أعربت تركيا عن ترحيبها بفوز الرئيس الأمريكي ترامب على أمل أن يغير سياسة سلفه باراك أوباما نحو تركيا وقضايا الشرق الأوسط بما فيها القضية السورية. ولو أن أمريكا وافقت وجهة نظر الحكومة التركية على عدد من القضايا مثل، المنطقة الآمنة وتحرير منبج من قوات حماية الشعب التابعة للحزب الديمقراطي وحزب العمال الكردستاني، ولو أن إدارة ترامب لم تقف حجر عثرة أمام تحرير منبج والرقة في عملية درع الفرات، لأمكن القول ان الضربة الأمريكية لقاعدة الشعيرات الجوية، تمت بالتفاهم والتنسيق مع تركيا. ولكن لا أدلة حتى الآن على أن أمريكا نسقت مع تركيا على ذلك، كما أنها لم تعلن انها نسقت مع تركيا أو أحد من الدول العربية بخصوص هذه الضربة، بما فيها المملكة العربية السعودية، ولكنها أعلنت بعد ساعات من توجيه الضربة للأسد أنها أخبرت روسيا بها، كما أعلنت أن خبراء روسا وسوريين مختصين بالأسلحة الكيميائية غادروا قاعدة الشعيرات قبل ساعات من قصفها، ما قد يفيد أن الأسد وروسيا قد نسقوا هذه الضربة واتفقوا عليها مع أمريكا مسبقاً، أو على الأقل ان التنسيق تم مع روسيا وحدها، وفي الحالتين لا بد من معرفة أهداف الضربة، لأن السياسة لا تعالج الماضي، بما فيه القصف الكيميائي لخان شيخون، وإنما تمهد للإجراءات السياسية المقبلة في سوريا، ضمن الاتفاق الأمريكي الروسي، ولأن الدولتين لا تخططان لحرب عالمية من أجل سوريا ولا من أجل عيون بشار الأسد، فإن الضربة هي الخطوة الأولى في الحل السياسي من وجهة نظر ترامب.
وحيث أن الضربة الصاروخية كانت محدودة الزمان والمكان والنتائج، فإن أولى الخلاصات أنها رسالة سياسية أكثر منها عسكرية، فتأثيرها على جيش الأسد ضعيف جداً، وأمريكا ليست بحاجة لتوجيه رسالة إلى روسيا لأنها قادرة على التفاهم معها سياسيا ومباشرة، وبينهما لغة مشتركة لأكثر من قرن تقريباً، فبقي المقصود الأخير هو إيران، التي عرقلت اتفاقيات جنيف وأستانا أيضاً، وانتهاء الحاجة السابقة إليها ومتعلقات الملف النووي معها، فالرسالة موجهة إلى إيران في الدرجة الأولى بأن الخيار العسكري الأمريكي في سوريا يمكنه أن يغير معادلات الأوضاع العسكرية، وبالتالي لا بد ان تكتفي إيران في سوريا بالحصة التي ستأخذها روسيا ضمن أي اتفاق سياسي مقبل بعد تصفية حكم أسرة الأسد كما قال وزير الخارجية الأمريكي تيلرسون في ختام اجتماع الدول السبع قبل أيام، فالضربة العسكرية موجهة ضد الغطرسة الإيرانية في العراق وسوريا أكثر مما هي موجهة لبشار الأسد نفسه، ولذلك ينبغي فهم الضربة الصاروخية الأمريكية على الشعيرات بأنها الخطوة الأولى لتقليم أظافر إيران في سوريا، وبالتالي فإن على إيران ان تتقبل زوال أسرة الأسد ضمن مراحل الحل السياسي في جنيف أولاً، وإلا فإن مصيره مصير القذافي كما قال مقتدى الصدر وهو يوجه نصيحته لبشار وإيران معاً بضرورة تنحي الأسد لتجنيب إيران خسارة عسكرية شنعاء ثانياً.
وعلى أساس ذلك نعتقد أن الإدارة الجديدة في الولايات المتحدة عملت على خلق توازن بين تركيا والأحزاب الكردية في سوريا، والأرجح ان هذا التفاهم يشمل وضع روسيا في الصورة، ولعله تم في اجتماع القمة لقادة الأركان العسكرية الثلاثة التركية والأمريكية والروسية، الذي عقد في انطاليا التركية قبل شهر تقريباً، فأمريكا وكذلك روسيا يريدان التفاهم مع تركيا أولاً، ويحرصان على أمنها القومي الداخلي والخارجي، ولكنهما لا يريدان التخلي عن الأحزاب الكردية ثانياً، لأن كل طرف منهما ينافس نظيره في التحالف مع الأحزاب الكردية لما لها من دور عسكري وسياسي في مستقبل سوريا، والأكراد ورقة سياسية وعسكرية أساسية بالنسبة لأمريكا أكثر من روسيا، لأن القواعد العسكرية الأمريكية في سوريا ستكون في الكيان الكردي المصطنع، ولذلك لا تريد خسارتهم لصالح روسيا أولاً، ولا لصالح إيران ثانياً، ولكن عليها التعهد لتركيا بعدم تحويلهم لمصدر قلق واضطراب ضدها، وبالأخص في المرحلة التي تحتاج بها أمريكا الميليشيات الكردية في محاربة «داعش»، سواء في سوريا أو العراق وربما في إيران مستقبلاً، أو في تركيا إذا عارضت تركيا المشاريع الأمريكية في سوريا!!
