الخيارات المعادية للنظام الإنساني

أعلنت أمريكا رسميّا عام 2002 قبل تدمير العراق، وذلك في الصياغة الخطابية الرسمية لاستراتيجية الأمن القومي، أنّها لن تسمح لأي دولة بأن تبني قوة عسكرية يعتدّ بها، مُؤكدة على أنّ القوات العسكرية الأمريكية «يجب أن تكون قوية بما فيه الكفاية لثني الخصوم المحتملين عن مواصلة بناء قوة عسكرية بأمل مضاهاة القوّة الأمريكية أو تجاوزها.
حاولت الولايات المتحدة بذلك المحافظة على عالم أحادي القطب لا مكان فيه لندّ من شأنه أن يُزاحمها هيمنتها وسيطرتها، ولكن بدايات الألفية الثالثة، خاصة العقد الثاني منها، كشفت بوضوح تغيّر التوازنات الدولية، واليوم يتّضح بشكل جلي حضور روسيا والصين اللتين أعادتا توازن العلاقات الدولية، ولم تعد الهيمنة الدائمة التي أرادتها الولايات المتحدة ممكن استمرارها، وغدا زعيم الكون بالأمس عاجزا هذه الأيام متلكّئا مضطربا في قراراته، مفضوحا في سوء نواياه، ومثال ذلك ما اتّخذته إدارة أوباما في أيّامها الأخيرة من إجراءات ضدّ روسيا.
وفي المحصّلة يكشف تاريخ الولايات المتحدة التي أسقطت الكثير من الحكومات الديمقراطية، بدءا بغواتيمالا سنة 1954 وصولا إلى تدمير العراق وليبيا وفعلها التخريبي المباشر في سوريا، عقيدة دولة تتجاهل القانون الدولي وجميع المؤسسات الدولية، فهي غير ذات قيمة أمام الامبراطورية التصحيحية، كما يسمّيها جون ايكنبري خبير الشؤون الدولية المعروف، ومثل هذه العقيدة في التعامل جعلت العالم أشدّ خطرا من أيّ وقت مضى وأكثر انقساما وأقسى عنفا، جرّاء مشاريع الهيمنة الأمريكية التي خلّفت دمارا في العديد من دول العالم، خاصة الشرق الأوسط، وكان من شأن مثل هذه الأفعال أن تضع الالتزام بالديمقراطية وحقوق الإنسان محلّ تساؤل كبير، ضمن أطر زيف الادّعاء بتبنّي مثل هذه المفاهيم، فالازدواجية والمعيارية هي العنوان الكبير الذي يسم الإدارة الأمريكية مُحافظين جُدُدا أو غيرهم.
ولعلّ العقائد النيوليبرالية هي العنوان الكبير للهيمنة غير العابئة بمصير الشعوب وهي المُخرّبة للاقتصادات الوطنية، فمخلّفاتها كارثية في تقويض التعليم والصحة وتكريس اللامساواة وتخفيض دخل العمّال، وهي تأثيرات مدمّرة للسلم الاجتماعي، فالنيوليبرالية أدّت إلى ارتفاع ملحوظ في الفقر والحرمان لدى أمم وشعوب العالم الأكثر فقرا بطبعها، وكشفت عن بيئة عالمية مُفزعة ومُفجعة، ولم يعد الاقتصاد العالمي يشهد توازنا، وإنّما سمته التقلّب، وهي موجة عارمة أكسبت الثروة الطائلة للأغنياء الذين ينشرون الدعاية الكاذبة ضمن سياقات تحرير الأسواق، بأنّ ثمار النيوليبرالية سوف تعود بالنفع على الفقراء وسيعُمّ الخير الجميع تدريجيا. وفي الحقيقة السياسات النيوليبرالية ضاعفت المشكلات الاقتصادية وفاقمتها وعمّقت تفقير الفقراء وزادت في حجم التفاوت بين الشمال والجنوب.
في غياب البديل المنافس للمُنصف النيوليبرالي، يستفيد دعاة النيوليبرالية ويتمسّكون بمثل هذه الورقة الرابحة، كما يسمّيها ماك تشيزني، آخذين في الاعتبار فشل سياسات المجتمعات الشيوعية والديمقراطية الاجتماعية ودولة الرفاه الاجتماعي، مؤكّدين على أنّ النيوليبرالية تمثّل النظام الاقتصادي الوحيد المُمكن. وهو تحدّ بالنسبة إلى الدول العربية المتضرّرة اقتصاديا، والتّابعة ماليّا التي تجد نفسها أمام ضرورة التفكير من جديد في دلالات مثل تلك السياسات وتقييمها اجرائيا، وأن تفتح من جديد صفحات من تفكيرنا العقلاني، السياسي منه والعلمي خصوصا، وفق ما تدعو إليه شروط السياق التاريخي الجديد وما تطرحه مكتسبات العلوم الإنسانية المعاصرة، بالنظر إلى تحدّيات العصر وطبيعة العلاقات الدولية التي تحكمها المصالح بالدرجة الأولى، وهي مصالح متغيرة بتغيّر المحاور والتحالفات الجوسياسية ومن يرفض الاستماع وينظر بعين الارتياب لهذا المعطى المكشوف اقتصادا وسياسة، ستبقى محاولاته ضربا من المجهود العبثي لا طائل من ورائه.
كاتب تونسي

الخيارات المعادية للنظام الإنساني
 
لطفي العبيدي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية