الرويانون والقصائد

ألاحظ في الآونة الأخيرة، أن ثمة اهتماما غير عادي بالقراءة، من بعض الدول العربية، ومحاولات جادة لجعلها فعلا ممنهجا، ونشيطا وغرسها في حياة الناس، تماما مثلما كانت في الماضي، قبل أن تقضي عليها التكنولوجيا الحديثة وتحولها لفعل متنح، يقوم به البعض، ولا يعترف به معظم الناس.
أصبحنا نسمع كثيرا، عن بلاد وضعت شعار إقرأ، كعنوان لهذا العام، وتجول ذلك الشعار بخطوات واسعة في فعاليات كثيرة، مثل الندوات والأمسيات القرائية وبرامج التلفزيون الخاصة بالقراءة، وأيضا ثمة مسابقات للقراء يتحدثون فيها عن حصاد تجاربهم في المطالعة، ومنهم من يفوز بجوائز جيدة.
هذا أمر ممتاز بلا شك، ومهم بلا شك، ويكتسب أهمية أكثر حين يتم استدعاء قراء مخضرمين، خاضوا سنوات طويلة بين روائح الكتب والمكتبات، واستنشقوا العطر المغبر، وحصلوا على معرفة مهمة، وتحول بعضهم إلى كتاب مهمين، يساهمون في تطوير المكتبات، يتم استدعاء هؤلاء لإلقاء شهاداتهم عن تلك السنوات، كما يحدث في فعاليات شركة أرامكو السعودية السنوية وبرنامج أبوظبي «تقرأ» التلفزيوني، ويحدث الشهر المقبل في تجمع مهم في إمارة الفجيرة في الإمارات، للحديث عن دور الإعلام في القراءة.
ولأن العملية الترويجية، خاصة في المواقع الإلكترونية، كانت تستهدف القطاعات كلها وتنادي القراء ليكتبوا انطباعاتهم عن كتب قرأوها، ويرشحوا تلك الكتب لغيرهم، إن كانت مهمة أو فيها شيء من الفائدة، تجد القراء المزيفون الذين لا علاقة لهم بالقراءة ويدعونها، والذين ربما سمعوا بكتاب وأرادوا أن يبينوا أنهم سمعوا به، وأيضا ذلك النوع من الذين لا يعيرون المعرفة التفاتا في الأصل، والتفتوا إليها مصادفة، تجد واحدا يكتب في موقع من مواقع التواصل الاجتماعي جملة كهذه: لا أقرأ لأي روياني عربي، لأنه ليس لدينا رويانين عرب».
بالطبع هذه جملة لا تمت للغة القراء بصلة، ولن تكون رأيا ملاحظا وجديرا بالاهتمام به ما لم تصحح لغويا أولا، فالرواية اسمها الرواية، والروائي اسمه الروائي، وحين نصحح الأمر وننظر للجملة، نرى غير القارئ هذا، المندس في فعاليات القراءة مصادفة أو عن عمد ليبين رأيا جديرا بالسخرية منه، قد ألغى كل ما قدمته الرواية العربية طوال تاريخها. وما قدمه الروائيون من أعمال لم تنل حظها محليا فقط، ولكن تذوقها العالم في كثير من اللغات، الذي يلغي الكتابة الروائية من عهد هيكل حتى سعود السنعوسي، هذا هو القارئ المزيف أو المندس في مؤتمرات القراءة بلا وجه حق، أنا أحترم القراء طبعا، وأحترم غير القراء، أو غير الراغبين في القراءة أصلا، بشرط أن يبتعدوا عن السكك المعرفية، ولا يدلون بآراء لا تشبه عدم معرفتهم، ولا يمكن أن تصبح آراء سوية. غير القراء هؤلاء قد يكونون أفيد في مواقع أعمالهم، وقطعا فيهم موظفون في مراكز محترمة وأطباء ومحامون وحتى رواد فضاء، وإن كانوا عاطلين عن العمل أيضا، تصبح عطالتهم أفيد في محاولات تحويلها إلى لا عطالة، والابتعاد عن الآراء غير المقبولة. الأمر لا يتوقف عند حدود الرويانة والرويانين، فقط، ولكن يصبح أشكالا أخرى، كلها تدل على عدم المعرفة والتدخل بعدم المعرفة هذه، في حلق المعرفة والخروج بلا شيء. لقد كنت مسافرا مرة، وعند سلم الطائرة أثناء صعودي إليها، ابتسم لي أحد طاقم الضيافة، وكان عربيا، ثم سألني مباشرة:
هل لديك قصيدة جديدة؟، آخر قصيدة قرأتها لك كانت «منتجع النساء».
هذا المضيف، لا يعرف الفرق بين الرواية والقصيدة، وربما يظن الشعر والنثر جنسا أدبيا واحدا، ولا فرق بين قصيدة تهبط من الذهن كومضة أو دفقة، ورواية ينفق فيها الكاتب أشهرا وسنوات. هو لم يقرأ لي شيئا، هذا مؤكد، وأراد مجاملتي بكلمتين، كانتا خارج نطاق المعرفة، وتمثلان بجدارة، ما سميته القراءة المزيفة، التي يدعيها البعض، لم تكن لدي قصة اسمها «منتجع النساء» بالتأكيد، وتحينت فرصة أن مر قربي بعد أن جلست على مقعدي وتحركت الطائرة، وسألته: هل أعجبتك شخصية طارق بن زياد داخل القصيدة؟
قال نعم. ولم تكن هناك شخصية لهذا الفاتح الشهير، في نص لا علاقة له بالتاريخ واسمه «منتجع الساحرات».
كنت كلما أصدرت كتابا جديدا، إن كان رواية، أو كتاب مقالات، أرسل لي شخص قال إنه طبيب، رسالة يقول فيها: قصيدتك الجديدة، رائعة يا أستاذ، لا تتوقف عن القصائد. وفي إحدى المرات رددت عليه أسأله:
ماذا تعني بالقصائد سيدي؟
رد: القصائد هي القصائد، وليس لها معنى آخر غير القصائد. أنت تكتبها وتعرف ذلك أستاذي.
كان من المفروض أن أسأله أسئلة أخرى ربما يرد فيها اسم عنترة بن شداد، وامرؤ القيس، والجواهري، لكني لم أفعل، وحقيقة أعترف بأنني أضعت وقتا طويلا في محاولة بناء جسر جيد بيني وبين المعرفة أولا، وبيني وبين القراء ثانية، ولا أحس بأن تقدما قد حدث، إنها سنوات عزلة مثلها مثل تلك السنوات التي يمكن أن يقضيها أحدهم في كهف أو على رأس جبل لأغراض أخرى غير الكتابة، وما دامت الرواية اسمها الرويانة، والقصيدة رواية، فإن الأمر ما زال بحاجة لأعوام أخرى موصومة بأعوام القراءة، مع برامج مكثفة وورش تدريب على القراءة، شبيهة بتلك المخصصة للكتابة. لربما استجاب غير القراء للنداء بطريقة أخرى وسعوا لتوسيع خطواتهم على الأرض الصلبة، واقتناء الكتب وتقليبها، علهم يعودون بمعرفة ما، وحين ينطق أحدهم برأي في الكتابة العربية بعد ذلك، بلا أخطاء، يمكننا مناقشته، وإقناعه بخطأ رأيه، وربما يقنعنا هو بخطأ ما نعتقد، ونبدأ من جديد كتابة روايات عربية ذات جدوى.