لذلك فإن تركيا بحاجة إلى التفاهم مع أمريكا بما يضمن تبادل المصالح والأمن المشترك أولاً، وعدم العمل ضد بعض ثانياً، وهذا ينطبق على العلاقات التركية الروسية، فتركيا لا تضع روسيا أو أمريكا في كفة العلاقات الدولية بديلا عن الآخر، وإنما تريد التعاون الدولي معهما معاً، فقط انتهت تحالفات الحرب الباردة بكل أسبابها وأهدافها، وتركيا اليوم تصنع سياستها الخارجية بما يخدم مصالحها أولاً.
إن السياسة التركية ترى ان الضربة الصاروخية هي لإضعاف بشار الأسد وداعميه من الإيرانيين وغيرهم، وتزامنها بعد ضرب الأسد لخان شيخون بالأسلحة الكيميائية سبب رئيسي للتأييد التركي والعربي والإسلامي، وفي الأخص ان الضربة الكيميائية جاءت لحماية الميليشيات الإيرانية وحزب الله اللبناني الموجودة في المنطقة نفسها، فقالت تركيا إن الضربة الأمريكية الصاروخية على الأسد ضرورية، وإن تأخرت ولكن لا بد منها، بل لا ينبغي الوقوف عندها أيضاً، بينما جاء الموقف الإيراني منددا بالضربة لأنه هو المقصود منها، فقد أعلن خامنئي شخصياً رفضه للضربة الصاروخية الأمريكية، ليس حرصا على سوريا ولا على دولة عربية أو إسلامية وإنما حرصا على التواجد العسكري الإيراني في سوريا، فهو يدرك ان الرسائل الأمريكية موجهة لإيران باعتبار الدولة الأولى الراعية للإرهاب من وجهة نظر أمريكية.
إن من الإسراف الإيراني والروسي أن يتذرعا بمخالفة الضربة للقانون الدولي، وهما يقتلان صباح مساء الشعب السوري بالأسلحة المحرمة دولياً، وليس بمستبعد أن تكشف التقارير المستقبلية عن تعرض الشعب السوري لأسلحة نووية من روسيا أو إيران كما ضرب الجيش الأمريكي الشعب العراقي باليورانيوم المنضب وتعرض جنوده للأذى النووي أيضاً، فروسيا تعلن أن سوريا ميدان تجارب لأسلحتها وصواريخها البالستية، وقد تجرب الأسلحة النووية والكيميائية، ولا حجة لهما ادعاء الدفاع عن دولة عربية أو شعب عربي، لأن المقصود بالضربة الأسد وإيران فقط، وبسبب استعمالهما الأسلحة الكيميائية في مخالفة صريحة للقانون الدولي، فالاستعمال الأول الفاضح للكيميائي كان بتاريخ 20 آب/اغسطس 2013 عندما عزمت أمريكا على معاقبة بشار الأسد هربت روسيا جنودها من سوريا أولاً، وتوسطت لنزع مخزون السلاح الكيميائي السوري مقابل توقف إدارة أوباما عن توجيه ضربة عقابية لنظام الأسد، وفي الشهر نفسه آب/أغسطس2013 أصدر مجلس الأمن الدولي قراره 2118 ندَّد فيه باستخدام النظام للسلاح الكيميائي وأكد على منع سوريا من تصنيع وتخزين واستخدام مثل هذا السلاح في المستقبل، ولكن بشار الأسد لم يتوقف عن ذلك بالسر والعلن حتى جريمة خان شيخون.
ان الحكومة التركية في تأكيدها الاتهام الأمريكي لبشار الأسد باستخدام السلاح الكيميائي لا تنطلق من تفاهم سياسي مع أمريكا، بل أكّد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أنّ بلاده لديها تسجيلات رادارية تُظهر المقاتلات التي قامت بقصف بلدة خان شيخون بريف محافظة إدلب، بالأسلحة الكيميائية، وقال أردوغان: «إنّ تصريحات بعض الجهات حول انبعاث الغازات الكيميائية من مواقع المعارضة التي استهدفتها مقاتلات النظام السوري ببلدة خان شيخون، عارية عن الصحة تماماً» فالموقف التركي واضح وصريح برفض استخدام الأسلحة الكيميائية، ومعاقبة من يستخدمها وعدم دعمه، ولذلك طالبت تركيا روسيا بوقف دعمها لبشار الأسد.
ولا حجة لمن يدعم الأسد لأنه لم يستخدم السلاح الكيميائي فقط، فأيهما أشد إجراماً وإرهابا ان يقتل الأسد مئة سوري بالأسلحة الكيميائية أو ان يقتل مئات الآلاف منهم بالأسلحة التقليدية أو المحرمة دولياً؟ فالمذابح البشرية وتهجير الشعب من مدنه وقراه زادت عن نصف الشعب السوري، وكذلك ترحيل السوريين من مدنهم وقراهم ضمن اتفاقيات ترعاها روسيا والأمم المتحدة أكثر من جريمة، والسكوت الأمريكي عن ذلك جريمة أيضاً، وهو تخاذل من الدول العربية والإسلامية، فالتغيير الديموغرافي يهدف إلى تغيير مستقبل سوريا من دولة عربية مركزية إلى دويلة طائفية مسخ، وإيران تتحمل مسؤولية ذلك تاريخيا أكثر من غيرها.
محمد زاهد جول