على الرغم من تنوع القضايا التي يتم الحديث عليها في ما يتعلق بالتطورات التي تشهدها مصر، فإن جزءا أساسيا من الجدل الحالي يتركز في المقارنة بين تناول الإعلام لتلك التطورات، خلال فترة حكم الرئيس الأسبق محمد مرسي، وما بعده من رؤساء. مقارنة تفرض نفسها في ظل تكرار المشكلات التي يعاني منها المواطن المصري، والتي لا تختلف، وقد تزيد أحيانا، عن تلك التي عانى منها خلال فترة مرسي. وإلى جانب هذه المقارنة يطرح السؤال الدائم حول دور الإعلام في ترسيخ صور محددة وتسريب رسائل مقصودة بشكل مباشر وغير مباشر لدعم الحكم، ومحاولات الانتقاص من الحريات والحقوق، في مواجهة تعظيم المخاوف من الإرهاب والمؤامرات. وضع يتكرر في احاديث الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي المباشرة عن الإعلام، وضرورة إدراكه لمشكلات الواقع كما تراها الدولة، والتعبير عنها بتلك الصورة في سياق دعوة المواطن للتماسك وتحمل المعاناة والتضحية بالحاضر من أجل المستقبل. تبدو الصورة في مجملها وكأنها شبكة تحاول الاحاطة بالمواطن من كل الاتجاهات لتحديد ما يجب أن يعرفه وأن يفعله في ظل الصورة التي يتم ترسيخها.
صورة يتم تخليقها أو دعمها من خلال التغطيات المتنوعة في وسائل الإعلام المختلفة، لضمان وصولها للمواطنين على مدار الساعة. ورغم التنوع والانتشار الذي تتسم به فإن الاهتمام بالمحتوى وتحري الدقة والمصداقية يبدو وكأنه امر ثانوي، فالعديد من تلك الاخبار تعتمد على مصادر مجهولة وبيانات غير مؤكدة، إلى جانب التوسع في مسألة التسريبات التي تتجاوز مسؤولية الأفراد إلى الدولة وأجهزتها السيادية التي تقوم بتلك التسجيلات، وتسمح أو تغض الطرف عن نشرها. كما تظهر من فترة لأخرى تصريحات منسوبة إلى شخصيات وظيفية تضيف لقيمة ما يقال وتثير الاهتمام وتحصل على جزء كبير من المتابعة والتغطية. أوضاع يتم التعامل معها من قبل البعض بوصفها محاولات لشغل الرأي العام وتهميش القضايا المحورية، وهو تفسير وارد ولا يمكن إنكاره. ولكن إلى جانب فكرة الإلهاء المصاحبة لفكرة المؤامرة، توجد احتمالات أخرى لا يجب التجاوز عنها، خاصة في مواجهة الرسائل التي يتم تسريبها خلال بعض التصريحات أو التسجيلات في مواقف محددة. فعندما نكون أمام تسجيلات خاصة تتم أذاعتها علنا، علينا أن نفكر في تقييد نطاق الحرية من خلال الردع، وعندما نكون أمام تصريحات علنية لشخصيات محددة، فإن ما يقدم هو إطار لتعامل المؤسسات التي تنتمي لها تلك الاسماء مع الواقع، ولما يمكن أن تقوم به في الحاضر والمستقبل.
تلك النقطة الأخيرة تظهر واضحة في التصريحات التي أدلى بها اللواء ثروت جودة، وكيل جهاز المخابرات العامة المصرية الأسبق، التي أكد فيها على عدم تعاون الجهاز مع مرسي خلال فترة حكمه، وعدم تقديم أي معلومات صحيحة له، أما التبرير الذي قدمه فهو معرفة الجهاز بخيانة مرسي منذ بداية التسعينات. وفي الوقت الذي دافع فيه عن الجهاز بوصفه الجهاز الوحيد على مستوى العالم الذي لم يتم اختراقه، عمل على تعرية المؤسسات الأخرى التي تدور في فلكه ولا تستطيع العمل بدونه، إلى جانب تأكيد حالة احتكار الجهاز للمعرفة المطلقة بما هو وطني، وقدرته على حماية الوطن بشكل فردي أو بالحصول على دعم الأجهزة الأخرى التي لا تستطيع التحرك بمفردها.
تصريحات لا يمكن التجاوز عن تناقضها، فإن كان مرسي خائنا كما يعرف الجهاز، كيف تم السماح له بالمشاركة في الانتخابات الرئاسية وتولي رئاسة الجمهورية، رغم ما يمثله من تهديد للأمن الوطني؟ وإن كان مرسي خائنا وسمح له بالوصول للسلطة كنوع من الفخ الذي ساعد عليه عدم التعامل معه، فكيف يمكن تبرير ما خسره الوطن من وقت وموارد وأمن في تلك المغامرة؟ وإن كان الجهاز هو الأقوى وكان مرسي خائنا بشكل مثبت أو معروف لديهم منذ بداية التسعينات، فكيف لم يتم اتخاذ موقف محدد تجاهه وتجاه غيره على مدار تلك الفترة؟ وكيف يتحول الأمن إلى قضية مؤامرات سياسية يتم الحديث عنها بتلك السهوله في حوار صحافي؟
بالطبع أثار الحديث العديد من الانتقادات التي دعت اللواء جودة إلى الاعتراض على ما نشر، في حين تمسكت الجريدة بما هو منشور. ولكن في جزء من القضية لا يختلف ما حدث عن الكثير من الرسائل التي قدمت لنا في الإطار الخاص بالتسريبات نفسه، فالرسائل يتم تقديمها بين السطور للمواطن والمعارض، والجدل لن يقود إلى وضع سياق حاكم لما يحدث من تسريبات ما دامت تحمل رسائل مقصودة، خاصة أنها ليست المرة الأولى التي تقدم الدولة نفسها بوصفها جزءا من الصندوق الأسود الذي يُحكم جدرانه على الوطن.