٭ كاتب سوداني

 

الرويانون والقصائد

أمير تاج السر

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الدكتورجمال البدري:

    إنّ فلسفة الكتابة ياسيدي الدكتورأميرالرّواية العربية ؛ هي تعبيرعن العلاقات العامة للكاتب.لا يمكن للكاتب أنْ يكتب لنفسه ولوكان في سجن منفرّد…ومن هنا فكلّ كاتب ( هووزيرخارجية لنفسه ) وبالتالي مخاطبة المستوى المناسب جزء أساس لنجاح الكتابة.ومن هنا صنفّوا : كتب للكبار؛ وكتب للصغار؛ وكتب للعوام وكتب للخواص…وحتى في الصناعة فعلوا ذلك..ففي إحدى البلاد الصناعية وجدت أجهزة كهربائية هي ( بسيطة الصناعة رخيصة التكاليف ) فسألت هذه لمنْ وقد مضى عهدها ؟ قال أحدهم : هذه نصنعها لبعض سكان أفريقيا ؛ الذين مابرحوا لا يجيدون التعامل العالي مع التقنية الفائقة ؛ وتباع عليهم بأسعارمنخفضة…ومن هنا أيضاً قالوا : لكلّ مقام مقال.فمنْ لا يفرّق بين القصيدة والرّواية ؛ مصيب ؛ لأنّ هذا هومستواه ؛ فلا تعجب.لكن ما بالك بمنْ يقرأ ( العدل أساس الملك ) على أنها من آيات القرآن؟ ويصدح بها في التلفزيون ؛ بصوت رنان!!!

إشترك في قائمتنا البريدية