الدولة بين أهل الولاء وأهل النسب

حجم الخط
0

في المنظور الذي يرسمه صاحبنا الأنثروبولوجي الفرنسي آلان تستار، تولّد «العلاقات الشخصية»، بحكمٍ ممّا يميّز أهمّ صيغها من تفاوت، تبعيّةً وولاءً من التابع للمتبوع. ويسع هذه العلاقات أن تظهر في مجتمعات اللادولة، أي في جماعات النسب، مثلاً، ولكنها تكتسب في الممالك موقعاً ذا ميزة.
فلأتباع الملك مهابة وشرعية يفتقر إليهما غيرهم. هم، بلا فصلٍ، أتباع الملك وخدم المملكة. ويصبح «عبيد التاج» في الممالك الأفريقية، مثلاً، ذوي سلطة ونفوذ ويبلغون أرفع المراتب ولكن لا بأسمائهم إذ هم بلا أنساب. وعلى التعميم، يغلب هذا الضرب من العلاقة الشخصية بصاحب السلطة في دولٍ تكون فيها البيرقراطية غير نامية وتكون القاعدة التقانية للمجتمع أميلَ إلى البساطة.
ويسترجع تستار ذكر ابن خلدون ولكن من وجهٍ غير الوجه المتداول للرجل. فما يجري إبرازه هنا ليس النسب والعصبية، بل ما يُخالف هذين: أي ميل السلطان إلى إرساء سلطانه على العبيد الغرباء الذين هم صنائعه المتعلّق مصيرهم كلّياً بمصير سيّدهم. وكانت مؤسّسة «الولاء» قد أرسيت لغير العرب في العصر الأموي فأصبح غير العربي «مولىً» لعربي يلحقه بخدمته ويدعى هذا الأخير بدوره «مولىً» لتابعه أيضاً. ثم راح العبّاسيون يولون من الثقة لمن يعتقونهم من مماليكهم ولخدمهم الأخصّاء ما لا يولونه لخدم الدولة المعتمدين. هكذا استحال «الولاء» من صيغة لتقريب غير العرب ودمجهم في الجماعة، في العهد الأموي، إلى قاعدة للحكم في العهد العبّاسي.
وكانت هذه، على الخصوص، حال القطعات العسكرية من المماليك إذ كانت، في منطلقها، قائمة على نوعٍ من العلاقة الشخصية بصاحب السلطان، تتبعه وتدين له بكلّ شيء. وهي كثيراً ما واجهت لحسابه من كانوا يعتدّون بنسبٍ موروث ومثّلوا، بهذه المثابة، خطراً معلناً أو مبطناً على سلطانه. هذا قبل أن يتحوّل هؤلاء العسكر إلى «طوائف»، بمعنى الكلمة القديم، تنافح عن امتيازاتها في وجه الدولة ثم تستولي على مقاليدها فيصبح لها أن تعزل خليفةً وأن تنصّب غيره وأن تحيله، في كلّ حال، إلى واجهة شرعية، لا غير، تلي باسمه الأحكام. هذه الظاهرة التي وقع ابن خلدون على أطول صيغها عمراً، وهي دولة الماليك، في مصر والشام امتدّ بها العمر إلى أزمنة لاحقة واتّخذت صيغاً أخرى. فعرفت الدولة العثمانية، مثلاً، فرقة الإنكشارية، وكان عناصرها، في معظم تاريخها المديد، يُخطفون أو يُشترون صغاراً من بيئاتٍ غير مسلمة ويتلقّون تربية خاصّة مرادها الإفضاء بهم إلى التبعية المطلقة لشخص السلطان. وعلى غرار المماليك، راح أمرهم يستفحل إلى أن قضى عليهم السلطان محمود الثاني الذي كان متّجهاً في العقد الثالث من القرن التاسع عشر إلى بناء جيش حديث على الغرار الأوروبي. قبيل ذلك، كان والي مصر محمّد علي قد فتك بوجوه المماليك الباقين في البلاد إلى ذلك الحين في مجزرة القلعة المشهورة.
يُدرج تستار هذه الحالات الإسلامية، لجهة مبانيها ودلالتها العامّة، في بيئة عالمية شاسعة يقع فيها على حالاتٍ كثيرة توافقها في المبنى والدلالة على تنوّع مؤكّد في المداخل والأساليب. يقلّب صفحات منها، مثلاً، «ميثاق الدم» الذي يجده منتشراً في قارّات العالم القديم حيث كان الأمراء يلجأون إليه (أي إلى خلط بعض دم التابع ببعض دم المتبوع، بطرقٍ مختلفة) لربط الأتباع بأشخاصهم برباط لا ينفصم. وتتّسم بأهمّيةٍ واضحة ملاحظتُه أن المدن الإغريقية لم تكن تعرف هذا «الميثاق» باستثناء حالة العصاة الخارجين على نظامها وحالة البرابرة المرتزقة. أما المواطنون فكان يغنيهم عن هذا «الميثاق» القسَمُ على دستور المدينة أو على مجموع شرائعها وهو قسَمٌ يُلزم المواطن حيال المدينة، لا حيالَ شخصٍ أو أشخاص.