وهنا يأتي مشهد آخر في تفاصيله من اليابان والجدل المحيط بجريدة «أساهي»، التي تعد واحدة من أكبر الصحف الخمس من حيث التوزيع فيها، بسبب نشر عدد من الموضوعات بدون تحري الدقة المطلوبة. ومع وجود عدد من الحالات المثار حولها الجدل، فإن ما يهمنا هنا هو ما نشر في المقال الافتتاحي للجريدة في مايو/ايار 2014 حول التحقيقات المتعلقة بكارثة فوكوشيما النووية التي ارتبطت بزلزال وتسونامي 2011، وكيفية تعامل الأطراف المختلفة معها، خاصة في شركة كهرباء طوكيو (تيبكو) المشغلة للمفاعل. وقد أشار المقال المثير للجدل إلى اعتماده على تسريبات من نص التحقيقات التي تمت حول الأزمة، خاصة تصريحات رئيس شركة تيبكو. ولكن ما نشر في مقال «أساهي» أثار غيرها من الصحف التي حصلت بدورها على بعض التسريبات من التحقيقات التي لم تكن قد نشرت بعد، بوصفه غير دقيق وغير مطابق لما جاء في التحقيقات.
بدورها لم تقف الحكومة اليابانية موقف المتفرج، ولم تقدم تسريبات لطرف ما بشكل غير مباشر للدخول على الجدل بدون تحمل مسؤوليته، ولكن أعلنت عن نيتها نشر ما يمكن من تلك التحقيقات، ولان رئيس تيبكو المعني بالجدل كان قد طالب بعدم نشر شهادته لما يمكن أن تحدثه من التباس قبل وفاته، فقد حصلت الحكومة على إذن من أسرته بالنشر، وبالفعل تم نشر ما يمكن من شهادات وتحقيقات للعديد من الشخصيات، بمن فيها رئيس تيبكو ورئيس الوزراء الياباني خلال الأزمة وغيرهم. ولان ما جاء في تلك الأوراق أكد عدم دقة ما نشرته «أساهي» فقد عقدت الجريدة مؤتمرا صحافيا اعتذرت فيه للعاملين في تيبكو، كما قامت بسحب المقال معتبره أنه لم يعتمد على بحث كاف، كما أعلن مدير التحرير عن نيته في الاستقالة التي تمت لاحقا. وهو ما يعني أن تحرك الحكومة بنشر الحقيقة سمح بالتعرف عليها من مصدرها المباشر، وقطع الطريق على جدل كان يمكن أن يمتد بدون معنى بما يطمئن المواطن على الحـــفاظ على درجة من المصداقية.
المواطن من جانبه يشاهد العملية بشكل طبيعي بوصفها جزءا من المفترض، مع إدانة «أساهي» لأنها لم تتجنب هذا من البداية، ولأنها لم تحافظ على ثقة القارئ، أما المدير المسؤول فسيكون عليه تحمل معاناة الشعور بالخطأ وليس التفاخر ببطولة غير حقيقية. وضع يمكن للمجتمع من خلاله ان يستقر لان هناك ما يحمي قدرا أساسيا من الحق في المعلومة، ويقدمها عندما يجد أن الظروف يمكن أن تتحول إلى ساحة لجدل غير صحي على المجتمع والمواطن والدولة. ربما يتعجب المواطن الياباني نفسه من قصص واقعنا المصري وهو يتحدث بتلك الحرية عن الحياة الشخصية للأفراد، التي يتم تسريبها من قبل أجهزة الدولة أو بصمت منها، وعن رفض مؤسسات للقيام بدورها المفترض، وعن قيام تلك المؤسسات بإعادة تعريف أدوارها وكيفية وتوقيت القيام بها، والأكثر أهمية التعبير عن هذا بسعادة بدون أن تتدخل الدولة أو تحاسب وتحقق مع من ينشر ويعلن ويذيع مثل تلك الأشياء، بوصفها أخبارا وحقائق بدون انتظار لبلاغات وقضايا، فإن كانت حقائق فهي في حاجة إلى تحقيق، وإن لم تكن فهي في حاجة إلى محاسبة، وفي كل الحالات في حاجة إلى دولة تضبط حدود بداية ونهاية الأدوار والمحاسبة عليها، بدون أن تستخدم هذا لتقليص سقف الحرية نفسه الذي لا يمكن ان تتنفس الحقيقة بدونه.
٭ كاتبة مصرية
عبير ياسين