في خضم الأحداث المأساوية التي يعيشها العراقيون، يوميا، وتدهور مستوى الخدمات الأساسية المرتبطة بأولويات حقوق الانسان، ومنها في مجال التعليم، يبدو أن فتح كوة صغيرة من الأمل، مسؤولية لا يمكن للمثقف، ان يغض النظر عنها، لئلا يجهض احتمال ان يكون هناك مستقبل، ولئلا يموت الناس كمدا. فسحة الأمل التي أود الأشارة اليها، فيما يخص الوضع العراقي، هي اصدار عدد خاص من المجلة الدولية للدراسات العراقية المعاصرة ( IJCIS )، بمناسبة مرور عشرة أعوام على تأسيسها والصادرة عن «الرابطة الدولية للدراسات العراقية المعاصرة».
أسس الرابطة مجموعة من الأكاديميين والناشطين العراقيين والعرب والغربيين، بدعوة من بروفسورجاكلين اسماعيل وبروفسور طارق اسماعيل، وتم اللقاء الأول، عام 2004، بلندن، حيث تم الاتفاق على تأسيسها ووضع برنامجها واهدافها، ولعل أهمها: أن ترعى الرابطة الدراسات والبحوث المختصة بالشأن العراقي من اجل بناء الجسور بين الاكاديميين العراقيين من داخل وخارج العراق مع الجامعات ومراكز البحوث والدراسات الاجنبية، واستنادا إلى الرغبة في احترام القيم الاكاديمية الهادفة إلى فهم اعمق لعراق موحد، ديمقراطي، تعددي وغير طائفي.عراق مستقل من الاحتلال وأي تدخل اجنبي.
وجاء اصدار المجلة المحكمة أمرا مسلما به وضرورة اقتضتها الحاجة إلى تغطية نقص واضح، في الاوساط الاكاديمية، يعنى بالدراسات العراقية المعاصرة. وكان أحد اهداف الهيئة والدورية، معا، ومنذ البداية تشجيع المساهمات الأكاديمية العراقية العربية، ليكون للصوت العراقي، بحثا وتحليلا ومحاولة فهم لما يجري في العراق، موقعه العالمي، وأن يكون للصوت العراقي حضوره ورؤيته، وعدم اقتصار تمثيله على الغربيين فقط، مما اتاح مجالا، يفتح لأول مرة، أمام الأكاديميين والباحثين العراقيين، لرأب الصدع الأكاديمي/ المعرفي الذي بات ميزة لا تنكر بينهم وبين الأكاديميين، في بلدان أخرى، نتيجة سنوات الحصار والحروب والأحتلال الانكلو أمريكي وما صاحبه من استهداف منظم للعلماء والاكاديميين، حيث أغتيل ما يزيد على 400 أكاديمي وتربوي « للقضاء على النخبة الفكرية بما قد يشكل عملية ابادة للتعليم»، حسب هانز فون سبونيك، المبعوث السابق للامم المتحدة في العراق.
المفرح في اصدار العدد الخاص من الدورية المحكمة، بالاضافة إلى غناها الاكاديمي البحثي المعرفي، هو مثابرة المؤسسين لها جاكلين وطارق اسماعيل (جامعة كاليغوري)، ورئيس تحريرها الحالي بروفسور ويليام حداد (جامعة كاليفورنيا)، التي لم تضعف على الرغم من تراجع الاهتمام السياسي العام بالعراق، بل والرغبة في نسيان وجوده، المنعكس بالتالي على الاوساط البحثية الاكاديمية ذات الارتباط الوثيق بالمنح والمساعدات المادية من المؤسسات ذات العلاقة. يفسر بروفسور رايموند بيكر، وهو أحد مؤسسي الرابطة، الصمت المحيط بالجرائم التي ارتكبت ضد العراق، ثقافيا وبشريا، بضخامة البؤس البشري الذي فرض عمدا وحجم الدمار الثقافي، ووجود مشروع تم التخطيط المسبق له لتنفيذ الدمار، بالاضافة إلى تلوث العلوم الاجتماعية السائدة، أكاديميا، باوهام التنمية والتحرر الامبريالي، مما يجعل من المستحيل اجراء تحقيق علمي منهجي اجتماعي في جريمة دولية سببت تدمير دولة قائمة وتقويض مؤسساتها الثقافية.
