حين أطلق أندريه مالرو على مذكراته صفة اللامذكرات ذهب إلى أقصى النفي من أجل الإثبات، لكنه أثبات مغاير للمألوف، فهو روائي ومغامر ومؤرخ فن، إضافة إلى دوره الميداني في الحرب الأهلية الإسبانية، وقد اقترن اسمه بالجنرال ديغول لدى الساسة، مثلما اقترن اسم الجنرال به لدى الأدباء والمثقفين، بحيث أصبح مثالا يستشهد به من يبحثون عن مبرر لبلوغ منصب رسمي.
وبالفعل هناك من حاولوا اقتفاءه لكنهم تحولوا إلى كاريكاتيرات، لأنهم كما قال محمود درويش وجدوا أنفسهم بلا فرنسا وبلا ديغول أيضا، وليس لديهم تلك السردية الوطنية أو الناراتيف التي شهدت على تحرير فرنسا من الاحتلال النازي، فهل كان مالرو يقصد من خلال عنوانه المفارق للمألوف أن يشير إلى ما يمكن أن نسميه الذاكرة الداجنة؟ أم أنه شأن سواه من الروائيين وجد أنه استخدم الكثير من سيرته الذاتية في رواياته، تماما كما اكتشف أرنست همنغواي أنه أفرغ حمولة سيرته في رواياته، ولم يدخر ما يمكن تصنيفه على أنه مذكرات، وقد يكون عصرنا من أكثر العصور التي ازدهرت فيها كتابة المذكرات، لأسباب منها ما هو سايكولوجي يستهدف تبرئة الذات وإعادة إنتاج الوقائع، ومنها التجاري، ومنها أخيرا الاعتذاري الذي يستهدف التطهّر.
وحتى وقت قريب كانت مذكرات القديس أوغسطين وجان جاك روسو هي الأكثر تداولا في مجال نقد السيرة، خصوصا في علم النفس، حيث لم تعد الاعترافات بوحا بريئا، بقدر ما هي تسليط إضاءة على زاوية من المشهد، بهدف تعتيم زوايا أخرى، وهذا بالتحديد ما قـــــاله محللون نفسيون عن مذكرات روسو، وكأن الجرأة في البوح عن كل ما يتعلق بالجسد هي المعيار الذي يحتكم إليــــــه في فن السيرة، رغم أن هذا البوح قد يكون الشجرة التي تحجب الغابة، قدر تعلق الأمر بالسياسة والتربية وما تدخره الذاكرة من أسرار.
وقد لا تستمد المذكرات أهميتها من السيرة الثقافية لمن يكتبونها، لأن هناك نماذج كانت المذكرات بالنسبة إليهم هي أهم منجز في تاريخهم، وليست مجرد هوامش على سيرة ثقافية، كمذكرات شاتوبريان وماري بشكرتسيف وفازلاف نجنسكي وآخرين. وهناك تناسب طردي بين الفائض في فن السيرة والفائض من الحريات، لهذا كانت المذكرات في ثقافتنا العربية حتى وقت قريب تراوح بين السيرة الذهنية المعرفية، على غرار سيرة ابن سينا وبين يوميات تمر من مصفاة الذاكرة بهدف التدجين وحذف كل ما هو خارج عن المألوف والأعراف، وباستثناء ما كتبه المغربي محمد شكري في «الخبز الحافي» وسهيل إدريس في مذكراته وحنّا مينة إلى حدّ ما، فإن ما يغلب على السيرة العربية هو إعادة انتاج الطفولة أو اختراع طفولة أخرى، كي لا يبدو صاحب السيرة بعيرا أجرب في القافلة، وبالتالي يتم نبذه وإفراده.
لهذا فالمسكوت عنه في المذكرات التي كتبها عرب، سواء كانوا من الساسة أو الأدباء أو المشاهير في مختلف المجالات أضعاف المعترف به، وذلك بسبب الإفراط في الحذر وتجنب البوح، لأن العقاب الاجتماعي بالمرصاد.
وقد بلغ هذا الحذر والتجنب حدا أدى إلى تدجين المذكرات المترجمة من لغات أخرى. وهناك نصوص تعرضت للحذف أو التحوير بفضل وفرة المترادفات في لغتنا ومنها نصوص لهنري ميلر ود. هـ. لورنس لأن هناك نوعا غريبا من الضريبة يفرض على ما يترجم من لغات أخرى وهي ضريبة أخلاقية بامتياز.
الذاكرة الداجنة لا تطيق التحليق عاليا وبعيدا عن جاذبية الواقع، وفيها من الكوابح القسرية والفوبيات ما يحولها إلى مصفاة أو «فلتر» بحيث تحجب غير المرغوب فيه وغير المسموح بإعلانه، رغم أن العربي سواء كان كاتبا أو مجرد مواطن عادي ينعم بفرصة نادرة لإبلاغ العالم بما عانى وكابد وأخفى منذ لثغ جسده بأول فُضول حسّي، وما خسرناه بسبب تدجين الذاكرة وارتهاناتها للتقاليد وتربويات الزجر والقهر يصعب تخيله لغزارته.
وقد يكون ما نجهر به من ذكريات خارج الكتابة أهم بكثير من ذلك الذي يتبقى للورق، وثمة روائيون احترزوا من الخلط بين ما يقول الراوي في نصوصهم وبينهم كأشخاص، فقدموا لرواياتهم بعبارات أشبه بالتخدير الذي يكتب على علب السجائر، وهو أن أي تشابه بين شخوص الرواية أو أحداثها وبين الواقع هو مجرد مصادفة، ولعلّ هذا ما دفع الكاتب الراحل يوسف ادريس إلى إطلاق مقولته الشهيرة وهي أن الحريات المتاحة في الوطن العربي كله لا تكفي كاتبا واحدا، وقد يكون ما اعترف به شاعر روسي وهو في الثلاثين حين أصدر سيرته، وهو يوجين يفتشنكو، أكثر جسارة واختراقا مما قاله شعراء عرب بلغوا الثمانين، لكنهم سئموا تكاليف الحياة، كما قال زهير بن أبي سلمى، ولاذوا بالصمت ثم دفنت أسرارهم معهم بلا أمل في أي قيامة تنشرها.
إن ثقافة تفرض على المبتلى بها أو من أدركته، كما قال الإسلاف أن ينفق ثلاثة أرباع طاقته ووقته دفاعا عن حقه في استخدام الربع الباقي، هي ثقافة تمارس انتحارا بطيئا وهي لا تعي ذلك، ما دام الصدق فيها يعاقب والنفاق يكافأ وأخيرا تتحول الشيزوفرينيا من إصابات فردية مُتباعدة إلى وباء قومي.
وأخطر ما في الذاكرة الداجنة أن عدواها تنتقل إلى الخيال فيصبح ملجوما كحصان، وبدلا من أن يكون مِكّرا مِفرّا أو تحته الريح، كما قال المتنبي يصبح أسير عربة ملآى بالبطيخ أو النفايات.
٭ كاتب أردني
خيري منصور
شكرا استاذ خييري على ما كتبت وما سوف تكتب فهي بوصلة فكريه لمن يريد ان يخرج من طوق الثقافة المقولبة والجاهزة