كان مجلس التعاون الخليجي مبادرة استشرافية من الدول النفطية الواقعة على الخليج العربي، المجلس أتى بعد الانسحاب المصري من الدور العربي وتوقيع اتفاقية السلام المنفردة مع إسرائيل.
وكان واضحاً في تلك المرحلة أنه لا دولة عربية أخرى تستطيع أن تحتل مكان مصر في المنظومة العربية، ومع أن الدول الخليجية وقفت وراء صدام حسين في حربه الطويلة مع إيران، إلا أنه لم يكن مطلقاً جزءاً من الخليج، بالمعنى الذي صنعته خصوصية الحالة الخليجية من كثافة سكانية متواضعة مع عوائد تستطيع أن تؤسس لنموذج خاص من الرفاهية.
إيران الثورة كانت منذ اللحظة الأولى تهديداُ للخليج، فحربها مع العراق كانت تعبيراً عن فكرة تصدير الثورة الإسلامية، على أساس الخروج من التناقض بين العرقين العربي والفارسي، فالإسلام كان يعني للإيرانيين هوية جمعية يمكن أن تلقى قبولاً من جمهور عربي كان يعاني من ارتدادات سقوط مشروعه القومي، واعتقدت الثورة الإيرانية لوهلة من الزمن أن مشهد استقبال الخميني في المطار بين الملايين من الحالمين بمستقبل أفضل، يمكن أن يمثل إلهاماً للمنطقة العربية، فحركة الاستقلال في الستينيات شهدت أثر الدومينو من بلد لآخر، وشهد العالم أثر نفسه في الحلول القائمة على الحكم العسكري، وفي تتابع سقوط الأنظمة العسكرية في اليونان والبرتغال وإسبانيا والأرجنتين في سنوات متقاربة.
إيران كانت تحتاج للتوسع من أجل معالجة اختلالات داخلية كبيرة وتصدير مختلف مشكلاتها إلى الخارج، فإيران ليست النموذج الدعائي الذي يتم الترويج له، وهي لا تختلف عن أي نظام في العالم الثالث، وفوق ذلك، تعاني من مجتمع غير متجانس أو متسق في الأطراف، يضغط على كتلة فارسية في الوسط، والتوسع في مدار إقليمي يجعل الإيرانيين يطبقون هرمية من العلاقات تجعل الأطراف منشغلة ببعضها، بما يخفف الضغط على الكتلة الصلبة للوجود الفارسي، ويمثل ذلك شكلاً من الهروب إلى الأمام بالمشكلة، وإعادة إنتاجها لدى أطراف أخرى.
التاريخ السحيق للإمبراطورية الفارسية يدلل على هذه السلوكيات، فالحرب كان تصنع عدواً يمكن من خلاله بناء وحدة المجتمع، أو إشغال الأقليات المضطهدة والمختلفة عرقياً من خلال مكتسبات التوسع، وهذه الفكرة أصبحت تشكل جزءاً من العقلية الايرانية وخبرتها التاريخية، فلكل شعب منطقة خاصة يمكن تسميتها باللاوعي الجمعي، وفيه يجري تخزين العديد من الميول العامة التي تؤسس لمواصفات مشتركة، ويمكن لمن يعرفها أن يتحكم بالشعوب بصورة تجعل أي محاولة واعية وعقلانية لمواجهته محكوماً عليها بالفشل. فهتلر من خلال تمكنه من الإلمام بعناصر العقدة الألمانية التاريخية استطاع أن يقود شعباً مثقفاً ومتحضراً للهاوية، وكذلك يمارس نظام الملالي اللعبة، ويحاول أن يمسك بيديه جميع تفاعلات الشخصية الإيرانية، وواتته الفرصة التاريخية لذلك بوجود منطقة الخليج العربي مكشوفة أمام مطامعه ومن دون كتلة صلبة تستطيع أن تمثل غطاء لها.
الخليجيون وجدوا أنفسهم بمفردهم بعد حرب الخليج، نظاما مبارك والأسد أسقطا ورقة التوت عن فكرة التضامن العربي، وذلك بعد أن انتهكها صدام حسين، فالتدخل المصري والسوري لتحرير الكويت كان يحمل صيغة الصفقة، من دون وجود معنى لمفهوم التضامن ومواصفاته، وبدأت العلاقة بين دول الخليج العربي والقوى السكانية العربية تتخذ منحى براغماتيا يدحض أصلاً دعاوى الدول الكثيفة سكانياً في أداء دورها (القومي) و(ذي الصبغة الأخلاقية) تجاه الخليج العربي، اليمن مثلاً عرضت توفير المؤونة السكانية مقابل أعطيات كبرى من دول الخليج العربي، وكان علي عبد الله صالح يصل بأسلوبه الابتزازي لتجريد حتى ما يؤمن به العرب، على المستوى الشعبي، من مقولات اعتبرت من الأولويات ومفروغاً منها.
الوضع ما زال قائماً مع بقاء مصر الشريك النموذجي للخليج العربي، فمن ناحية لا تمتلك مصر سلوكاً استحواذياً متأصلاً في عقليتها الشعبية والسياسية، ومحاولات التوسع جرت مع النهم الإمبراطوري لمحمد علي، ومع مغامرات عبد الناصر التي سعت لتشكيل القومية العربية، كما يفهمها هو، بوصفها حالة مناهضة للاستعمار، ومع أن ذلك صحيح لحد كبير، إلا أنه يهمل وبدرجة مخلة العوامل الأخرى المؤسسة للمشترك القومي بين الشعوب العربية، أو شعوب الدول العربية تحرياً للدقة.
الشرخ الطائفي أتى لمواجهة الطموح الإيراني بالدرجة الأولى، فدول الخليج العربية عايشت الهجرات من إيران، وصدرت أيضاً هجرات أخرى للجانب الإيراني، وهو الأمر الذي أدى إلى وجود الخريطة المذهبية على وضعها الحالي، مع أنها تغيبت لدرجة كبيرة في زمن الشاه، الذي حاول بناء نسخة قومية من إيران بدأت من استعادة تقاليد الامبراطورية القديمة، ووصلت إلى الدخول في العلمنة التي استدعت وجود كتلة صلبة للثورة بين المتدينين، خاصة بعد تراجع اليساريين وقطاع كبير من أبناء الطبقة الوسطى في أعقاب الانقلاب على مصدق.
اليوم من الصعب إعادة عقارب الساعة للوراء، والخليج بحاجة للنظر في الهيكل السكاني الذي تعانيه معظم دوله، ربما باستثناء عمان، وهذه الحالة ستجعل من متطلبات مرحلة مقبلة التركيز على سياسة تستطيع أن تعيد للتضامن العربي بعضاً من أولويته على الأجندة الخليجية، وبالطبع لا يمكن تحميل الخليج وحده مسؤولية إعادة إنتاج مفهوم التضامن العربي لوحده، فالدول العربية الأخرى بحاجة لأن تتحدث للخليج العربي خارج المثاليات التي حكمت العلاقات بين الطرفين، وكان من السهل أن تتحول إلى صفقات صريحة ومؤلمة من الناحية النفسية للطرفين.
سياسة الخليج بعد غزو الكويت أخذت تتجه لتغيير المعادلات القديمة، مع التعويل على الملاذ الأمريكي الأخير، ولكن الحالة الراهنة وضعت الأمريكيين في مزاج مختلف تماماً عما كانت عليه الأوضاع في التسعينيات، والأمريكيون اليوم لا يبحثون عن مكان في المنطقة، وأصلاً يبدو أنهم يحاولون التخفف من مسؤوليات سابقة تطورت في ظروف مختلفة، ولا يستطيع الأمريكيون الاستثمار في اسرائيل وتركيا وايران والسعودية والعراق وكردستان، في الوقت ذاته، ويمكن للقارئ أن يتأمل من جديد ترتيب الخيارات الأمريكية في المنطقة ليدرك أن استرضاء الأمريكيين لإسرائيل سيبقى قائماً لدورهم في إدارة دفة اللعبة الانتخابية في الولايات المتحدة، وتبقى تركيا حليفة شمال الأطلسي، وبقية الدول المذكورة تصبح تفاصيل يمكن التعامل معها بأسلوب القطعة، ويمكن أن تدفعها الحسابات السياسية لمراجعة قائمة أولوياتها الاستراتيجية بطريقة التخلص من الحمولة الزائدة.
التحالفات العربية والإقليمية أحد الخيارات المهمة أمام منطقة الخليج العربي، على أن تأتي ضمن معادلة جديدة تستطيع أن تستوعب أن الأمر يتجاوز التنظير، حول انتقال الثقل العربي من المراكز التقليدية نحو المراكز الجديدة في منطقة الخليج، وأنه يتعلق بتكامل قائم على تفهم التهديدات التي ستنعكس على الجميع بصورة أو بأخرى، ومنطق مثل الحصول على الدعم مقابل الحماية لم يعد مناسباً لمرحلة جديدة في المنطقة تتغير فيها التوازنات القديمة.
دول الخليج تدخل اليوم منحى مهما تاريخياً، ومعها دول حزام الربيع العربي، والكتلتان في مرحلة مراجعة واسعة للافتراضات التي انبنت عليها سياسة قرابة نصف من العلاقة بين الدول الخليجية ومحيطها العربي، وكانت تحفل كثيراً بسوء الفهم والمجاملات التي عمقته وجعلته أحد المغالطات الكبرى التي تعيق تقدم المشروع العربي المشترك.
٭ كاتب أردني
سامح المحاريق
انا من المعجبين بكتابات الشاب سامح المحارق الا اني اعتقد انه جانب الصواب في هذا المقال.