الجماعة في الأخير، وبعد مضي سنوات على الثورة، إلى إعلان مسافتها منها ونقدها الحاد لـ«انحرافاتها» العقدية والسياسية.
خلاصة الخروج الثاني للإسلاميين، هو بداية حدوث الفرز في تضاريس مواقفهم الفكرية والسياسية، وحضور السياق المحلي والإقليمي كمحدد في السلوك السياسي للإسلاميين، مع تواصل تجربة المشاركة في العملية السياسية، باستثناء الدول التي تميز أفقها السياسي بالانسداد أو الحذر والتوجس من الإسلاميين، أو الدول التي أنهت جزئيا خيار الحزب الوحيد، ومالت لاعتبارات تخص بناء الشرعية السياسية لتنزيل خيار التعددية كما هو الحال في تونس، التي عرفت أول تجربة سياسية للإسلاميين في انتخابات 1989.
الخروج الثالث للإسلاميين انطبع مع نهاية الثمانينيات، ببروز خيار الاحتجاج السياسي، والالتصاق أكثر بالشارع، سواء بمتابعة زخم الانتفاضة الفلسطينية، أو تداعيات حرب الخليج، ومناهضة الوجود الأمريكي بالمنطقة.
من سوء الحظ أن هذه الأحداث الكبرى كان لها أثر كبير في فرز المواقف داخل الحركات الإسلامية، وبالأخص داخل منظومة الإخوان، بحكم الاصطفافات السياسية التي وقعت على خلفية الموقف من غزو العراق للكويت، والموقف من التدخل الأمريكي في المنطقة، لكن في العموم، لم تؤثر هذه الأحداث في تحويل رهانات المشاركة السياسية، وأقصى ما أحدثته أنها طرحت سؤال الأممية على المحك، ووضعت تجربة الإخوان في أزمة.
حصيلة هذا الخروج أن الإسلاميين في مختلف أطيافهم، خاصة الذين تبنوا خيار مناهضة التدخل الأمريكي، اكتسبوا تجذرا اجتماعيا غير مسبوق، وتوغلا في صفوف طبقات شعبية كان من المتعذر الوصول إليها، فضلا عن تحقيق تقاربات مع مكونات إيديولوجية وسياسية كانت تعيش خصومات احترابية معها، وبالأخص التيارين القومي و اليساري.
والملاحظ في الخروج الثالث هو امتداده، واستمرار سماته وآثاره لعقد آخر من الزمن، فقد تقوى الالتصاق بالشارع من جهتين، جهة دعم المقاومة الفلسطينية واللبنانية والتي توجت بالانتصار البطولي في حرب تموز، وجهة تقوية جبهة المعارضة من داخل النسق السياسي، وتحول الإسلاميين إلى الحركة السياسية المعارضة الأولى في جل الأنظمة العربية، أو على الأقل، تحولها إلى رقم سياسي صعب، دفع بعض الاستراتيجيات الدولية، وخاصة منها الأمريكية، إلى إعادة تكييف رؤيتها في اتجاه دعم تجربة الاندماج السياسي للإسلاميين، والاعتراف بدورهم في مربع السياسية. لكن، للأسف، ظهرت تحولات مقابلة كان لها أثر سلبي على هذا الخروج، دفعت العديد من المراقبين والدارسين لهذه الظاهرة للحكم على تجربة الإسلاميين بدخولها مرحلة الفشل، من ذلك محدودية الآثار السياسية لمشاركة الإسلاميين، ودخولهم مرات للسياسة بمنطق الخسارة في الانتخابات للحفاظ على مكتسبات الدعوة، ومن ذلك أيضا بروز الخلاف البيني الحاد الذي وقع لإسلاميي السودان داخل مربع السلطة، و إجهاض تجربة الإنقاذ في الجزائر، وتحول الجزائر إلى ساحة تصفيات سياسية ودموية بين السلطة والإسلاميين، ومن ذلك أيضا فشل المجاهدين الأفغان في تسوية خلافاتهم وبناء صيغة للحكم متفق عليها، تنهي الحرب، وتضمن الاستقرار، وتدمج كافة مكونات الطيف السياسي والجهادي، ومن ذلك أيضا استمرار محنة الإسلاميين في تونس وغيرها.
بعض الدارسين حاول أن يقرأ وضع الإسلاميين بعد الربيع العربي بنفس السمات السلبية السابقة، فأسس آصف بيات وليفي روي لأطروحة «ما بعد الإسلاميين» معلنين نهاية الدور وتجاوزه، لكن قراءاتهم، كانت محكومة بتحليل سوسيولوجية الحراك ودور الإسلاميين فيه، ولم يأخذ بعين الاعتبار دراسة مآلات السياسية في بعدها النسقي، ودور الإسلاميين كفاعل سياسي في ترتيب وضع ما بعد الربيع العربي، مما جعل رؤيتهم غير قادرة على فهم الخروج الرابع للإسلاميين، والذي انطبع بشكل شبه شامل بطابع تصدر المشهد السياسي، وتبني منطق الشراكة في الحكم، والبراغماتية في التعامل مع مكونات البيئة السياسية محليا وإقليميا ودوليا. عمليا، نعيش اليوم على إيقاع آثار الخروج الرابع للإسلاميين، والذي انتهى في مصر بانقلاب القوات المسلحة المصرية على العملية السياسية، وإسقاط تجربة الإخوان بتكتيكات للشارع والمجتمع المدني متحكم فيها، واستمرار تجربة الوفاق كل من تونس والمغرب لكن بتدخل في تكييف مضمونها وحرف مسارها الديمقراطي سواء بضغط دولي كما هو الحال في تونس، أو بتغول جماعات الضغط المتحالفة مع مراكز النفوذ في السلطة كما هو الحال في المغرب.
