زمن صعب ذاك الذي نعيشه اليوم. الفترة الأكثر قسوة التي تتكتل فيها الهمجيات الديكتاتورية التقليدية، وهي في نزعها الأخير، وكائناتها التي عششت تحت أجنحتها، وفي ظلالها، وأطرافها، وزواياها العفنة، فتربت على الدم وتنفيذ الأوامر وانتظار لحظتها للانقضاض على السلطة حتى ولو على بقايا الرماد، وتهديم الدولة التي تشكل ميراثاً إنسانياً، والضرورية لاستمرار المؤسسات والإنسان في عالم محكوم بالتمزقات الكبرى، والمخاطر المحدقة.
على الرغم من نقائص الدولة كنظام إلا أنها تظل الأوفى، بالخصوص في انفتاحها على المنجز الإنساني الديمقراطي. الديكتاتورية لم تبتذل الإنسان فقط، ولكنها ابتذلت نفسها أيضا بتجيير الدولة لمصالحها، فحولتها إلى مجرد قوقعة بلا معنى. كان من نتائج ذلك بأن تمزقت بتحولها إلى وسيلة قاتلة في يد الحاكم، لدرجة أن أصبحت بعض الدول العربية تعيش في صلب اللاّدولة، التي لا تعترف بعموم الشعب بمختلف تلوناته، مهما كانت خطابات الطمأنة بأن الدولة قائمة، وحامية.
الأنظمة الديكتاتورية التي توفرت لها إمكانية الخروج بخسارات أقل في وقت سابق، لم تحفظ الدرس جيداً، من بعضها البعض، معتمدة على مقولة «إن ذلك لا يحدث إلا للآخرين»، وعلى الفكرة الخطيرة لتثبيت الأوضاع: إما القبول بالديكتاتورية أو اللاّدولة، والفراغ؟ ورفضت أية مرحلة انتقالية تحمي البشر والمؤسسات. الأنانيات الصغيرة جعلتها تمركز كل شيء في أكفها، حتى حولت الدولة إلى ملكية رعوية خاصة، تلعب فيها كما تشاء.
اندثار الإنسان كقيمة متعالية، لم يكن ليشفي غليلها، وقسوتها، وأحقادها، قبل أن تسرّع الوقائع الأخيرة تحللها وخروج التيارات الأكثر تطرفاً وتخلفاً من صلبها، إذ هي وجهها الخفي لا أكثر. ممارسات الدواعش ليست إلا الوجه الآخر لبرنامج اللاّدولة الذي فرضته الديكتاتورية، وخلقت «الزومبي» الذي يطحن كل شيء في طريقه. لا شيء فيه يشبه الانسان إلا ظلامه الداخلي.
في النهاية، ما الفرق بين جهاز دولة بوليسية تختطف مناضلاً ظل يؤرقها، وحتى تمحو آثار الجريمة، تغرق جسده في الحمض الحارق، حتى تمحو كل أثر له. أو تأتي بآخر، فتنشئ حوله خطاباً تحريضياً شعبياً وتشنقه تحت تصفيقات الجماهير بوصفه عدو الشعب. أو تقتفي آثار ثالث حتى النزل الأجنبي الذي يقيم فيه، فتدفع بزبانيتها ذات ليل، فتخنقه بحزامه في فراشه، ولم يشفع له لا تاريخه النضالي، ولا دوره في تحرير أرضه من الاستعمار.
ما الفرق بين هذا الجهاز المتهاوي، وجهاز الدواعش الحامل معه تاريخ الجرائم الديكتاتورية، فهو يحمل كل خصائصها القاتلة، الآيديولوجية، والفكرية، والإجرامية التي دخلت من شدة المعاشرة والمصاهرة، في الخلايا والجينات، مضافاً لها خصائصه التي أنشأها وفق تجربته، الأكثر ردة، وتخلفاً، وبؤساً، ليتمَّ ما بدأه الديكتاتور ومحيطه المحلي والدولي. وفجأة تحولت حداثة الأنظمة المعطوبة، وعلمانيتها الكاذبة، وإيمانها النفاقي، إلى المساحات المفضلة التي نبت في ظلها القتلة، محميين من النظام نفسه، فاستولوا على أهم قطب لصناعة المستقبل: المدرسة. عندما فتح الناس أعينهم، وجدوا أنفسهم أمام فيض من الشباب لا يحكمهم أي شيء سوى العدمية التي ألبِست لباساً دينياً عدوانياً. جيل يحمل كل الخيبات المطعمة باليأس. شباب خاب ظنه في كل شيء، في تاريخه وتاريخ الأجداد، لأن الديكتاتوريات التي جيّرت الدولة لصالحها، لم تترك لهم ما يفتخرون ويعتزون به. فقد تم استبدال التاريخ الوطني بالتاريخ العائلي الذي تم تمجيده بشكل كاذب، وأنشِئت «سلالية» وصلت في امتدادها حتى الرسول الأكرم. ابتذل الوجدان الشعبي وحُوِّل إلى سلم ارتقى الديكتاتور من خلاله إلى أعلى مراتب الحكم الذي لم يدخر جهداً في تضخيم جيش أعداء الشعب، وابتذال الطبقات الأكثر بؤسا بتجنيدها للمهام المخابراتية الأكثر اتساخاً.