من هذه الأمثلة، يتخلّص المؤلّف إلى تعيين دوائر ثلاث للسلطة في هذا الصفّ العريض من الدول. الأولى دائرة أتباع السلطان من أرقّاء أو أحرار نشأت بينهم وبينه علاقة تبعيّة مؤبّدة. والثانية فيها المرتبطون بالسلطان بميثاق الدم أو بقَسَم الولاء ويجري بينهم وبين السلطان نوع من التبادل، وإن يكن التفاوت بين طرفيه فادحاً، إذ تقابَل الخدمة بإنعامات أو جزاءات. والدائرة الثالثة احتياط عامّ قوامه اللاجئون والمهجّرون والمنبوذون من ذويهم والحاظون بعفوٍ كان ولا يزال يختصّ به إلى أيّامنا الملوك والرؤساء. ويدخل في هذه الدائرة الأخيرة أيضاً المدينون الذين يقضي الملك دينهم..
من «موتى المرافقة»، إذن، وهم يظهرون في القبور الجماعية غير المتناظرة، إذ تشير أوضاع نزلائها إلى تراتب بين هؤلاء، تبدأ الأدلّة على مكانة «العلاقات الشخصية» بأنواعها من رقّ وغيره، وهي مشتركة بين مجتمعاتٍ لا تحصى سابقةٍ للدولة وبين الدول غير البيرقراطية. ويظهر في هذه البيئة الاستعداد للموت في سبيل «السيّد» فيكسب به هذا الأخير ثقة بالنفس لا حدّ لها سوى عدد المستعدّين ويسعه استعمالها على هواه. لا أقربَ، والحالة هذه، من تخيّل نزوعه إلى الاستئثار بالقوّة المسلّحة وبالحقّ في بتّ النزاعات الداخلية وفي شنّ الحملات في المحيط وفي ضبط حالة الحرب المعشّشة في كلّ مجتمعٍ بلا دولة، بحيث يفرض السلم ويصبح هو السيّد المطلق. هكذا تورث الولاءات الشخصية سلطة الشخص حُكْماً منتهيةً إلى ولادة الدولة في صيغتها الاستبدادية.
من هذا كلّه يخلص تستار إلى اقتراح قانونين: الأول أن المونوقراطيّات التي يكون تراتب الوظائف في بنيتها هزيلاً، تتكوّن فيها فئةٌ ما من موالي الأمير الشخصيين يعتمد عليها في ممارسته سلطته. بخلاف ذلك، لا تظهر هذه الفئة في الممالك البيرقراطية من قبيل مصر الفرعونية والصين الإمبراطورية. والقانون الثاني، وهو يجعل البعد الزمني في الصدارة، مؤدّاه أن استشراء الولاء الشخصي لأطراف خاصّة متعدّدة يفضي، بعدَ حينٍ، إلى إضعاف سلطة الدولة وتحلّلها وخرابها أيّا كانت، فيسري ذلك على الدول البيرقراطية وعلى الديمقراطية منها أيضاً. والخلاصة أنه ما دام الولاء الشخصي، بما يمنحه من سلطة، قادراً على تنصيب ملوك وعزل ملوك فلِمَ لا يكون هذا الولاء في أصل الدولة؟ يزيد هذه الفرضية قوّةً أن نستذكر، مع تستار، ميل الأنثروبولوجيا إلى المبالغة الشديدة في إبراز علاقات القرابة، بحيث تحجب هذه العلاقاتُ غيرها.
من أمثلة ذلك مجتمعاتٌ لا يظهر فيها دور لنظام القرابة في خوض الحرب وفي قيادتها التي تنتهي إلى فردٍ ترشّحه اعتباراتٌ غير قرابية. ومنها أن الرقّ يُبْخس حقّه (شأنُه شأن ضروبٍ أخرى من العلاقات الشخصية) عند البحث في تكوين السلطة. والحال أن الرقّ، على قول تستار، أحسن الأشياء توزيعاً بين المجتمعات البدائية. هو واسع الانتشار في مجتمعات اللادولة يؤمـّن الولاءات الشخصية الأولى أو التمهيدية. وهو مهمّ لأنه يتيح الاستكثار من التابعين من خارج نطاق القرابة ولأن ولاء العبد المبتوتِ من نَسَبه والمتعلّق بسيّده في كلّ أمر، ولاءٌ استثنائي المتانة عادةً.
