الروائي رشيد بوجدرة… مقلب بطعم داعشي

شيء بائس ذاك الذي حدث للروائي الكبير رشيد بوجدرة في حصة الكاميرا المخفية: «رانا حكمناك» (لقد ألقينا عليك القبض) التي تبثها قناة النهار قبل أيام قليلة. طبعاً فكرة الكاميرا الخفية لم نبدعها نحن ولا قناة النهار، أو القنوات الوطنية الأخرى، ولكنها ظاهرة موجودة في كل قنوات العالم، وتعمقت أكثر في السنوات الأخيرة، لتظهر الطاقات العنيفة المخزنة في أعماق الإنسان العربي بسبب الخيبات المتتالية. المشكلة طبعاً ليست هنا. فمن حق أي قناة أن تجد الوسيلة التي توصلها إلى أكبر عدد من متبعيها. ولكن المعضلة هي كيف؟
يفترض أن يكون الذكاء بديلاً عن الغوغائية والابتعاد قدر المستطاع عن المس بكرامة الناس. أضف إلى ذلك كله، الشريط أي المقلب، لا يبث إلا بموافقة المعني بالأمر، وإلا في إمكانه أن يتابع القناة قضائياً. وهناك أيضاً سلطة الضبط التي تتابع كل التجاوزات الممكنة. طبعاً الإنسان البسيط لا يعرف ذلك ويوقع عن حق البث وهو لا يعرف درجة التورط الذي يكون قد أغرق فيه. لا يعقل أن يهان كاتب كبير من عيار رشيد بوجدرة بطريقة متخلفة وبدائية، بل و«داعشية»، لا تراعي أي شيء في الضيف، لا قيمته، ولا سنه، ولا سلطته الثقافية الكبيرة، في حلقة يفترض أنها ترفيهية، وأي ترفيه؟ بل تدعو إلى الغثيان. ما هذه الرغبات الإجرامية المخزنة في أعماق الناس. كدت أصرخ ولم أتمالك أعصابي: ما هذا البؤس؟ فقد وضع رشيد بوجدرة على حافة مساءلة تكاد تكون إجرامية بل وداعشية، بين المؤسسة الدينية والأمنية. إجرامية لأنها تضع حياة شخص على حافة الخطر والقتل المجاني، وهي لا تبالي إذ أن ما يهم القناة هو جمهور المشاهدين ولا يهم كبش الفداء. يبدو المشهد وكأننا في محاكمة، من جهة الكاتب ومن الجهة الثانية طاقم الحلقة لا تنقصهم إلا السكاكين الكبيرة التي نراها عادة في أيدي الداعشيين وهم يقدمون ضحاياهم للإعلام العالمي لبث الرعب في قلب المشاهد. كأنها إعادة لحصة المحاكمة التي بثتها قناةالشروق قبل أكثر من سنة وكان ضحيتها الشخص نفسه. بدل الحديث عن رواياته، انصب النقاش عن إيمانه وإلحاده ليصبح مضغة كل الألسن؟ أين رشيد الكاتب الكبير،والروائي العالمي، والشخصية الاعتبارية والرمزية، داخل حالةابتذال كلي قدمه بتلك الطريقة المرعبة، والحط من قيمته؟ أجزم أن الذين حاوروه في حصة رانا حكمناك، لم يقرؤوا ولا كتابا واحدا من كتبه، ولا يعرفون عنه إلا حادثة الإلحاد التي حولته إلى طعم سائغ للقتلة. أجبرته يومها إلى مغادرة بيته والسفر إلى فرنسا وأمريكا. يوم التقيت به في شوارع العاصمة بعد المحاكمة، قال: أصبحت خائفا على سلامتي. تمنيت أن يكون رشيد الكاتب الكبير، أكثر حذرا هذه المرة. حياته أثمن من كل حصص الدنيا الرثة. لم أصدق ما كنت أراه وأنا أتابع ورشيد وهو يقرّب الشهادتين، كأنه كافر أو مرتد تاب تحت سطوة الرعب، يعلن أمام ملايين الجزائريين والعرب، أنه مسلم وأنه لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله؟ تخيلت في المشهد الخلفي الذي لم نكن نراه، زمرة داعشية. متنكرة في طاقم تليفزيوني. الداعشية ليست سلاحا فقط وسكاكين، ولكنها ذهنية أيضا بنيت على الجهل والضغينة ضد كل ما هو مختلف. العالم العربي يجيش بهذه الأنواع التي لا تنتظر إلا الساعة الصفر لتصبح داعشية بشكل نهائي. بدا الرعب في عيني رشيد وهو مقيد من كل الجهات بالصرخات التي كانت تأتيه من كل الجهات: قل اشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، ورشيد يكررها باستسلام. لم تعد الحصة ترفيهية ولكن زمرة من محاكم التفتيش المقدس وهي تستنطق شخصاً خرج عن نظامها.
