الرواية العربية و«الشخصية اليهودية»: تحولات في الرؤية

حجم الخط
0

اهتمت الرواية العربية اهتمامًا كبيرًا بالشخصية اليهودية، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، وما جرى لليهود من اضطهاد وتشرد على يد النازية، وما تلا ذلك من احتلال الصهيونية اليهودية لفلسطين وتشريد أهلها؛ فكانت النكبات والقضايا المتصلة بالقضية الفلسطينية من الموضوعات التي انشغلت بها الرواية العربية، وبرزت الشخصيات اليهودية فيها بروزًا واضحًا، وخصوصًا في الرواية العربية في فلسطين.
ويعود اهتمام الرواية العربية بالشخصية اليهودية إلى أن الرواية هي الفن القادر أكثر من غيره على تصوير المجتمعات البشرية، والإحاطة بما تعاني من مشاكل وهموم، وما يعتورها من تحولات وتغيرات، وقد شكل اليهود جزءًا من المجتمعات العربية منذ القدم، وكانوا فاعلين في الحياة السياسية والثقافية والفنية والاقتصادية في مصر واليمن والعراق وغيرها؛ فظهرت الشخصية اليهودية في أعمال كثير من الروائيين، من بينهم: نجيب محفوظ، وغسان كنفاني، وإحسان عبد القدوس، وفتحي غانم، ونجيب الكيلاني، وبهاء طاهر، وواسيني الأعرج وغيرهم.
أظهرت الرواية العربية الشخصية اليهودية في تمثلات مختلفة، فهي شخصية انتهازية متكالبة على المال، جشعة، كما في رواية «الوارث» لخليل بيدس، أول رواية ظهرت في فلسطين عام 1920. وهي شخصية مرتبطة باللذة الجسدية والانحلال الأخلاقي، كما في رواية «زقاق المدق» 1947 لنجيب محفوظ،، وشخصية محبة المال والجاه في قصص إحسان عبد القدوس وروايته «لا تتركوني هنا وحدي» 1979. وهي شخصية تحتقر الآخرين وتستبيح دمهم، كما في رواية «دم لفطير صهيون» (حارة اليهود) 1971 لنجيب الكيلاني. وهي شخصية ذات سمات الخيانة والإرهاب والجبن والنفاق، كما في رواية «أحمد وداود» 1986 لفتحي غانم.
يلاحظ أن هذه التمثلات نابعة من الصورة النمطية للشخصية اليهودية، التي تحدرت إلى الرواية العربية من الأدب الغربي، خاصة في القرن السادس عشر، الذي قدم الشخصية اليهودية غالبًا في أبشع صورة، كما في مسرحية «تاجر البندقية» 1600 لشكسبير، ومسرحية «يهودي مالطا» 1589 لكريستوفر مارلو، ورواية «سوء حظ» 1594 لتوماس ناش.
ثم ظهر انعطاف في رؤية الرواية العربية للشخصية اليهودية بعد هزيمة العرب أمام إسرائيل عام 1967؛ فأظهرتها شخصية إنسانية إلى جانب شخصيتها التقليدية، فليس كل يهودي هو شايلوك تاجر البندقية، أو باراباس يهودي مالطا. ففي رواية «عائد إلى حيفا» 1969 لغسان كنفاني تسليط الضوء على تلك المرأة اليهودية المهاجرة، عندما تألمت لمرأى العسكر اليهود، وهم يتناولون طفلًا فلسطينيًا، ويلقونه في الشاحنة، يذكرها الموقف بما فعله النازيون بأخيها. ومثل هذا نجده في رواية «شرق النخيل» 1985 لبهاء طاهر، ففيها تبرز شخصية اليهودي الطيب الذي يرفض المشروع الصهيوني، ويرفض المجيء إلى فلسطين.
ثم ظهر الانعطاف الآخر بعد مؤتمر مدريد واتفاقات أوسلو، وما طرأ بعدها من تطورات في العالم العربي منذ مطلع هذا القرن، وما رافقها من دعوات للقبول بالآخر، والاعتراف بالتعدد الديني والمذهبي. فقدمت بعض الروايات العربية، خاصة في مصر، الشخصية اليهودية نموذجًا إنسانيًا يحب ويكره، ويخاف ويجرؤ، ويفرح ويتألم، ويرنو إلى حياة هادئة ومطمئنة، ويمكن قبولها والتعايش معها، كما في روايات: «سانتا تريزا» لبهاء عبد المجيد، و«حد الغواية» لعمرو عافية، و«يهود الإسكندرية» لمصطفى نصر، و«آخر يهود الإسكندرية» لمعتز فتيحه، و«أيام الشتات» لكمال رحيم. ومثل هذه الروايات رواية «البيت الأندلسي» 2014 للروائي الجزائري واسيني الأعرج، التي بدت الشخصية اليهودية فيها محبة للآخرين ومساعدة المحتاجين منهم بالمال دون فوائد.
ضمن هذه الرؤية، وبعد أحداث الربيع العربي، نجد روايات تبالغ في مدح الشخصية اليهودية، وتتجاوز مجرد الاعتراف والقبول، مثل ما جاء في رواية ربعي المدهون «مصائر كونشرتو الهولوكوست والنكبة» (بيروت: المؤسسة العربية، 2015)، فتظهر الشخصية اليهودية (مع أنها في الحقيقة هي الجلاد) أليفة ومرحة ومتسامحة، تقدم الآخرين على نفسها، مثلما ظهر في المشهد الذي يتحدث عن زيارة وليد دهمان وزوجته جولي إلى بيته القديم في بلدة مجدل عسقلان، التي احتلتها القوات الإسرائيلية عام 1948. ففي البيت تستقبلهما بلطف رومه المرأة اليهودية اليمنية: «أهلا، تفدلوا». وبعد أن تتعرف إليهما المرأة تسمح لهما بتفقد بيتهما السابق. وتصف الرواية مشاعر الجميع بأنهم سعداء وراضون بما حدث «تجولت بنا رومه داخل البيت، بدت سعيدة بنا وهي تفرجنا على أنفسنا وبدونا نحن راضيين بإنصاتنا لكلام يهودية تعرفنا على ما كان لنا». وتظهر جولي زوجة وليد راضية بذلك، بل سعيدة بتعرفها إلى رومه، مع أنها هي التي احتلت بيت زوجها وليد: « في المجدل عسقلان، تآلفت جولي مع رومه، سرًا وعلانية، منذ لحظة (تفدلوا) حتى (مأسلامه) تصرفت كأنها في زيارة لجارة قديمة».
هكذا رأينا اهتمام الرواية العربية بالشخصية اليهودية، وكان اهتمامها امتدادًا إلى اهتمام الأدب الغربي بها. وظهرت صورتان لهذه الشخصية: صورة تقليدية تنطوي على صفات سيئة، وصورة إنسانية ذات صفات خيرة وحميدة. وستظل الشخصية اليهودية في الرواية العربية تترجح بين هاتين الصورتين الرئيستين متوافقة مع الأحداث والتغيرات التي تجتاح منطقتنا العربية.

٭ كاتب فلسطيني

الرواية العربية و«الشخصية اليهودية»: تحولات في الرؤية

محمد عبدالله القواسمة

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية