ما إن نالت بلدان منطقة التحرر الوطني استقلالها، حتى احتدم الصراع بين القوى الوطنية، الاجتماعية والسياسية، فيها حول أي طريق للتنمية تسير فيه البلاد. وظلت الإجابة على هذا السؤال، ولفترة طويلة، محبوسة بين خيارين: طريق التنمية الرأسمالية، أو طريق التطور اللارأسمالي، والذي أيضا يشار إليه بطريق التوجه الاشتراكي.
ومن الواضح ارتباط هذين الخيارين بالاستقطاب العالمي والحرب الباردة آنذاك بين المعسكر الاشتراكي والمعسكر الرأسمالي. والسودان لم يكن استثناء من ذلك الصراع. فبينما ظلت القوى السياسية المرتبطة بطبقة البرجوازية الناشئة تبشر بطريق التنمية الرأسمالي تحت شعارات الحرية الاقتصادية وحرية الملكية الخاصة وشرف التنافس الاقتصادي وبرامج التكيف الهيكلي، كان اليسار يدعو إلى أن تختط البلاد طريق التطور اللارأسمالي بعيدا عن سياسات التبعية للغرب ولمؤسسات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. لكن عمليا، يمكننا القول بغياب خطط التنمية المستدامة، أو تعثرها، بسبب انعدام الاستقرار السياسي في البلاد. فكل من حكم السودان، بالانقلاب أو بالانتخاب، كان يفرض رؤيته حول التنمية حسب مقياس فترة بقائه في السلطة، أي تنتفي هذه الرؤية بذهابه من موقع السلطة. وبالنسبة لعهود الديمقراطيات، سيكون من الصعب تتبع مسار أي خطط تنموية استراتيجية خلالها، لأن عهود الديمقراطية في السودان، اتسمت بأنها فترة تحولات وانتقال واضطراب سياسي، رغم النوايا الطيبة والمحاولات التي كانت دائما ما تضرب في مقتل، مثلا التحضير لمؤتمر دستوري أو مؤتمر اقتصادي.
وتبقى فترات الشمولية الأطول عمرا في البلاد، والتي اتسمت بسيادة خط التنمية الرأسمالي، ماعدا السنتين الأوائل من عهد الحكم المايوي، عندما طُرحت خطة تنموية خمسية، باسم التوجه الاشتراكي، لكنها افترضت أن التوجه الاشتراكي يعني تأميم ومصادرة كل مؤسسات القطاع الخاص في البلد من البنوك والشركات الكبيرة إلى «بابا كوستا» والأفران ومحلات بيع الكيك والقهوة! وهذا بالطبع لا علاقة له بأي توجه اشتراكي، أو تنموي، بقدر ما هو مجرد سلوك آيديولوجي. وللمفارقة، بعد فترة وجيزة أعاد النميري المؤسسات المؤممة والمصادرة لأصحابها، ثم وطد تحالفه الجديد مع قوى الرأسمالية السودانية، معلنا طاعته العمياء لتوجهات الرأسمالية العالمية وروشتات مؤسساتها، البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، مما فاقم من أوضاع المعاناة في البلاد حتى لحظة الهبة الجماهيرية التي أطاحت بنظامه. الحكم العسكري الأول، نظام 17 نوفمبر/تشرين الثاني 1958، تبنى خطة اقتصادية عشرية مرتبطة بمشاريع المعونة الأمريكية وبتوجهات المؤسسات المالية الدولية، تم بموجبها تنفيذ عدد من مشاريع البنى التحتية من جسور وطرق رئيسية وبعض المصانع. لكن، لم تستطع تلك الخطة إحداث التغيير المنشود في حياة الناس، ولم توقف تذمرهم وسخطهم حتى تفاقم وفجر ثورة أكتوبر/تشرين الأول 1964. ومع نظام البشير، كان الأمر أشد سوءا ووبالا على الناس. فرغم هتافاتها الجوفاء حول تمزيق فواتير الاستيراد، وعدم الارتهان للغرب، دشنت الإنقاذ، بصورة غير مسبوقة، عهد اقتصاد السوق الحر وتصفية القطاع العام وتنفيذ كل وصفات الليبرالية الجديدة في الاقتصاد، وأوصلت البلاد، اليوم، إلى مشارف الانهيار الكامل. وما انتشار الحرب الأهلية في البلاد إلا نتاج، ضمن مسببات أخرى، لانعدام التنمية في مناطق التوتر العرقي. وحتى المشاريع التنموية في المركز فهي تصب لصالح فئات الطفيلية الشرهة التي نمت وترعرعت على امتصاص موارد البلاد وثرواتها، مستخدمة جهاز الدولة.
في عالم اليوم الذي يتسم بهيمنة القطب الواحد، القطب الرأسمالي، ومحاولاته لتسييد خط التنمية الرأسمالية مستغلا العولمة، كظاهرة موضوعية، سيكون من الصعب اختراع طريق للتنمية مغاير للطريق الرأسمالي، ولكن ليس مستحيلا، مثلما سيكون الحديث عن طريق التطور اللارأسمالي، وفق الكليشيهات القديمة، مجرد ثرثرة آيديولوجية غير مفيدة. وأعتقد أن المدخل لتحقيق العدالة الاجتماعية في السودان هو تجسيد شعار المشاركة العادلة في السلطة والتوزيع العادل للثروة، والذي ظل الشعب السوداني يرفعه في إطار معركة بناء دولة ما بعد الاستقلال. والترجمة العملية لهذا الشعار هي وقف الحرب الأهلية وتلبية استحقاقات السلام العادل، ترسيخ النظام الديمقراطي التعددي في مختلف نواحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، سيادة قيم الدولة المدنية الديمقراطية، سيادة حكم القانون ودولة المؤسسات، تلبية المطالب الإصلاحية النقابية وضمان توفير الحاجات الأساسية المتنامية والمتجددة للمواطن، تحقيق نظام الأمن والضمان الاجتماعي، التوزيع العادل للموارد والثروة، حماية البيئة، الأخذ بإيجابيات هذا النمط الاقتصادي أو ذاك… اقترابا من تبني نموذج الدولة التنموية الديمقراطية، وأعني الدولة التي يتجسد دورها في ميادين، أهمها: الاستثمار في التعليم والبحث، طرح مبادرات استثمارية وخلق بيئة استثمارية جاذبة، ودعم المشاريع الصغيرة، والعمل على خلق اقتصاد تنافسي مرتبط بحركة الاقتصاد العالمي، ويستفيد من الوسائل التكنولوجية، وممارسة الدبلوماسية التجارية الناجحة لفتح الأسواق العالمية أمام المنتجات المحلية. أي هي الدولة التي تتبنى الإصلاحات السياسية الديمقراطية، على أساس قيم المواطنة والحريات وحقوق الإنسان، مترافقة مع الإصلاحات الاقتصادية، وتقدم نموذجا مختلفا للمزاوجة بين التنمية الاقتصادية والتنمية الاجتماعية واحتياجات الناس. والدولة التنموية الديمقراطية، مستخدمة السلطة التنفيذية وجهاز الدولة، تحول الموارد الطبيعية من أجل محاربة الفقر وتوسيع الفرص الاقتصادية، وتضع اقتصاد السوق تحت شروطها، فتتمسك بدور الدولة في التخطيط وفي إعادة توزيع الثروة، وتسعى لتأسيس شراكة قوية بين الحكومة والمجتمع المدني من أجل بناء خطط استراتيجية واضحة تهدف بشكل أساسي لتنمية حياة الناس. ومن الطبيعي أن هذه الأدوار لا يمكن أن تلعبها الدولة التي تحتكر السياسة والمعلومات وتقمع الرأي الآخر وتخنق حرية التعبير، وتصادر استقلال القضاء وحكم القانون، ولا تهتم بالتعليم أو تفرض سياسات تعليمية سيئة، ويزدهر في كنفها الفساد والتغول على المال العام.
والعديد من البلدان تتبنى اليوم هذا النموذج كماليزيا وسنغافورة وإثيوبيا وبعض بلدان أمريكا الجنوبية واللاتينية. وأعتقد أنه النموذج الملائم كبديل تنموي للنهوض بالسودان، هذا البلد الذي يعيش اليوم أحلك وأقسى أيامه.
٭ كاتب سوداني
د. الشفيع خضر سعيد