صنعاء ـ «القدس العربي»: لم يتوقف الإنتاج اليمنيّ للدراما التلفزيونية خلال سنوات الحرب الراهنة، إذ تواصل كعادته الموسمية من خلال عدد من الأعمال الرمضانية عرضتها قنوات تلفزيونية حكومية وغير حكومية.
ورغم أن التجربة الإنتاجية التلفزيونية اليمنية للدراما تتجاوز العقد الثالث، إلا أن عدد الأعمال التي اُنتجت وعُرضت منها ما زال محدوداً، وقد لا يرقى للخمسين عملاً، علاوة على أنه لا يوجد إحصاء دقيق أو معلومات رسمية لرصيد ومسارات هذه التجربة في دلالة واضحة على وضعها ومساحة حضورها.
منذ اشتعال الحرب الأهلية والخارجية في اليمن في آذار/مارس 2015 أُنتج عددٌ من الأعمال سُخّر بعضها لخدمة أهداف طرفٍ في الحرب، وبعضها رأى منتجوها الهروب من مأزق الحرب إلى الإغراق في الترفيه في تناول هلامي لموضوعات أصبح معها الترفيه أٌقرب للتهريج منه للكوميديا، وهو، للأسف، ديدن معظم الأعمال التي اُنتجت في السنوات العشر الأخيرة. وكان للأحداث، التي شهدتها البلاد خلال هذه السنوات، دورها في الإمعان في تسطيح هذه الأعمال فوق ما كانت الإدارة الإعلامية الثقافية لنظام الحكم السياسي في المرحلة السابقة قد كرّست تسطيحها وإفراغها من دورها التنويري خدمةً لانحرافات السياسي. وليس ببعيد ما شهدته تجربة مسلسل «حكايات دحباش» 1991-1993 من منع سياسي بتهمة ما قيل –لاحقاً، أن المسلسل يشوه صورة الإنسان اليمنيّ، وإن كان العمل تعامل مع واقع الشخصية العادية لاسيما في شمال اليمن برؤية كوميدية نقدية. وكذا مسلسل «الطاهش» الذي تعرض لموجه سخط قبلي أوقفت عرضه لأسباب متعلقة بالأسماء. ومثل هذا ليس سوى أمثلة لبعض المشاكل السياسية والاجتماعية التي أسهمت مع عوامل أخرى في إفراغ الدراما التلفزيونية ضمن معاناة شملت الفنون عموماً، من نسبة كبيرة من الروح الفنية والتناول الموضوعي، وبالتالي غياب فاعليتها التنموية.
رؤية إنتاجية واخراجية
مِن بين آخر ما قدّمته هذه الدراما هذا العام يبرز مسلسلا «الدلال» الذي عرضته قناة «يمن شباب» و»حاوي لاوي» الذي عرضته قناة «السعيدة» في رمضان الماضي. وعكس العملان واقع حال الدراما، وما وصلت إليه جراء افتقادها لرؤية إنتاجية وإخراجية وثقافية ترتقي بعملها الفني وتناولها الموضوعي ودورها التنموي على صعيد علاقتها بالتعبير عن واقع المجتمع والاسهام في تقدمه، ونتيجة لغياب تلك الرؤية بقيت الأعمال في معظمها، خلال السنوات الأخيرة، تكرر نفسها وتؤطر علاقتها بالمجتمع اضحاكاً أجوفا أكثر منها تعبيراً مسؤولاً عن مشاكله وتطلعاته، فتأتي مغتربة اجتماعياً ومستلبة كوميدياً، حيث تبدو في شخوصها وموضوعاتها بعيدة عن بيئتها، متخلية عن نسبة كبيرة من روح تجربتها كدراما من حيث غياب انفعال الفعل ورد الفعل وضعف حبكتها وتجاهل فجوات كبيرة بين أحداثها وتركيز اهتمامها على السخرية الفجة. ومن خلال كل ذلك بقيت هذه الدراما في السنوات الأخيرة تسجل تراجعاً عما كان عليه وضعها قبل انطلاق قنوات تلفزيونية يمنيّة غير حكومية، والتي ظهر بالتوازي معها عدد من شركات الإنتاج الخاص، وكل ذلك كان يعوّل عليه أن يُسهم في إحداث نقلة نوعية في تجربتها، إلا إن هذا القطاع ممثلاً في القنوات غير الحكومية وبعض شركات الإنتاج، ومن خلال ما قدمه من أعمال في السنوات الماضية خيّب آمال مَن كانوا يعتقدون أن توليه زمام القيادة والمبادرة في إنتاج هذه الأعمال سيكون الحل لتجاوز مشاكلها، ليتضح بذلك أن المشكلة أعمق بكثير، حيث بقي تطوير الدراما خارج أهداف تجارب إنتاج القطاع الخاص، وبقيت القيادات الإدارية للعمل الإعلامي والإنتاج الفني في القطاع الخاص تعاني من مشاكل قيادات القطاع الحكومي نفسها في هذا المجال فكانت المحصلة أعمالا هـشة يتم إنتاجها بهدف الفوز بنسبة تمويل إعلاني يحقق فائض ربح مناسب بصرف النظر عن قيمة العمل الدرامي وهو ما أصبح معه تكريس وضعها الضعيف هدفاً غير مباشر.