خلاصة الخروج الرابع، أن ثمة تدافعا شرسا في الرهانات، من جهة الإسلاميين لتثبيت خيارهم الإصلاحي، وبين خصومهم الذين يسعون لسحب القاعدة الاجتماعية الواسعة عن الإسلاميين، وحرفهم عن هويتهم الإصلاحية بتعريض بنيتهم لعطب المصلحية والزبونية ولعبة الامتيازات. لحد الآن، وإن وقعت بعض التحولات السلبية الدالة في شعبية الإسلاميين، وربما حتى في سلوكهم السياسي، فلا يزالون في كل من تونس والمغرب يمثلون القوة السياسية الأولى المرشحة للفوز بالعملية السياسية، وأن الانكسار الذي يمكن أن يمس حصيلتهم، لن يغير من وضع تصدرهم للمشهد السياسي، وإن كان سيجعل إمكانية تشكيل حكومات بجرعة إصلاحية تراكمية أمرا أكثر صعوبة، مما يعني استمرار أزمة أفق المشاركة وجدواها.
تقديري، أن أزمة استمرار السمات السلبية للخروج الرابع للإسلاميين، ستجد حلها بتوفر سياقات سياسية مغايرة، إقليمية ودولية ستكون لها انعكاساتها الاقتصادية والاجتماعية السلبية، بشرط أن تكون للإسلاميين القدرة على تحويل هذه التحولات إلى نقطة ضغط وطلب سياسي على مزيد من الإصلاحات السياسية والمؤسسية والدستورية. والتوقع، أن ما يجري اليوم من سيناريوهات سعودية إماراتية إسرائيلية أمريكية لحصار إيران وضرب القوة الإقليمية التركية، سيكون له في المدى القريب والمتوسط انعكاسات جد حادة على الدول التي تعيش هشاشة اقتصادية واجتماعية، وسيتسبب في تغير الاصطفافات بشكل غير مسبوق، بما يمكن من تحرير الفعل السياسي للإسلاميين وتخفيف التوتر بينهم وبين دولهم، إن توفر لهم الوعي لالتقاط هذه التحولات، وتحويل سلبيات الخروج الرابع، إلى خروج خامس، محكوم بإرادة سياسية لإحداث تحولات إصلاحية جذرية ذات طابع سياسي ودستوري ومؤسساتي.
٭ كاتب وباحث مغربي
بلال التليدي
الحركات الإسلامية في المغرب لا تنتسب لا في أدبياتها ولا في هياكلها لحركة الإخوان المسلمين التي تأسست في المشرق في أواخر العشرينات من القرن الفارط. من المعلوم أن في المغرب مدارس فكرية مختلفة تنصهر كلها في بوثقة التيار الإسلامي الذي يؤمن بالعمل السلمي بهدف الإصلاح والتغيير لعل أبرزها حركة العدل والإحسان وحركة العدالة والتنمية، الأولى رفضت الإنخراط في العمل السياسي بحجة عدم توفر الحد الأدنى من الشروط اللازمة لطرح وتقعيد مشروع إصلاح جدي في ظل القيود والعقبات التي تفرضها المؤسسة الملكية. فيما الثانية قبلت المشاركة في اللعبة السياسية بشروط المؤسسة الملكية، ويعتقد قادتها أن التغيير لا يمكن أن يتحقق إلا من داخل مؤسسات الدولة القائمة، وأن المرحلة تقتضي نصيبا من البراغماتية والمرونة لتمرير إصلاحات دون المخاطرة بأمن واستقرار البلد، مقتدية في ذلك بتجربة إسلاميي تركيا.
غير أن المؤسسة الملكية تمكنت من التضييق على التيار الأول ومحاصرته على امتداد الثلاث عقود الماضية، في المقابل نجحت في ترويض التيار الثاني واحتوائه، ليبقى المشروع الإسلامي للإصلاح والتغيير حبيس الأماني والرجاء إلى أجل مسمى!.
يصعب التنبؤ بمصير الحركات الإسلامية في الأوطان العربية لأن لكل قطر خصوصياته، فالنظام السياسي بالكويت والأردن سمح للتيار الإسلامي المشاركة في العملية السياسية دون حدوث صدام عنيف، في مصر والإمارات المشهد يختلف تماما، أما تونس فالعملية لازالت تعرف مخاضا بعد 8 سنوات على ثورة 2011، في المغرب النظام الحاكم لا يشبه لا النظام العسكري المصري ولا النظام العلماني التونسي، وبالتالي من المستبعد ترقب نهضة خامسة أو سادسة شاملة للتيار الإسلامي في عامة العالم العربي.
الأمر بكل بساطة أن القوى العظمى لا ترغب أن تتغير الأوضاع في العالم العربي في اتجاه انظمة حكم ديموقراطية تدافع بشراسة عن مصالح شعوبها وتحرم هذه القوى المهيمنة من مصالح وامتيازات ظلت تحافظ عليها لعقود بعد استقلال مستعماراتها، لذلك ستظل تدعم وتحمي بشكل غير مباشر الأنظمة الحاكمة في العالم العربي فلا الحركات اليسارية ولا الإسلامية بإمكانها أن تغير من واقع الحال شيئا. فلو قامت ثورة شعبية عارمة سيتدخلون لتسليح البعض وقصف الآخر حتى يتحسر الشعب ويقول:”يا ليث زمان الرق ولى”. أما إذا ناضل الشعب بوسائل سلمية لتحقيق شيء من الإصلاح والتغيير فهناك مائة وسيلة للإلتفاف على مطالبه الشرعية وإطالة عمر الإستبداد والفساد.