الروائي الشجاع

حجم الخط
4

 

لم يخطر ببالي يومًا أن أضيف صفة الشجاعة إلى اسم كاتب لسببين:
الأول هو أنني لا أستسيغ استخدام الصفات، فالصفة إما أن تكون جزءًا من الموصوف وإما أن تكون إضافة تزينية لا تمت إلى الواقع إلا بصلة واهية، فتصير لزوم ما لا يلزم، وتملأ النص رطانة.
أما الثاني فيتعلق بالرواية والروائي، فالعمل الأدبي يتجاوز هذه الصفة بطبيعته وإلا فقد معناه. فالروائي يكتب ما يختلج في أعماقه، ويقدم شهادة عن زمنه، وهو بالتالي يعبّر بصدق، والصدق لا يمكن نسبته إلى صفات كالشجاعة والجبن، فإما أن يكتب الكاتب فيكون أحد أصوات الضمير أو لا يكتب.
أما من يكتبون بالخوف فهم يسيئون إلى الكتابة نفسها.
ورغم أنني أكره استخدام الصفات، لكنني آثرت أن أضع صفة الشجاعة عنوانًا لمقالي عن رواية علاء الأسواني الجديدة «جمهورية كأنَّ»، الصادرة حديثًا عن «دار الآداب» في بيروت والتي مُنعت في مصر وفي العديد من دول الطغاة العرب.
شجاعة هذه الرواية لا علاقة لها بأسلوبها. الأسواني يتابع هنا لعبته التي بدأها في «عمارة يعقوبيان» وما تلاها، فيمزج حسًّا اجتماعيًا رهيفًا بمعرفة تفاصيل الحياة اليومية المصرية، ويقدم خلطة تجمع الميلودراما إلى الحنين إلى البنية المتوالية التي تشبه صناعة المسلسلات، من أجل الوصول إلى القدرة على إنتاج رواية «بست سيلر» عربية، افتقدناها منذ غياب إحسان عبد القدوس.
لكن مُقترب الأسواني أكثر تعقيدًا من مُقترب عبد القدوس، لأنه نجح في استيعاب البنية السردية الكلاسيكية التي أوصلها محفوظ إلى ذروتها، من دون السقوط في النخبوية، حتى يخال القارئ وهو في عوالم «عمارة يعقوبيان» أنه يقرأ توليفة جديدة لرواية «ميرامار» لنجيب محفوظ، بعدما قام الأسواني باستبدال الشاب الشيوعي في رواية محفوظ بالإسلامي المتطرف.
لعبة الأسواني حاذقة، فهو الروائي الوحيد الذي نجح في صناعة «بست سيلر» عربي بشكل متواصل، بينما فشل روائيون آخرون في متابعة المهمة كيوسف زيدان، وأحلام مستغانمي، وخالد خميسي…
نجاح الأسواني علامة إيجابية في أدبنا السردي، فطبيب الأسنان أثبت أنه كاتب محترف، يعرف كيف يلتقط شخصياته من أحشاء المجتمع المصري، وكيف يأخذها في مسارات متشابكة ومعقدة. كما عرف كيف يصل إلى وجدان القارئ العادي، بنص مصنوع من مزيج واقعي ميلودرامي، لا يقطع مع الثقافة السائدة، لكنه يقدم وجوهها الأخرى في مجتمع مصري مأزوم، يعيش خيبات الأمل التي تتراكم فوق حياة البؤس والفقر، وفي ظل نظام استبدادي أمني، وفراغ أيديولوجي وأخلاقي.
عندما بدأت في قراءة «جمهورية كأن»، والتقيت أشرف واصف في شقته المطلة على ميدان التحرير واكتشفت أزمته الشخصية وتداعي علاقته الزوجية، والحرية التي سمحت له بها الثورة ممزوجة بحبه للخادمة إكرام، قلت في نفسي إن الأسواني يكرر لعبته في اصطياد انتباه القارئ وشغفه.
استولى أشرف على تعاطفي وعطفي، وفجأة رأيت كيف انعطفت بنا الرواية وأخذتنا إلى حكاية ثورة 25 يناير بكل تعقيداتها وتفاصيلها.