سخرية فجة
مَن يتتبع ما اُنتج منها خلال السنوات العشر الماضية سيلاحظ مدى الإصرار على مواصلة تقديم أعمال محلية لا قيمة فنية لها وغير قابلة للتسويق العربي، بل إنها تبقى غير قادرة على منافسة المسلسلات العربية في أولويات المشاهدة لدى المشاهد المحلي باستثناء أعمال قليلة جداً لا تكاد تذكر، بينما معظم الأعمال تفتقد لنص متماسك يتمحور حول موضوع حيوي منظوم في سياق خطاب غير مباشر ويعتمد حبكة متقنة تنضبط في خيوطها منطقية الأحداث وتصاعدية صراع الفعل الدرامي. وهذا مرجعه أن المُنتج لا يلتزم بشكل دقيق بمعايير العمل الفني حتى على مستوى العلاقة بملابس ومكياج الممثل وفي علاقة العمل بكثير من عناصره من كًتاب وممثلين ومصورين وغيرهم، لأن الالتزام الفني هنا مكلف مادياً ويحتاج وعيا تنافسيا، كما أن الالتزام الموضوعي قد يعرضهم لخصومة مع طرف ما، فتكون المحصلة كما هي عليه أعمال السنوات الأخيرة، والتي سجلت تراجعاً عما كانت عليه قبل انطلاق فضائيات التلفزيون اليمنيّة الأهلية. فمسلسل «كيني ميني» و»عيني عينك» و»همي همك» وغيرها من الأعمال التي جاءت على منوالها في شاشات التلفزيون الحكومي وغير الحكومي على حد سواء بقيت تعاني اهتراءً فنيا وموضوعيا، فشخصية (زنبقة) في مسلسل «همي همك» على ما لقيته من شهرة محلية، دليل كاف على ما تعانيه هذه الأعمال من انفصام مع الواقع والهروب بعيداً عن إثارة أسئلة لحظته الراهنة من خلال جرعات زائدة من السخرية التي لا معنى لها.
الإقناع المحلي
بلا شك إن ثمة أعمالا خلال المرحلة الراهنة يمكن اعتبارها جيدة مقارنة بواقع الحال، لكنها قليلة جداً، فيما نجد هذه النوعية من الأعمال الجيدة أكثر حضوراً في مرحلة سابقة، بل سنجد أن معظم الجيد منها اُنتج حكومياً في عقدي الثمانينيات والتسعينيات، وبعض سنوات العقد الأول من الألفية الثالثة مثل: مسلسل «الفجر» عام 1983 من إخراج ناصر العولقي، «المهر» عام 1993 من إخراج عبد العزيز الحرازي وبطولة نبيل حزام ويحيى إبراهيم، «الثأر» خلال التسعينيات أيضاً من إخراج مجاهد السريحي، «الحب والثأر» عام 2007 من إحراج عبدالعزيز الحرازي، وغيرها من المسلسلات التي تبقى متميزة مقارنة بما أنتج بعدها من قبل فضائيات تلفزيون القطاع الخاص. الجدير بالإشارة أن التردي في أعمال السنوات الأخيرة قد شمل أيضاً ما أنتجه التلفزيون الحكومي.
الحكم الفاسد
ما تعانيه الدراما التلفزيونية اليمنية يأتي ضمن معاناة تشمل الفنون عموماً كما سبقت الإشارة، فالفنون والتنمية الثقافية بقيت هامشية في سياسة الدولة، في ظل استمرار النظام السابق في تكريس معادلة الحكم الفاسد من خلال إدارة البلاد اعتماداً على الولاءات التقليدية وتجاهل الكفاءات الإبداعية على مستوى كافة مجالات العمل والإنتاج، وهي مشكلة ما زالت مؤثرة حتى اليوم في الحياة العامة وحتى على مستوى نخبه المجتمع ونتيجة لذلك تحضر ثقافة الصراع والسباق على المصالح الفردية بقوة تتجاوز ما سواها.
على الرغم من ذلك يتطلع الكثير في أن تشهد الدراما التلفزيونية اليمنية في المستقبل وخاصة مع بناء دولة مدنية حديثة، تحولاً نوعياً تصبح، من خلاله، جزءاً من مفاعيل تطوير المجتمع من خلال أعمال تحاكي الواقع وتحاول أن تُجيب على أسئلة التحديث الملحة وتُعيد تفكيك تحديات التقدم وهو ما يتطلب شجاعة وسخاء وإدراكا لحقيقة الحاجة لإنتاج درامي عربي مشترك، وهو ما سيكون له عظيم الأثر في تطورها. لكن تجارب الإنتاج الدرامي العربي المشترك بقدر ما قد يحالفها النجاح فقد يحالفها الفشل اعتماداً على عوامل داخلية، وهو ما تحقق يمنياً من خلال عدة تجارب أبرزها: تجربة الإنتاج اليمنيّ السوري لمسلسل «وضاح اليمن» في الثمانينيات، والذي حقق نجاحا لافتاً. والثانية في بداية الألفية الثالثة من خلال إنتاج مسلسل «سيف بن ذي يزن» لكنها قدمت عملاً فاشلاً وباهتاً لأسباب متعلقة بالرؤية الإدارية الفاسدة التي كانت قد تموضعت وتحكمت في إدارة المشاريع العامة بما فيها العمل الفني في التلفزيون اليمنيّ، وهي المشكلة نفسها التي كرّست معظم الأعمال الدرامية اليمنية لاحقاً في دائرة ضيقة لم تغادرها حتى اليوم كجزء من مشكلة ثقافية كرستها انحرافات السياسة في علاقتها بالدولة والمجتمع والمستقبل فكانت الفنون في مقدمة الضحايا نتيجة إصرار السياسي اليمنيّ على المراهنة على قوى التخلف وثقافة الغلبة والنتيجة هي ما يعيشه اليمن اليوم من احتراب تحولت معه البلد لساحة صراع مصالح خارجية ببيادق محلية.
أحمد الأغبري