لا تفوتُ المؤلّف الإشارة إلى كون استيلاء الشخص على السلطة يتعلّق دائماً بظرفٍ مركّب يتشكّل من عناصر مختلفة. ولكنّه يرى عموميّةً، مع ذلك، للقاعدة القائلة بأن الولاءات الشخصية التي تحمي سلطة الشخص يسعها أن تقود إليها أيضاً. وبين العوامل المهيّئة لذلك واحدٌ حاسم هو الرقّ الداخلي وبين أبرز تجلّياته الرقّ بسبب الدَين، وكان منتشراً جدّاً في العالم القديم وقد منعه الإسلام وحظرته مجتمعاتٌ أخرى. وهو أوقع دلالةً من الرقّ الخارجي لما يدلّ عليه من تصدّع في الجماعة، فحيث يسترقّ المرء بحكمٍ قضائي أو يبيع نفسه وامرأته وأولاده بقوّة الحاجة، يكون التضامن الداخلي في الجماعة منخوراً وتبدو الحرّية (بما هي خلاف العبودية) قابلةً للسلب. وهو ما يُضعف المقاومة المحتملة لبروز صاحب السلطة. ولكن ظهور الدولة سرعان ما يؤول إلى إزالته. أزاله المصلح الإغريقي صولون، مثلاً، وخفّفت منه، قبل ذلك، شريعة حمورابي إذ فرضت له مدّة زمنية قصوى… ذاك يجيز الافتراض أن الدولة تنحو إلى لجم التفتّت في الجماعة وتوزّعها بين تبعيّاتٍ كثيرة لما في هذا اللجم من توكيد لوحدة السلطة.
وفي قراءة لتوزّع ظهور الدول على خريطة العالم، يلاحظ مؤلّفنا أن الاسترقاق بالدَين كان منتشراً جدّاً في أرجاء العالم القديم وضئيل الانتشار جدّاً في العالم الجديد (بما فيه أوقيانيا)… وأن هذه حال الدولة أيضاً. وهو ما يعزّز كثيراً فرضية الاقتران بين نموّ الرقّ (بما هو نوعٌ متصدّر من أنواع «العلاقات الشخصية»، بمعناها في اصطلاح تستار) وبين ظهور الدول وانتشارها.
فهل نجزم، والحالة هذه، بكون الدولة وُجدت أوّلاً بصيغتها الاستبدادية؟ ينوّه تستار بغلبة هذه الفرضية في مدى القرن العشرين، وهي قد اعتدّت فيه بكشوف أثرية ألقت بعض الضوء على بضعة آلاف من السنين سابقة للمسيح، ورجّحت غلبة الاستبداد حتى «المعجزة اليونانية» التي جسّدت قبل المسيح ببضع مئاتٍ من السنين، ما عرف باسم الدولة الديمقراطية، وكان عمرها إذّاك قصيراً نسبيّاً. هذا فيما كان القرن الثامن عشر الأوروبي يرجّح العكس معتدّاً بما افترضه من أصالةٍ للميل في إنسان «الطبيعة» أو «الفطرة» إلى الحرّية. والحال – يقول تستار – أن «إنسان الطبيعة» هذا خرافة لا نقع على من يجسّدها في أيّ عصرٍ أو مكان.
ينتهي المؤلّف إلى الطعن في فرضية الأسبقية العامّة لصيغة بعينها من صيغتي الدولة العامّتين من أصلها. ومع ترجيحه أن تكون التجارب الديمقراطية (وبينها ما يظهر في جماعات اللادولة أو في أشباه الدول التي لا يتحقّق فيها احتكار العنف) قد بقيت محدودة الحضور في العالم إلى هذا العصر، فإنه يرى أن الوقائع تسند فرضية التنوّع الأصلي للدول بتنوّع المجتمعات وأن التعلّق بالحرّية موجود في المجتمعات البدائية وموجود الاستسلام للعبودية أيضاً. وذاك أن فرضية «البساطة» في التشكيل السياسي للمجتمعات البدائية فرضية ضالّةٌ أصلاً مردّها إلى الجهل بما هي عليه هذه المجتمعات من تعقيد في الأنظمة وتنوّع في صيغها العامّة. ما ترجّحه المعطيات إذن أن تكون صيغ ظهور الدول هنا وهناك قد تنوّعت من البداية وألّا يستقيم إلزام تطوّرها بسكّة واحدة.
ولكن ما الذي ينشئ الولاء والتبعيّة الشخصيّين في المجتمعات بما رأينا لهما، عند تستار، من فاعليّة عظيمة (وإن لم تكن حصريّة) في إرساء الدول… وفي زعزعتها أيضاً؟ يتطرّق هذا الباحث إلى هذه المسألة الكبرى في «ذيل» طويلٍ لكتابه نلمّ به في عجالةٍ أخيرة مقبلة نجعل ختاماً لها حصادَ ما وجدناه لهذه القراءة من فوائد استأهل جَنْيُها العناء..
كاتب لبناني

 

الدولة بين أهل الولاء وأهل النسب

أحمد بيضون

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية