القاهرة ـ «القدس العربي»: يعتبر (1938 ــ 2016) من أهم التشكيليين المصريين، سواء من خلال تجربته الفنية المتميزة والمغايرة لأبناء جيله، أو أسلوبه الذي عثر عليه وأصبح سمة دالة على الفنان. وما بين التعبير الرمزي، ومحاولة مزج الأساطير الشعبية بحكايات الفقراء وأحلامهم تجسدت أعماله، وأصبحت عالماً بذاته، لا يتشكل من الواقع، بل يتشكل ما يوحي بالواقع من خلال هذه الأعمال. واللافت هنا في تجربة شفيق أنه رغم ابتكاره لرموزه، الحصان، والسمكة، والقط، ومحاولة وضعها شكلاً وتكويناً ضمن الحِس والإطار الأسطوري، فهي لم تعد تدل على وجودها في الواقع، بل أصبحت تدل بذاتها على خيال الفنان الذي صاغها. من ناحية أخرى، ورغم تعامل الفنان مع خامات متباينة واستخدام اللون في اللوحة، إلا أن ما اشتهر به هو العمل من خلال الأبيض والأسود، هذا التقابل الحاد ما بين اللونين، لكنه في الوقت نفسه يعد تقابلا بين حلم أسطوري يتم التأسيس له دوماً، وبين شكل وقائعي أصبح لا وجود له في عالم اللوحة وخيال صاحبها، وبالتالي خيال ووعي المتلقي.
بين الحلم والأسطورة
بهذا العنوان يصدّر الفنان التشكيلي والناقد عز الدين نجيب كتابه عن تجربة الراحل جميل شفيق، محاولاً تتبع رحلة جميل ورؤيته الفنية التي اكتملت وتأكدت من خلال رموزه التي تتكرر في تواتر يعطيها حق الوجود، كحالة من التناغم مع الطبيعة والمخلوقات والكائنات، حالة من الهدوء والسلام، رغم صراع لا ينتهي، سواء صراع على الرزق، كما في عالم الصيد، ومجموعات الرجال التي تنتظر البحر أن يجود ويمنحهم ما يريدون، أو صراع مأساوي في حالة عشق الرجل للمرأة، المرأة التي تبدو قوية على الدوام، واثقة ومتأكدة من وجودها، والرجل الذي يدور في فلكها، ويبدو أكثر قلقاً وتوتراً، وهو تباين حاد بين ثقة المرأة وحال الرجل، الذي ساوى بينها وبين البحر ومنّاته التي يحلم بها على الدوام.
وعي الفنان والوعي الشعبي
يُشير نجيب في مؤلفه «جميل شفيق … بين الحلم والأسطورة» إلى طقس ينافس غواية الرسم لدى شفيق، ألا وهو (مولد السيد البدوي) هنا كان يمتزج الطقس بالمتعة، والعقيدة بالخرافة، والواقعي بالغرائبي، فالوجدان الجمعي يستحضر معجزات القديسين والأولياء كحقائق لا تقبل الشك، كوجود السيد البدوي في مكانين في الوقت نفسه. كذلك مشاهد الزار واستخراج العفاريت. ففي هذا العالم الأسطوري تكونت مفاهيم الرجل، ولم تفارقه طوال حياته، وتمت ترجمة هذه الاعتقادات في أعماله، التي تواترت فيها الرموز، كمحاولة لتجسيد أساطيره الخاصه، والإصرار عليها، رغم تباينها وتنوعها، لتشكل معتقد جديد في عالم التشكيل.
الرموز ودلالاتها
إنحصرت رموز شفيق في خمسة أشكال، تجتمع أو تتفرق في اللوحات، هي، السمكة، والحصان، والقط، الرجل/الصياد، والمرأة. إضافة إلى العديد من العناصر الثانوية كالعصافير والديكة والغربان والعازفين والراقصات. وما بين الأجساد العارية للرجل والمرأة، وبين تناغم الحيوانات والمخلوقات تبدو حالة الفطرة الأولى، والبحث عن سلام واتزان كوني. فتعرية الجسد هنا لم تكن ضمن الإيحاء بإثارة أو ما شابه، لكنه امتزاج مع الطبيعة في صورتها الأولى. وهناك دوماً حصان ينتظر في خلفية اللوحة، ينتظر أن تتحقق حالة العشق بين الرجل والمرأة، لتصبح الأسماك التي اجتهد وخاطر بحياته كقربان مثالي يليق بكسب قلب المرأة، فقط لنيل ثقتها، والارتضاء بحالة الحب هذه. وما القط بدوره إلا امتداد لمخلوق مقدس في الحضارة المصرية القديمة، كما أنه يحمل صفات غاية في التناقض، كالمكر والخداع، والتعويذة ضد عالم السحر، فقد يكون فقط حارساً لأرواح الرجال في البحر، وأن يصبح دليلاً في الصحراء، وتارة أخرى يصبح قوياً لئيماً يسطو على قربان الرجل ــ السمكة ــ في قوة وتحدٍ كبير.
تجربة النحت
ومن تجارب جميل شفيق الأخيرة كانت تجربة النحت، هنا يترك شفيق التصوير ويبدأ من خلال خامات أخرى محاولة أن يجسد رؤاه نفسها، فنقل عالمه إلى مجال النحت، الأشكال والتكوينات نفسها ولكن في صورة أكثر تجسيماً وإيحاء بالحركة. المخلوقات نفسها تتواتر في منحوتات، الحصان، والطائر، وراقصة المولد، والمرأة والرجل والأسماك بينهما. الكائنات هنا في حالة فعل دائم وحركة مستمرة، بحيث على المتلقي استكمال الفعل من خلال مخيلته، لحظة تتجسد عليه أن يعرف ماضيها ويتنبأ بمستقبلها، كما لا يخلو الأمر من دراما رومانتيكية، كموقف بين رجل وامرأة، يحتويها بلمسة من يده، وتنظر إليه في حالة من التواصل القوي.
الخطوط والتكوينات
الملاحظ على خطوط جميل شفيق أنها تبدو منحنية في أغلبها، فلا نجد خطوطاً حادة ومستقيمة، سواء كائنات أو شخوص، رجلاً أو امرأة، هنا يصبح الإيحاء بالـ (التأنيث) تأنيث عالم اللوحات، فلا فارق بين قط وحصان ورجل، وامرأة بالطبع. هنا من السهل أن يحتل حصان أو قط اللوحة مع المرأة، دون وجود للرجل. فالعالم مؤنث، والطبيعة بدورها تحمي نفسها ووجودها بكونها مؤنثة. وما التأنيث إلا حالة من الكمال لكل ما يشكو من نقص، وهذا يحيلنا إلى ثقة المرأة وتوتر الرجل الدائم. أما تكوين اللوحات، فتبدو المرأة دائماً في الصدارة، وفي أعمال قليلة يتساوى كل من الرجل والمرأة، وهو ما لا يتحقق إلا في حالة احتضانها له، وأن ترتضي في النهاية أن تكون له المأوى. دوائر قد تكتمل أحياناً، أو تقف عند حدٍ مدروس، وهنا تبدو الحالة الصوفية ــ ليس في شكلها الفج المُستهلَك ــ تواصل مأمول لا ينتهي، واحتفاء إن تحقق، وصلاة مستمرة حتى ولو تحقق في حلم. الدائرة كتكوين تتردد كنغمة أساسية في أغلب اللوحات، صيادون يتحــلقون حــــول الأسماك، بعد النجاح أخيراً في الصـــيد والعودة من البحر. أو تكوينات دائرية يقف بها على مسافات متباعدة نساء يحتضن الرجال، وكأنها حالة مزمنة من الحلم، من خلال هذه الدوائر التي توحي بمتاهات الصحراء، وسرابها الذي لا ينتهي.
• جميل شفيق من مواليد طنطا عام 1938، تخرج في كلية الفنون الجميلة في القاهرة قسم تصوير عام 1962. عضو في نقابتي التشكيليين والصحافيين. عمل كرسام صحافي منذ عام 1959، ثم خبيرا فنيا في المنظمة العربية للتربية والثقافة والفنون/ألسكو من 1979 إلى 1984. أقام العديد من المعارض، كان أولها في العام 1989 وقد تعدّى الخمسين. إضافة إلى العديد من المعارض الأخرى، منها معرض أبيض وأسود في أتيليه القاهرة 1992، 1994. معرض في قاعة اكسترا، الزمالك عام 2008، كما شارك في العديد من المعارض الجماعية في مصر والخارج. حصل على عدد من الجوائز، منها جائزة لجنة التحكيم/رسم في بينالي الإسكندرية الثامن عشر لدول حوض البحر المتوسط 1994.