قد نقول، وفي هذا القول كثير من الصحة، إن الرواية وقعت أسيرة فكرة المؤامرة من خلال شخصية اللواء أحمد علواني رئيس الجهاز الأمني. المؤامرة التي نسجتها المخابرات الحربية منذ اللحظة الأولى لاندلاع الثورة تعطي الرواية مسحة بوليسية، وتجعلها أسيرة حبكتها. الروائي حر في خياراته، لكن هذه الحبكة لا تقارن بأهمية الكشف الكبير الذي صنعته هذه الرواية، فَـ «جمهورية كأن» تشكل، في رأيي، الوثيقة الأدبية الشاملة الوحيدة عن الثورة والمصير التراجيدي لشبابها الذين قُتلوا وسُجنوا وعُذبوا، في سياق التحالف الجهنمي بين العسكر والإخوان، قبل أن تنفصم عراه في انقلاب يونيو ومذبحة رابعة.
في هذه الشهادة النادرة تكمن أهمية هذه الرواية وقدرتها الاستثنائية على جمع الوقائع وتوثيقها، وتقديم التحية لذاكرة الألم المصري، من خلال سردها لحكاية شباب الثورة، وكيف استولى الجيش والإخوان على حلمهم بالتغيير.
رواية مصنوعة من شبكة من العلاقات التي تشمل شخصيات متنوعة، من اللواء علواني إلى ابنته دانية صديقة الشهيد خالد مدني، إلى المذيعة التلفزيزنية نورهان وأزواجها الثلاثة، إلى الشيخ شامل وسلفيته المفصّلة على قياس خدمة الاستبداد وكبار المتمولين والنصّابين، إلى الحب الذي جمع مازن وأسماء، إلى نضال عمال مصنع الإسمنت، وصولاً إلى شخصية مدني السائق الفقير الذي يرث الثورة من خلال دماء ابنه الشهيد خالد.
يستخدم الأسواني جميع الحيل الروائية، من الرسائل إلى الشهادات إلى التقطيع السينمائي-التلفزيوني، إلى التشويق البوليسي، كي يصل إلى رواية تعرّي الواقع، وهو في سبيل ذلك يصوغ مجموعة من الشخصيات، التي يبدو بعضها منمطًا ومبسطًا، لكنها في النهاية تسعى إلى رسم هزيمة الثورة وصعود الثوة المضادة.
أهمية هذه الرواية ليست في أسلوبها الذي يعود بنا إلى ما قبل الرواية ما بعد المحفوظية، ولا في نمطية بعض شخصياتها، ولا في لغتها البسيطة السلسة، بل في قدرتها على تقديم وثيقة مذهلة عن وقائع أيام ثورة يناير، وعن جيل مصري جديد حاول أن يقتحم السماء، رغم الحياة السياسية الراكدة، ورغم أعوام طويلة من الاستبداد، التي جعلت من المخابرات والجيش والإخوان القوى الوحيدة المنظمة في مصر.
كسر الأسواني صمت الثقافة عن جريمة مروعة ارتكبت في مصر، وكانت جزءًا من جريمة الاستبداد في المشرق العربي التي وصلت إلى ذروتها في سورية، حيث تسلّط القمع وانتصر الموت.
المؤسف والذي يستحق وقفة نقدية جادة هو انهيار الثقافة المصرية أمام آلة القمع، كأن الثقافة السائدة ابتلعت معارضتها عبر التخويف من الإسلاميين، فاختفت الأصوات النقدية، وبدا وكأن الثورة المضادة نجحت في تأسيس عهد جديد من الاستبداد أكثر قدرة على القمع، وأكثر وقاحة في كسر جميع الأعراف الإنسانية.
شجاعة هذه الرواية هي أنها كسرت الصمت، وهي بذلك تستحق أن تُقرأ بصفتها وثيقة عن زمننا وشهادة عن أحلامه الكسورة.
تحية إلى الكاتب الشجاع علاء الأسواني.

الروائي الشجاع

إلياس خوري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود:

    العسكر تحالف مع جميع الأحزاب خلال ثورة يناير 2011 وليس مع الإخوان فقط! ولكن حين فاز الإخوان ظهر حقد الآخرين!! ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول سوري:

    كنت معجبا بيوسف زيدان بعد قراءة عزازيل خاصة لكن تغير رأيي فيه بعد تصريحاته الشنيعة الأخيرة. لكني مازلت معجبا بعلاء الأسواني بعد قراءة عمارة يعقوبيان ونادي السيارات ( لم أقرأ بعد جمهورية كأن ) فالأسواني هو جراح الأدب العربي ويبدو أن مهنة الطب تعلم الجراحة الأدبية أيضا من عبد السلام العجيلي إلى الأسواني مرورا بتاج السر, إن هذه الفترة من توحش الاستبداد العربي وسقوط كل القيم والمحظورات ما أحوجنا إلى الثقافة الحرة دون أقنعة ولا محاباة أباطرة القمع والتسلط، فمجتماتنا العربية التي كانت تواقة للحرية والكرامة وبناء دولتها الديمقراطية لم تعد تتقبل أي عمل أدبي أو فني يمجد بالجلادين وينسون الضحية.

  3. يقول أسامة كليّة سوريا/ألمانيا Ossama Kulliah:

    شكراٌ أخي الياس خوري. لدي مشكلة “عويصة” حيث لم استطع قراءة رواية واحدة في حياتي, المحاولة الأولى في رواية البؤساء لفتكور هيجو قبل أكثر من ثلاثين عاماً توقفت عن الصفحة ٥٢ والمحاولة الثانية قبل حوالي عام لإحدى روايات غادة السمان وصلت إلى الفصل الرابع وترواح في مكانها وإلى متى وكيف لا أعرف. المقالة أو المقال (لا أدري مالفرق) بالنسبة لي غالبا يحرك ذهني أما الرواية فهي كالعلكة بعض النكهة والباقي حركات لاإرادية وبسرعة تصبح مُملة. بالمناسبة ولهذا أنا سعيد جداً بقراءة مقالات للأدباء لأنها نافذة للتواصل والتعرف عليهم وعلى أفكارهم التي لا أشك في قيمتها وأحبها كثيراً. أتمنى أن أقرأ قصصا وروايات, لكن هيهات بغض النظر عن ضيق الوقت, وبالتأكيد سأكتب عن ذلك يوما عنما أصل إلى هذا الحد.

  4. يقول عزوڨ موسى الجزائر:

    تلخيص وقراءة نقدية ممتازة للرواية ( التي لم أتشرف بالاطلاع عليها ).لكن ❤️ السيد الخوري مشكورا تفضل بسرد شخصياتها ( عندما التقى أشرف واصف في شقته المطلة على ميدان التحرير واكتشف أزمته ……….واستولى أشرف على تعاطفه وعطفه …وفجأة رأى كيف انعطفت الرواية إلى حكاية ثورة 25يناير ) #لاحظ كأن السيد إلياس دخل بعمق في الرواية وبدأ يروي الرواية من خلال ” إلتقائه ” بشخصية البطل بكل عقد ” الليبيدو” (ملح الحكاية ) . يوضح اكثر شخصيات الرواية اللواء علواني وابنته دانية صديقة الشهيد خالد مدني ( تشبه كثيرا رواية عن الإرهاب لجزائري …)إلى المذيعة..نورهان وأزواجها الثلاثة!؟ إلى الشيخ شامل ( دون باسياف !) وسلفيته المفصلة على قياس خدمة الاستبداد …إلى الحي الذي جمع مازن واسماء ،الى نضال عمال الاسمنت وصولا إلى شخصية مدني السائق الفقير الذي يرث الثورة من خلال دماء ابنه الشهيد خالد ( #لاحظ في هذه النقطة تشبه كثيرا رواية اللاز الطاهر وطار)

إشترك في قائمتنا البريدية