لم تقتصر المثابرة على الدورية، وهي الوحيدة المختصة بالشأن العراقي، عالميا، بل وصاحبها الاصرار على مواصلة عقد مؤتمرات الرابطة، رغم الصعوبات المادية والتنظيمية، خاصة فيما يتعلق بحضور الاكاديميين العراقيين الذين يعانون من عرقلة أو استحالة الحصول على فيزا من العديد من بلدان العالم، ولو كان خروجهم للمساهمة في مؤتمر أكاديمي، مما يعيق التطور المعرفي وبناء الجسور مع الاوساط الاكاديمية. ويثير موقف عدم منح الفيزا للاكاديميين العراقيين المرارة، خاصة، إذا كان صادرا من بلد مثل مصر، يقدم نفسه للعالم كحاضنة للفكرالعربي والعروبة، وكما حدث عند انعقاد المؤتمر الأخير للرابطة في مصر، وهو موقف مماثل في سياسته لكيفية تعامل السلطات المصرية مع الفلسطينيين، ومنع تواصلهم مع العالم الخارجي.
عقدت الرابطة خمسة مؤتمرات، كان أولها في لندن،2005، وآخرها بالقاهرة في 2015. تم فيها تقديم دراسات مختصة عن الشأن العراقي من قبل اساتذة وباحثين من جميع انحاء العالم من عراقيين وأوروبيين وعرب. كان من بين محاور المؤتمر الأخير الأقتصاد، القوى التقدمية بالعراق، استهداف الثقافة العراقية، الأدب والذاكرة في العهد الملكي، السينما والسياسة في الداخل والخارج، التعليم العالي والمجتمع المدني، العراق والولايات المتحدة والحرب على الإرهاب، بالاضافة إلى مائدة مستديرة حول امكانيات وصعوبات النشر الأكاديمي.
ان استمراية بقاء الرابطة ونجاح المجلة الأكاديمية المبني كله على العمل التطوعي البحت، لقلة من الاكاديميين العراقيين وغيرهم، يرينا، نموذجا بسيطا، لامكانية القيام بانجازات مهمة وبعيدة المدى، تخدم الصالح العام، العراقي والعالمي في آن واحد، مع تبني موقف سياسي سليم يضع صالح الشعب العراقي وتقدمه المعرفي بالدرجة الاولى. وهو ليس بالامر المستحيل إذا ما توفرت النية الصادقة. كما يدفعنا عمل الاكاديميين جاكلين وطارق اسماعيل، إلى تصور ما كان في امكان الاكاديميين العراقيين القيام به من انجازات في كافة مجالات المعرفة، لو توفرت لهم حكومة وطنية مخلصة تمثلهم وتدعم مبادراتهم، لا ان تستهدفهم بالقتل والتهجير تنفيذا بالنيابة لمخططات المحتل في انهاء الدولة وتفكيك مؤسساتها بأنواعها.
وهذا ما يلخصه ريموند بيكر في دراسة له نشرت في مجلة رابطة الدراسات: «فالمحتلون سواء كانوا من الروس او الالمان او الفرنسيين او الاسرائيليين أو الأمريكيين، فهموا، وفي كل مكان، ان انهاء الدولة سواء في بولندا او الجزائر او فلسطين او العراق، يعني الهجوم على الطبقة المثقفة. ان العلماء واساتذة الجامعات والشعراء هم تجسيد لافكار وذكريات ومشاعر انسانية تجمع حياة الامة في قلوب وعقول الشعب. لذلك يلوح اغتيال المثقفين في الافق، دائما، عندما يسير المحتل القوي نحو انهاء الدولة».
٭ كاتبة عراقية
هيفاء زنكنة
وهل تبقى هناك أكادميين بالعراق ؟ أليس الجهل هو سيد الموقف هناك ؟ إلا إذا كان هناك أكاديمون من الحوزة !
ولا حول ولا قوة الا بالله