«تخيل رجالا قبعوا في مسكن تحت الأرض على شكل كهف، تطل فتحته على النور، يليها ممر يوصل إلى الكهف، هناك ظل هؤلاء الناس منذ نعومة أظفارهم، وقد قيدت أرجلهم وأعناقهم، بأغلال بحيث لا يستطيعون التحرك من أماكنهم ولا رؤية أي شيء سوى ما يقع أمام أنظارهم، إذ تعوقهم الأغلال عن التلفت حولهم برؤوسهم ومن ورائهم تضيء نار … وبين النار والسجناء طريق مرتفع ولنتخيل على طول هذا الطريق جدارا صغيرا مشابها لتلك الحواجز التي نجدها في مسرح العرائس، والمتحركة والتي تخفي اللاعبين وهم يعرضون ألعابهم.
فلنتأمل الآن ما الذي سيحدث بالطبيعة إذا رفعنا عنهم قيودهم وشفيناهم من جهلهم ولكنهم نائمون تعودوا على الاستبداد مادام أننا خدرنا إدراكهم، فبأي معنى يمكن تحريرهم من الشقاء؟ ألا يكون الوعي الشقي شعارهم مدى الحياة؟ ولماذا لا يرغبون في الوعي الذاتي؟».
ما أمتع هذا الشفاء، وما أعظم هذا التحرر من القيود، ولكنه لا يتم إلا بواسطة الفلسفة التي ستخرج هؤلاء السجناء من سجنهم، وتسمو بهم إلى فيوضات العقل الذي ينيره ضياء الشمس، فيتذكر أن المعرفة حكم صائب يدعمه البرهان. هكذا سنلتمس من سقراط أن يرافقنا في هذا الطريق المضطرب، الذي يحرض الروح على التماثل للشفاء من أخطر الأمراض، وهو الجهل، الذي يسود في تلك المدن التي تعتقل محبة الحكمة في سجونها، وتحاصر الحكماء بجدران متشابهة لتلك الحواجز التي تستخدم في مسرح العرائس، ذلك أن العلاقة بين المدينة وأهلها علاقة حميمية ترقى إلى مستوى التأثير والتأثر، لأن المدينة لا تكون جاهلة إلا عندما يكون سكانها جهالا.
ربما تكون محنة هذا الكتاب هي مطاردته من قبل لعنة التيه، والشاهد على ذلك أنه يكتب نفسه بنفسه في أفق مضاد للكتابة، لأنه يتحرك بدون أن يرسم لنفسه غاية أو هدفا محددا. هكذا تكون الكتابة عن الميتافيزيقا مجرد رقص بالقلم: «إن الفيلسوف يكتب ضد الكتابة، يكتب من أجل أن ينـزاح عن انهيار الروح الذي تسببه الكتابة، إنه يكتب ما يمليه عليه اللوغوس لكي يظل مخلصا لتعاليم الميتافيزيقا». التي تحرضه على عشق الحقيقة مهما كان ثمنها، ولو اقتضى الحال التخلص من كل وهم باعث على التفاؤل. وطمحت يوما إلى الرقص بالكلمات متعاليا بعشقي إلى ما وراء الطبيعة لعلني أجد ما أبحث عنه، بيد أن قدر الكتابة والميتافيزيقا ظل يلاحقني، وسمعت نداء الحكيم، حين كان يحاور نفسه قائلا: «إنني لأعجب من تحملي هذه الصدمات وأعجب لصبري على ما فتحت من جراح، فكيف أمكن لروحي أن تبعث من هذا الجحيم». من المحتمل أن يكون هذا الحكيم هو الناطق الرسمي باسم الفلاسفة، ولذلك فإن هذه الشجاعة التي امتلكها على قول الحقيقة، كل الحقيقة لا يمكن أن يمتلكها سوى هذا الشاعر المتجول بين السماء والأرض، بين الجبال والبحر.