ويبدو أن الأمر استهوى حتى المصور الذي لم نر إلا يده وهو يجبر بوجدرة على تكرار الشهادة. في بلدان تحترم نفسها، أشخاص مثل هؤلاء يطردون. ثم يدخل مخبر حضرات، إلى الاستوديو في صورة مشوهة لرجال الأمن وساذجة أيضا، ويتهم بوجدرة بالتخابر مع جهة أجنبية، يضحك بوجدرة ويساعده المذيع وهو يقرأ وثيقة الاتهام: يا جماعة أي تخابر؟ أنتم مخطئون في حق السي رشيد. الرجل مجاهد؟
يشعر بوجدرة بالراحة والاطمئنان.. رانا حكمناك يا السي رشيد، تكرر المنشطة المتخفية عن الأنظار، التي لا نسمع إلا صوتها؟ أردد في أعماقي كما الكثير من المشاهدين: واش حكمتوا، سوى رجل بسيط يشبه جميع المواطنين، «عيبه» الوحيد أنه كاتب كبير. عيبه الأكبر أنه يثق كثيراً في المواهب الشابة. ومأساتكم الكبرى أنكم لم تقرؤوا للكاتب شيئا وإلا لكنتم قد ترددتم قليلاً. كانت الحلقة إهانة كبيرة لذكائه، وذكائنا جميعاً.
شيئان كان لرشيد أن يقوم بهما للأسف لم يفعل: أن يرفض الانصياع لحضرات، رجل الأمن المزيف، لا حق له في فعل ذلك والمعني بالأمر يصور حصة خاصة به، ويصر على إنهاء الحصة ومرافقته إلى المخفر. إذا توجب الأمر. أن يرفض المحاورة في الأصل على أساس ديني. فهو في النهاية روائي. كان في إمكانه بهذه الواسطة سحب البساط من تحت أرجل المحاورين له وجرهم إلى ميدانه الأدبي، ووسطه الطبيعي الذي هو الرواية، ليحولهم إلى مسخرة أمام الجمهور الذي سيكتشف جهلهم، وثقل الأمية التي تملأ أدمغتهم. ولاعتذروا منه وقتها، وربما أوقفوا الحصة كلها لأنها لا تناسب «ساديتهم». الشيء الثاني وهو شديد الأهمية، كان بإمكانه أيضاً أن يرفض بث حصة تهينه وإذا استدعى الأمر أن يرفع الأمر إلى العدالة. ولسلطة الضبط التي يرأسها مثقف كبير يعرف الحدود جيداً.
هناك تشويه معلن لصورته مهما كانت المبررات والأسباب.. ما تزال تطن في رأسي ، حتى اللحظة، صرخة الألم واليأس لرشيد بوجدرة وهو على حافة الجنون، في نهاية الحلقة: قيلوني… قيليوني (اتركوني وشأني… اتركوني) قبل أن يدخل مع الجميع في معركة بالأيادي. قلبي وجعن، لهذا صرخت، وهو أضعف الإيمان. لم أر في حياتي إهانة كهذه تسلط ضد كاتب عالمي كبير؟ أعرف الرجل جيداً وعشنا المرارات نفسها في مخبأ واحد أيام الشدة الكبرى، العشرية السوداء، حيث كان القتلة يبحثون عنا. وأعرف نضاله في جمعية حقوق الإنسان التي أدارها، وحرية التعبير التي لا يعرف عنها جماعة المقالب شيئاً.
حرية التعبير تمر عبر احترام الإنسان. أولا يعرف الكثير من بؤساء الفكر، وسادة الضغائن، والأمراض النفسية، أن رشيد طورد بسبب حرية التعبير، وسجن في نهاية الستينيات بسبب موقفه الفكري والنضالي. ليقرأوا على الأقل رواية التطليق وليتعرفوا على جزء من مأساته ومأساة رفاقه ووطنه التي صاغها روائياً. الصحافة الحرة والقنوات التي تملأ المشهد اليوم وغيرها، جهد نضالي ولم يأت هكذا. كان في التسعينيات مع المجموعات النضالية التي وقفت ضد التعذيب في عز الأيام السوداء، وكان يقاتل من أجل الحرية الفكرية مع أناس تركوا حياتهم ولم يعد اليوم أحد يتذكرهم ، وأشك في أن الذين نظموا المقلب المتخلف يعرفون الحد الأدنى من هذا.
يطنون أن حرية القنوات التي يعيثون فيها فساداً ليل نهار، جاءت هكذا. حرية التعبير تسبقها بالضرورة مسألة احترام الإنسان البسيط، فما بالك برجال يشكلون اليوم جزءًا من الذاكرة الجمعية للوطن؟ الحصص الترفيهية ثقافة عالية بالخصوص إذا تعلق الأمر بمثقف كبير. أحيل أصحابها إلى مقالب الكاميرا الخفية في إحدى القنوات الفرنسية، التي كان يعدها رفائيل ميزراعي، الممثل والفنان الفرنسي الساخر، التونسي المولد، في شكل حوارات غبية مع كبار السينمائيين والمفكرين والمسرحيين والكتاب والفنانين. شيء لا يشبع الإنسان من رؤيته. يحتاج أمر مثل هذا إلى الكثير من الذكاء والإبداع غير متوفر اليوم في قنواتنا: ما هو المستوى الثقافي والحضاري للذين يعدون هذه البرامج؟ صفر أو قريب منه.

الروائي رشيد بوجدرة… مقلب بطعم داعشي

واسيني الأعرج

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول محمد:

    تابعت هذه الحصة بالصدفة ، و بدلت القناة ، لأنني لم أتحمل مواصلة متابعة الإنحطاط المقرف الذي يصيب بالغثيان .
    شيء لا يحتمل ٠٠ انحطاط ٠٠ انحطاط

  2. يقول فوزي حساينية -ولاية قالمة - الجزائر-:

    شكرا لك أستاذ واسيني الأعرج على هذا المقال، وليس لي ما أُضيفه إلا الإشادة بالكاتب رشيد بوجدرة المعروف ليس بإبداعاته فقط بل وبمواقفه المشرفة، أما بالنسبة لقناة النهار، فأعتقد أن وجودها في المشهد الإعلامي الجزائري لحظة خطأ لا تُغتفر، شخصيا كمواطن جزائري بسيط أشعر بالخجل والغيرة عندما أتابع القنوات الإيرانية أو الفرنسية والألمانية والروسية الناطقة باللغة العربية بسبب أدائها الراقي وإحترافيتها وتنوع وذكاء برامجها،. إننا بلد بدون مشروع حضاري ولذلك يحدث عندنا ما يحدث، وأتمنى أن لا ننتهي إلى المصير الذي تحدثت عنه في روايتك الرائعة والمفزعة ” العربي الأخير ‘.

  3. يقول سوري:

    أشكرك استاذنا الكبير على هذا المقال الذي نكأت فيه جروحنا من الاعلام العربي المتدني إلى حد السفالة، الخالي من حرية التعبير، والإبداع، قنوات تلفزيونية تذرع الفضاء ـ( هناك ستمائة قناة تلفزيونية عربية على المدار الثابت تصرف عليها أموال كفيلة بسد رمق ملايين الجوعى في العالم العربي) هذه القنوات لا تقدم شيئا يذكر دراما كاذبة ومتدنية، أخبار مولفة لصاحب السلطة، برامج ترفيهية تستغبي المشاهد…وما حصل لكاتبنا الكبير رشيد بو جدرة هو مثال على هذا الانحطاط الاعلامي، وتدني الذوق والثقافة. صاحب الحلزون يستحق التقدير على كل إعماله الأدبية وهو فخر للجزائر التي تغوص اكثر فأكثر في أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، إننا نحب الجزائر وشعبها العنيد، ولكننا نأسف نحن السوريين على دعم نظام الجزائر للسفاح بشار. والجزائر الغنية تستحق اعلاما متطورا، وحرا، وخلاقا، وهيئة اعلام عليا تضبط المعايير.

  4. يقول عبد الرزاق - سوريا:

    صدقت أستاذي في كل ما قلته إن أمثال هؤلاء يجب أن يظهر جهلهم المستفحل. إن التلاعب بالرموز ليس عبثا و صدفة بل منهجية في تدمير قيم الأمم و رواسخها..إن التسلط على عقول الناس و أدمغتها بعقلية الشرطي هو استخفاف بنا قبل أن يكون بكاتب كبير.

  5. يقول جبار عبد الجبار - الجزائر:

    البرامج في العالم الغربي تتطور مع تطور الافكار والتكنولوجيا المصاحبة لها . الا في وطننا العربي الذي يعاني مزيدا من التخلف والانحطاط الاعلامي رغم وجود حوالي 10 اقمار صناعية عربية و اكثر 1000 قناة فضاية في سماء الوطن العربي

  6. يقول منى-الجزائر:

    شاهدت الحلقة بعد ان قرأت عن الحادثة؛كانت صادمة ولم احتمل رؤيته في حالة الرعب تلك التي وضعوه فيها ؛وكيف طلبوا منه تكرار الشهادة ثلاث مرات!!!
    الم يخشوا من ان يصاب بسكتة قلبية او جلطة!!رجل تجاوز السبعين بسنوات ؛كيف امكنهم فعل ذلك!!
    قنوات الصرف….والمجاري ؛هذا هو ديدنها ، وعجبت كيف يقبل كاتب من قامة رشيد بو جدرة ان يظهر على هذه الاشكال المرئية !

  7. يقول إيدي-سويسرا:

    أحيانا يكون الحنين إلى الماضي أكثر تقدمية من التطلّع للمستقبل, خصوصا عندما نستحضر قيماً ومكاسب من الماضي أجهز عليها المستقبل.
    تدكرت هده القولة لعالم الأجتماع الفرنسي بيار بورديو وأنا أتأسف على تلفزيون الجزائر قبل دخول القنوات الخاصة..
    قيمة رشيد بوجدرة المبدع معروفة لدى كل قارئ للفرنسية على كوكب الأرض, كدلك تاريخه النضالي كما دكر بدلك رفيق الدرب الأستاد واسيني.
    مهزلة الكاميرا الخفية لا تستحق تعليقاً إداً لا تعليق.
    مايهمني أكثر هو السبب الدي جعل وقوع المهزلة ممكناً.
    ما من شك أن بوجدرة لم يستدع بصفته كروائي, بل بصفته إنساناً غير متدين. واضح جداً أن المشرفين على البرنامج إستدرجوا الروائي إلى كمين ونصّبوا أنفسهم تحت غطاء الهزل قضاة في محكمة تفتيش بالغة الركاكة, ولم يكن لهم أن يجرؤوا لولا يقينهم بأن الجمهور سيقف في صفهم ضد بوجدرة “الملحد”. لكن يظهر أن الجمهور الجزائري لم يسقط في فخ الأسفاف.

  8. يقول مريم الجزائر:

    لافض فوك أستاذ واسيني المهزلة التى قامت بها قناة الإستحمار ماهي إلا دليلا على تدني المستوى الذي وصل اليه بعض دعاة حرية التعبير وخالقي بكيت من موقف الاستاذ رشيد خاصة حين انتابته هستيريا الصراخ .ماهكذا تأخذ الحصص ياقناة النهار كان من الاجدر مناقشة رواية من روايته احكموه بها .لا تدعشون افكارنا من فضلكم بالمناسبة ازداد قراء رشيد بوجدرة

  9. يقول azhhar ibrahim:

    لقد شاهدت الحلقة بعد ان قرأت عن الحادثة بعد ان وصلني رابط عن عن الموضوع صراحة انا لا اشاهد هذه البرامج الهابطة التي تهين المواطن البسيط و تخيفه لحد انه قد يصاب بالذعر و الفزع و بصدمة او سكتة قلبية مميتة ، لا لشيء الا ليضحك الآخرين والاصح هم القائمين على متل هذه البرامج التافهة ، فالمشاهد اصبح يتقزز بمتل هذه البرامج الهابطة.
    صراحة كانت حلقة صادمة ولم احتمل رؤيته في حالة الرعب تلك التي عاشها في تلك اللحظات الم يخافوا من ان يصاب بسكتة قلبية او جلطة دماغية الم يراعوا سنه ولا مكانته الاجتماعية

  10. يقول صوت من مراكش:

    شاهدت االحلقة انا ايضا بعد ان قرأت عنها و اعترف انني

    لم استطع اكمال مشاهدتها من شدة الغيض الذي انتابني

    و انا اشاهد كيف باتت التفاهة تتجرأ على الثقافة

    ليعلم من شارك في تلك المهزلة في حق السيد رشيد

    بوجدرة انه “راه المشاهد اللي احكم كم ”

    وتحياتي

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية