الدرس اللاتيني لعسكر مصر… الإختيار بين الانسحاب أو الانهيار

حجم الخط
3

بعد أسابيع قليلة سيتوجه الناخبون المصريون )أو لا يتوجهون( إلى صناديق الاقتراع لانتخاب رئيس للجمهورية، وليس لهم عملياً إلا مرشح واحد، وهو الرئيس ألحالي عبد الفتاح السيسي. الكل يعرف وعلى رأسهم الرئيس، أن النظام المصري الحالي لا يسمح بأي شكل من أشكال التعبير الحر الديمقراطي، فكيف سيسمح بانتخابات تنافسية، وتصريحاته الأخيرة تؤكد ذلك.
لم تعرف بلاد العرب حتى الآن، انتقالا سلميا للسلطة، بين المؤسسة العسكرية ومؤسسة الأحزاب، كما حدث في بقاع أخرى بالعالم، هذا ما حدث في البرازيل عام 1985، أو تشيلي عام 1989، أو الأرجنتين عام 1983 أكبر دول بالقارة الامريكية الجنوبية.
انسحب العسكر في هذه البلاد الثلاثة، بعد فشلهم بإدارتها، واستبقوا الأحداث، بموافقتهم ولو بتردد وحيطةٍ، بالعودة لثكناتهم، بدون ثورات ولا دمار إضافي.
إنه لمن المفيد دراسة وفهم ومقارنة الأنظمة العسكرية في أمريكا اللاتينية، مع النظام العسكري المصري، فمنطق العسكر، بكل بقاع الأرض متشابه، وكذلك رد فعل الشعوب.
وصلت الحكومات العسكرية في أمريكا اللاتينية، في مرحلة الحرب الباردة، وبدعم واضح، أو حتى بتحريض من وكالة المخابرات الأمريكية، أول هذه الانقلابات كان في البرازيل، حيث انقلب الجيش على الرئيس المُنتخب جاو جولارت، رئيس حزب العمل البرازيلي، بالأول من نيسان/ابريل عام 1964 وكان ذلك رداً على الثورة الكوبية بقيادة فيدل كاسترو،التي افزعت الكثير، حيث تم تشجيع الجيش على التمرد للإطاحة بالرئيس المنتخب، وقام الرئيس جونسون بزمنه بالاعتراف فوراً بالنظام العسكري الجديد، لإضفاء طابع الشرعية عليه، بالإضافة لوضع قطع بحرية أمريكية أمام سواحل العاصمة البرازيلية، لدعم الانقلابيين إن استدعت الأحداث ذلك. عودة الديمقراطية للبرازيل تمت على مدار سنوات عدة، بعد التصويت على قانون العفو العام لعام 1979.
في الأرجنتين بدأ حكم العسكر، بانقلاب على الحكم المدني البيروني عام 1976، ولكن هؤلاء كانت لهم تجربة قديمة بالانقلابات والعودة للديمقراطية منذ عام 1930، حيث حصلت ستة انقلابات عسكرية، وهذا ما يُشبه تبادل السلطة بين الحكم العسكري والحكم المدني الديمقراطي، تميز آخر انقلاب بالعنف المُفرط، الكل يتذكر مظاهرات أمهات وزوجات المخطوفين كل خميس، بإحدى ساحات العاصمة الأرجينتينية بوينس أيروس، انتهى حكم الجنرالات بعد الحرب الخاسرة، التي خاضوها لاستعادة جزر الملاويين، من بريطانيا زمن مارغريت تاتشر عام 1982، والتي أدت إلى فقدانهم التام لأي قاعدة اجتماعية، وعودة الديمقراطية عام 1983، بانتخاب الرئيس راؤول الفونسين.
في تشيلي وصل الجنرال أوغستو بينوشيه للسلطة عام 1973، بعد انقلاب دموي على الرئيس المنتخب الإشتراكي سلفادور أليندي، بدعم من المخابرات الأمريكية، ووزير الخارجية في ذلك الوقت هنري كيسنجر، ترك العسكر السلطة تدريجياً، وعادت الديمقراطية بعد الاستفتاء الخاسر عام 1988، والإنتفاضة التي تلته.
أوجه الشبه مع الحالة المصرية عديدة، فالدعم الأمريكي كان مُعلناً وواضحاً بالنسبة لأمريكا اللاتينية، وهذا الشيء نفسه بالنسبة لمصر، بالإضافة لتحالفها القوي مع إسرائيل.
نلاحظ في جميع هذه الدول استغلال الجو الديمقراطي للحكم المنتخب، لتأليب جزء من الشعب، كما حدث بالبرازيل، مع خروج مئات آلاف المتظاهرين ضد الرئيس جولارت، أو الاضطرابات الكبيرة بقطاعات عدة في تشيلي ضد الرئيس أليندي، او الخلافات داخل اجنحة السلطة بعد عودة الرئيس بيرون من منفاه إلى وطنه الأرجنتين، وهو ما كان مبِرراً للإنقلاب تحت شعار تحقيق مطالب الجماهير، هذه القوى النقابية والسياسية، التي تُمنع فوراً بعد نجاح الانقلاب من القيام بأي احتجاج أو عمل شعبي أو تظاهر، وتضييق الخناق عليها، ولا يُقبل منها إلا السير وراء السلطة الجديدة.
الرقابة الكاملة على الإعلام بكل أشكاله هي أيضا صفة دائمة، فلا صوت يعلو فوق صوت أبواق النظام، وتطول هذه الرقابة مجالات الأدب والثقافة والفن ( الموت المشبوه لصاحب جائزة نوبل للآداب الشاعر بابلو نيرودا عشرة أيام بعد انقلاب التشيلي)، وليس فقط الإعلام المكتوب والمرئي، هذه الأبواق لا تتكلم عن نظام عسكري، ولكن كما حدث في البرازيل، تسميه بالنظام المدني العسكري.
كان التضييق الكبير على الحريات العامة، والاعتقال والتنكيل بالمعارضين، وسياسة الخطف والإخفاء القسري، مُتبعة بشكل واسع في أمريكا اللاتينية، وهذا هو الحال أيضاً في مصر، كذلك هروب جزء من المعارضين إلى الخارج.
تبرير القمع المُمنهج، بالخطر الآتي من الشيوعيين أو الحركات المسلحة، التي لم توجد حقاً إلا بعد الانقلاب، وفي الحالة المصرية الإرهاب الإسلامي (المُحتمل كما قال السيسي يوم انقلابه على الديمقراطية)، هذه الحركات المسلحة كانت بالواقع رداً على النظام العسكري وليست سببا له. ولتبرير كل شيء والتخلص من أدنى معارضة رفع الجيش كذلك شعار أمن الوطن وحمايته، فعدد القتلى بالأرجنتين مثلاً، زمن الحكم العسكري، بلغ ما بين 15 إلى 30 ألفا ومليون ونصف المليون لاجئ بالمنافي، وعشرات آلاف المختفين.
تميزت هذه النظم في أمريكا الجنوبية أيضا بالدفع في اتجاه مزيد من الشوفينية الضيقة، والفكر القومي القريب من الفاشية وتبني صبغة دينية كاثوليكية أصولية والذي أستعمل كوسيلة تعبوية شعبوية على شكل واسع ضد المد الثوري اليساري.
يضاف إلى ذلك المحاولات المستميتة لإعطاء غطاء ديمقراطي للنظام الاستبدادي، عن طريق انتخابات شكلية محسومة مسبقاً، أو كما حدث في البرازيل، تبادل السلطة بين الجنرالات أنفسهم دوريا والإبقاء على بعض الوجوه المدنيةً.
اتباع سياسة اقتصادية موغلة في الليبرالية، تُفقر الفقراء وتُغني الأغنياء، تحت شعار التنافس الحر العالمي، والإصلاح الاقتصادي، وخصخصة معظم القطاعات، بما فيها كالحالة التشيلية، القطاع التعليمي الجامعي والصحة، بناء على نصائح ما يُسمى، شيكاغو بويز، من جامعة سانت ياغو، ومنظرهم الأمريكي الليبرالي المُتطرف، ملتون فريدمان. واستيلاء العسكر على أهم مصادر الثروة، وإدارتها دون حسيب ولا رقيب ولصالحهم فقط.
استطاعت الأنظمة العسكرية تثبيت نفسها، عن طريق التحالف مع بعض القوى السياسية والاجتماعية، الآملة بالمشاركة بالسلطة والثروة، كما حدث مع نقابات عمالية ومهنية (أطباء، سائقي ناقلات الشحن في تشيلي)، وكذلك في البرازيل والأرجنتين، حيث يتمتع العسكر تاريخياً بدعم بعض شرائح المجتمع.
النظام المصري أيضاً تحالف مع البرادعي الليبرالي، وقطاعات من المؤسسة الدينية والاجتماعية للهدف نفسه، وكانت كل هذه التحالفات لحظية لتثبيت حكم العسكر، وليس لتقاسم السلطة.
من ناحية أخرى تكمن أوجه الاختلاف بين التجربتين الأمريكية الجنوبية والمصرية في عدة مجالات، نذكر منها النجاح النسبي والجزئي للسياسة الاقتصادية في دول الأنظمة العسكرية الثلاثة اللاتينية، ففي بداية عهده، اعتبر بعض اخصائي الاقتصاد العالميين، سياسة الجنرال بينوشيه، كنموذج يُحتذى به، ولكن السنوات اللاحقة أثبتت العكس تماماً وإفلاس هكذا نظام.
ولكن أهم فرق برأيي، هو قبول عسكر أمريكا اللاتينية، بعد فشلهم الذريع الاقتصادي، وبنواحي حياتية أخرى بالإنسحاب وعودة الديمقراطية، ولو مع ممانعة داخلية، لبعض أجنحة النظام، كمحاولة اغتيال الجنرال بينوشيه، من المؤسسة العسكرية نفسها، عند إقرار الاستفتاء الذي خسره عام 1988.
قد تكون العودة للديمقراطية أكثر قبولاً، داخل هذه الدول، بسبب وجود ثقافة ديمقراطية سابقة، حيث أنها مرت كلها بمراحل تناوب بين الحكم المدني والحكم العسكري، على مدى العقود التي سبقت آخر وصول للعسكر للسلطة، وهذا ما هو مفقود في النموذج المصري منذ وصول جمال عبد الناصر عام 1952، فلم تعرف أجيال عدة من المصريين إلا الحكم العسكري حتى ثورة كانون الثاني/يناير 2011.
في الدول الثلاث اللاتينية كان انهيار حكم العسكر ناتج عن أوضاع جديدة متردية أوصلها النظام لبلاده، ودفعه للانسحاب والسماح بالديمقراطية، فتشيلي في بداية الثمانينات، وبعد الطفرة الاقتصادية ببداية حكم بينوشيه، شهدت انهيار سعر النحاس، المادة الخام الأهم، والمصدر الأساسي للدخل، متزامناً مع ارتفاع أسعار النفط، بعد بداية الحرب الإيرانية العراقية، دافعاً النظام إلى تنظيم استفتاء أدى إلى عودة تدريجية للديمقراطية.
في البرازيل كانت النجاحات الاقتصادية ما بين 1968 و 1973 مع نمو اقتصادي سنوي بنسبة 11% أحد أسباب انضمام أجزاء من الطبقة الوسطى إلى القاعدة الداعمة للنظام، ولكن الأوضاع انقلبت تماما عام 1973 بعد الصدمة البترولية أثر حرب أكتوبر/تشرين الأول في الشرق الاوسط والتي أدت إلى التضخم المالي والتراجع الاقتصادي. أنتهى ذلك باستشعار العسكر أن لحظة التغيير قد حانت لهم فقام الجنرال المعين عام 1974 أرنستو غيزيل بوضع سياسة انفتاح أدت تدريجيا وعلى مدى عشر سنوات لعودة الديمقراطية عام 1985.
الاقتصاد الارجنتيني الزراعي وصل حدا كارثيا باعتراف وزير الاقتصاد حين ذاك دانينو باستور حيث بلغ التضخم عام 1981 300 في المئة والدين الخارجي 35 بليون دولار.
خسرت الأرجنتين بالمقابل، الحرب التي شنها العسكر، لاستعادة جزر الملاوين عام 1982، لتغطية فشلهم الاقتصادي، ما أدى لعودة الديمقراطية عام 1983، وتنظيم انتخابات عامة.
لم يُحاكم حقاً الجنرال بينوشيه لجرائمه، وكذلك جنرالات البرازيل، حيث لم يُقدم أحد للمحاكمة حتى اللحظة تحت شعار المصالحة الوطنية، عكس الأرجنتين التي ما تزال حتى اليوم تُحاكم رموز النظام السابق والذين كانوا الأكثر وحشية وإجراما. الأنظمة الديمقراطية الحالية في دول أمريكا اللاتينية الثلاث أصبحت ثابتة ولم يعد للعسكر اي دور وخرجوا نهائيا من السلطة.
في مصر لم يؤد حتى اللحظة التردي الاقتصادي أو حتى خسارة حرب 1967، إلى أي تغيير ديمقراطي للنظام، وحدها ثورة الشعب المصري عام 2011، من سمح بهذه التجربة على قصرها.
عليهم أن يعلموا، وهذا درس أمريكا اللاتينية، أنه من المستحيل الاستمرار بحكم البلاد والعباد، بالنار والحديد، وسرقة عرق الكادحين، وثروات الأوطان إلى ما لا نهاية. ولن يغير دعم أمريكا وإسرائيل لهم من ذلك شيئا.

كاتب فلسطيني مقيم في فرنسا

الدرس اللاتيني لعسكر مصر… الإختيار بين الانسحاب أو الانهيار

د. نزار بدران

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الهدهد الغريب:

    من يحاسب السيسي على جرائمه ضد الشعب المصري

  2. يقول محمد صلاح:

    الشعب المصرى قام بثورة على مبارك الفاسد
    والاخوان المسلمين والمجلس العسكرى مهدوا
    للاخوان ان يحكموا مصر
    وحكم الاخوان مصر لمدة عام والنتيجة
    فشل فى كل المجالات اًًمن او اقتصاد
    أو الأحوال المعيشية عموما
    وأخيرا خرج علينا مرسى بإصدار
    فرمان مثل فرمانات العصور الوسطى

  3. يقول مالك آل يس - مصر:

    الى محمد صلاح:

    ربنا يشفيك من عقدة الاخوان يا أخي …..

    فعلا حكم الاخوان فشل في كل شيء خلال سنة .. طيب أيه رأيك في حكم السيسي بعد 4 سنين… انا راضي زمتك يا شيخ!!!!!

إشترك في قائمتنا البريدية