لقد كرهت هذه المدينة، أنا أيضا وليس هذا المجنون من يثير كراهتي فحسب، فهي مثله وهو مثلها وليس فيهما ما يقبل إصلاحا أو زيادة فساد. سأرحل، تائها في مسارات الحنين الذي فرض إيقاعا شرسا على الزمان بعد انزلاقه في نعيم القلق ودفع الحاضر والمستقبل إلى الذوبان في جحيم الماضي، حيث تسود ذكريات الأحباء الذين حولهم الزمان إلى رماد تتلاعب به رياح الخريف، هكذا، تتحول الفلسفة إلى منفى للمغترب، الذي يخاطب نفسه مندهشا؛ ما أروعك في المدينة الجاهلة؟ وما أمتعك في غربتك؟ وكم أنت جميل في المنفى؟ الذي حولك إلى مجرد فيض من الذكريات، هل تشعر باسترخاء لأنك استطعت أن تخرج من فترة حداد عشتها في المدينة الجاهلة؟
وفي الحقيقة أن الفارابي حكم علينا بالتيه في مدينته، والتسكع بمتعة في أزقتها، وكان أملنا أن نصادف بعض المشردين والحمقى والمنحرفين وقطاع الطرق، بيد أننا أصبنا بخيبة الأمل، لأن أهل هذه المدينة تلقوا تربية فلسفية أكسبتهم هيئة نفسانية جيدة فاضلة، وكل واحد منهم إنما يصير في حد السعادة، هكذا تكبر المودة فيهم، فكلهم كنفس واحدة، ولهم أشياء مشتركة يعلمونها ويفعلونها، حسب السياسة الفضلى التي ترأسهم: «فقد قسموا مناصب السلطة إلى قسمين: وجعلوا القسم منها انتخابيا، والقسم الآخر شيئا يقترح عليه. أما المناصب التي يقترع عليها فقد انشأوها لينال الشعب منها نصيبه». بيد أنه بمجرد ما نخرج من مدينة الفلاسفة حتى تصادفنا كل مظاهر البؤس والتشرد والفقر، وما دام أن الفقر مدعاة إلى الثورات وإلى مساوئ الأعمال، فإن الإغاثة لا تنفع من أجل القضاء عليه، لأنها مجرد برميل لا قعر له، إذ لا ينبغي على مضللي الشعب المعاصرين والمراوغين الذين يوزعون على الشعب ما فضل عن الخزينة: «لأن الشعب يتناول ما يجرى عليه من إسعاف، ولا يفتأ أبدا بحاجة إلى ذلك الإسعاف، بل يجب: «أن يجمعوا لكل معسر ما يكفيه لاقتناء حقل صغير، أو ما يمكنه من تعاطي التجارة، أو الإقبال على الفلاحة والزراعة… لأن الأرض مشاع لهؤلاء من جهة الانتفاع». فأي مدينة سنختار؟ هل مدينة الفلاسفة أم المدينة التي نعيش فيها؟ وكيف يمكن تحديد ماهية المدينة الجاهلة التي تفرض نفسها على الفيلسوف؟
لا يريد الفارابي أن يمنحنا شهادة السكنى في مدينته، لأنه هو نفسه كان من النزلاء فيها، ولم يكن مواطنا ينتمي إليها، والشاهد على ذلك أنه كان يخرج منها إلى المدينة الجاهلة لكي يشتري قلوب الحملان ونبيذ العراق، ثم يعود إلى متعة الفلسفة في هذه المدينة السعيدة، ولذلك نجده يتحدث عن أحوال الفلاسفة في هذه المدن القهرية قائلا: «وأما المضطرون والمقهورون، من أهل المدينة الفاضلة، على أفعال الجاهلية، فإن المقهور على فعل شيء، لما كان يتأذى بما يفعله من ذلك، صارت مواظبته على ما قسر عليه لا تكسبه هيئة نفسانية مضادة للهيئات الفاضلة، فتكدر عليه تلك الحال حتى تصير منزلته منزلة أهل المدن الفاسقة فلذلك لا تضره الأفعال التي أكره عليها، وإنما ينال الفاضل ذلك متى كان المتسلط عليه أحد أهل المدن المضادة للمدينة الفاضلة، واضطر إلى أن يسكن في مساكن المضادين»، فهل كان الفارابي هو هذا المقهور المضطر إلى أن يسكن في تلك المساكن المضادة لحلمه الفلسفي؟ ألم يكن يستضيء بالقنديل الذي هو لحارس الحديقة من أجل أن يستدعي أرسطو ويفتح معه حوار في السياسة المثلى والمدينة الفاضلة؟ وهل كان بالفعل سعيدا في مدينته الفلسفية؟ أم أنه كان يستدرجنا إلى السقوط في مخبأ أحلامه اللذيذة؟
كم هو محير هذا الوضع الذي تركنا فيه النص الفلسفي إذ أصبحنا لا نميز بين لذة العيش فيه وما نعيشه في راهننا، إلى درجة أن الحلم اختلط بالواقع. وربما يكون هذا هو السبب الذي جعلنا نختار متعة الفلسفة من أجل أن نسمو عن أخلاق المدينة الجاهلة، نقتحم هدوء ونعمة المدينة الفاضلة التي تظل معلقة في البرزخ تجـــــتذب كل من يبحث عن الغبطة والابتهاج، لكن أليست مشاعر الفيلســــوف هي نفسها آمال الفلسفة عندما تدفعه إلى أن يلقي بنفسه في الدهشة؟ وهل يمكن اعتبار محبة الحكمة مجرد حيلة للبرء من مرض المدينة الجاهلة؟
سنترك هاته الأسئلة للسيد الرئيس للإجابة عنها حتى لو اقتضى الحال الانتظار على امتداد الزمن، خاصة أن زمن الرؤساء مديد لا يريد النهاية.
كاتب مغربي
عزيز الحدادي