لم يترك للشعب فرصة أن يكون شيئاً آخر سوى قطيع يستجيب بوداعة للأقوى حتى ولو كان الذئب الذي سيأكله. الحركات الإرهابية المتطرفة التي غزت العالم، والعالم العربي تحديداً متأتية، من هذا المعدن القاتل، ومن هذه المعادلة المستعصية والممكنة. قد يكون لليد الخارجية دور، لا شك في ذلك ما دامت هناك مصالح، لكن الذي نماها ثقافياً هو الديكتاتور، الحاضنة التقليدية والطبيعية لكل المسخ الذي حدث لاحقًا. أي نموذج خلفته هذه التجربة الديكتاتورية التي استمرت في زمننا الحديث قرابة القرن، سوى تفكيك أواصر الدولة وتجييرها، بؤس الإرهاب، وزرع الفتن الطائفية التي وجدت خارجياً من ينميها.
الإرهاب ليس أكثر من إخفاق تجارب التحول الديمقراطي كما عند كل الشعوب التي خلقها الله على الأرض، ومنحها بعض العقل لتخرج من دائرة التخلف. الديكتاتورية في النهاية، لا ترى إلا أنانياتها الضيقة، ومصالحها، وبعدها، ليُحرق كل شيء، ولا يهم شكل الجريمة، إذ كلما ظننّا أنها وصلت إلى سقفها في الجريمة، ينهض الديكتاتور أو لواحقه، ليتخطى نحو عتبات جديدة للجريمة.
ليست الأحداث التي نعيشها اليوم إلا علامات صغيرة لما يمكن أن ينتظرنا عندما تنهار الأنظمة كلياً، وندخل ليس في الديمقراطية، ولكن في اللاّدولة نهائياً التي تتحمل فيها الديكتاتورية المسؤولية الأكبر. اللاّدولة هي البدائية التي لا شرع فيها ولا قانون. داعش ليست إلا التجلي الطبيعي للحالة التي أسستها الأنظمة الديكتاتورية التي تشبثت بالسلطة حتى قتلتها. مع أن الديكتاتورية العربية، مع بعض التبصر، كان يمكنها أن تصنع لنفسها، ولشعوبها، مصائر أجمل. لكن الديكتاتور يصبح أعمى وأطرش وبلا لغة غير خطابه، كلما تعلق الأمر بالحكم والسلطة.
واسيني الأعرج
الدكتاتورية هي في الحقيقة من الشعب !
شعب ثار لأجل العيش والحرية والعدالة الإجتماعية,
وحين تنجح ثورته ويكسب الإسلاميين الحكم بديموقراطية يستدعي دكتاتوراً عسكرياً ليحكم بدلاً من الرئيس المنتخب !
ولا حول ولا قوة الا بالله
الاستبداد هو اصل الارهاب والفساد والفقر والانحطاط والتبعية والانشطار والتفتت.والحل يبدأ من بناء الاجماع الوطني الدائم بين مختلف القوي السياسية علي اساس رفض كل اشكال العسكرة والابتذال.
استاذنا الكبير واسيني مقالك يصب في صلب مأساتنا الكبرى
انها الديكتاتورية السلالية الطائفية الهمجية الحاقدة الفاسدة الخائنة لشعبها ووطنها التي أوصلتنا نحن الشعوب العربية إلى الدرك الاسفل من الجحيم، ولا ننسى نبش الاحقاد الدينية لا لنصرة زيد او عمر وانما فقط لاستغلالها في ضرب ابناء الوطن الواحد بعضهم ببعض، لتبقى الديكتاتورية صامدة، والسلالة مستمرة، وما نشهده في العراق وسورية ولبنان واليمن والبحرين هو مثال حي على ذلك,
أستاذنا الفاضل, مشاكل المجتمعات العربية ليست كمشاكل شعوب أخرى بدون شك, التناقضات الإجتماعية وقلة الوعي وحب التملك في رقاب الغير ثقافة مقدسة. الصراع على السلطة الدينية وليست السياسية ومنها إلى تحويل المجتمعات إلى مسارات لايرضاها كل الشعب, يجري ذلك من تحت الماء وبدون ضجيج . مثال : ” في المغرب وفي السنين الأخيرة صارت برامج التعليم المدرسي ـ تزيغ عن طابعها العلمي في أتجاه طابع ” الغيب ” , مثال : ” الجفاف ” وقلة المطر ” عقوبة ” المطر نفسه لم يعد ذاك البخار الساخن الذي يتحول في آخر المطاف إلى ما نعرفه بالمطر. تكون المطر صار من الغيبيات.
اليوم, في حكومة جديدة يكلف وزير داخلية سابق بمهمة وزير التربية والتعليم . لماذا ؟ لكي ينقي في المناهج والمقررات, بتصريحه . أهل هذا جيد أم لا ؟ طبعا بحسب من يسأل ؟ أنا أقول جيدا ولو تعارض مع فكري الديمقراطي, لأن أناسا بخلفيات معروفة أرادوا إرجاعنا للخلف والتخلف.
يحتار الإنسان في البلاد العربية حقيقة. العرب يحتاجون الوعي ثم الوعي ثم الوعي, عليهم أن يكونوا فكرا نقديا , عليهم التشكيك في الخرافات, عليهم أن يطلبوا الدليل والإقناع من كل من يحاول تغيير أسلوب حياتهم بأسلوب الخيال, عليهم القطع مع من يخوفهم من مصير مابعد الحياة. وعليهم وعليهم. بعدها وإذ ذاك سيحسب لهم ألف حساب وسينتزعون الديمقراطية لأنها لن تمنح لهم أبدا .
الديمقراطية أصبحت عندنا فقط ” كلمة ” تردد , قطعة حلوى تسيل لعاب الجميع . لكن إن سألت أناسا عنها يقولون : ” تطبيق الشريعة ” أخرون ” دولة الخلافة ” وهكذا . أما الديمقراطية الحقيقية التي تحترم وتقدس حق الحياة وتدافع حقوق الجميع بأعراقهم وأديانهم وألوانهم وخلفياتهم فليس لهم بها علاقة.
أي ديمقراطية ينشد هؤلاء؟
المهم ألا وأخيراَ يا أخي عبد الكريم هو الدولة التعددية الحديثة التي تحترم المواطن أي دولة المواطنة بالتعددية السياسية وما تبقى هو صراع لا قيمة له برأيي.
الرفيق عبد الكريم البيضاني كما عرفتك مناضل و ما تزال وفيا لفكرك والى اللقاء .
شكرا أخي فؤاد.
للأسف , هي الصورة .
عبد الكريم رفيق ! ماذا يعني ذلك ؟ شيوعي أم بعثي ؟ كنت أظنك ليبرالياً أو علمانياً !!
ولا حول ولا قوة الا بالله
ا لدكتاتورية قبل أن تكون صناعة محلية لشعب خانع ( يخاف مايختشيش )علي رأي المثل الشعبي بينما يأتي دور القوي الخارجية في تجميلها وحمايتها اذا كانت تدور في فلكها ولا تعارض سياساتها، فالدكتاتور قد يكون وطنيا قوميا عاشق لوطنه وترابه وقد يكون عاشق لذاته وطافته وعشيرته علي حساب باقي الشعب من المطحونين والمقهورين ، والنوع الاول يكون دائما معاديا للهيمنة الخارجية بينمت يزدهر النوع الثاتي في أحضان العمالة والتبعية التي تحمي الكراسي والعروش.. وهيهات بينهما .
شكراً يا أخي واسني الأعرج على هذا المقال. نشعر بالألم وبالراحة معاً عندما نقرأ مثل هذا الكلام لأنه يضع الأصبع على الجرح كما يقول المثل الشعبي. نعم وبكل تأكيد الإرهاب هو بسبب إخفاق تجارب التحول الديمقراطي أو لنقل التحول إلى دولة حديثة ودولة المواطنة وما ” زاد الطين بلة” كما يقول المثل الشعبي أيضاً هو ما عبّر عنه قبل عدة أيام الصحفي في القدس عبد الحليم قنديل في مقاله ” إن أردتم هزيمة الإرهاب” عندما تحدث عن استثمار الإرهاب من قبل هذه الأنظمة ومن مَنْ يدعمها أو يريد الحفاظ عليها وعلى تخلفنا وانهيارنا الحضاري.
الاخ واسني ارجو ان نفهم ان الديمقراطية وسيله وليست غايه ان الوصول لمجتمع متوازان عادل منصف متساوي الحقوق والوجبات ولديه قنوات التشريع والخطط الممنهجه لتحقيق العداله الاجتماعيه والتقدم ودعم الخطط للوصول للرفاه والسعي لمستقبل واضح المعالم وهذا يتطلب مؤسسات مجتمع مدني مستقله عن الحكوات ولها صلاحيات وسلطه تشريعيه مطاعة .