الرواية العربية وعصرها الصاخب… هل أنجزت ما انتوته في ظِل الجوائز والمؤتمرات وألعاب الـ«بيست سيلر»؟

القاهرة – «القدس العربي»: ما أن تمرّ في شوارع القاهرة ــ وعدة دول عربية ــ حتى تستعرض العديد من عناوين الجديد من الروايات، لأسماء جديدة وأخرى لم يمر على إصدارها أشهر معدودات، وتجاوزت طبعاتها الحادية عشرة أو أكثر.
لا يقتصر الأمر على الروايات المصرية، بل امتد إلى الكثير من الأعمال الروائية العربية. هذا المناخ من الممكن أن يثير الفرح والدهشة، بأن تصبح للرواية هذه الأهمية أمام أعين القرّاء. إلا أن مُزحة أُطلقت في معرض القاهرة الدولي للكتاب، في دورته السابقة، أصابت شيئا من الحقيقة.. تم الإعلان عن جائزة في المعرض في حال العثور على قارئ واحد بين جمهور المعرض الكبير، فجميع الروّاد من المؤلفين! وهنا يجوز التساؤل حول مدى ما أنجزته الرواية العربية في حالة صخبها الآن، والتي لم تحدث من قبل طوال تاريخ الأدب العربي، خاصة في ظِل الجوائز ذات القيمة المادية المرتفعة، والندوات والمؤتمرات والملتقيات التي تقام في أغلب الدول العربية على مدار العام، إضافة إلى الندوات الخاصة أو الاحتفالية بإصدار رواية هنا وأخرى هناك. وهل تخلصت الرواية العربية من هواجسها وتابوهاتها التي إن واجهتها أصبحت كردّات فعل على السلطة السياسية والاجتماعية، وفوق كل ذلك.. هل تخطّت أسر اللغة المكتوبة بها؟ نحاول هنا استعراض آراء بعض الروائيين والمُهتمين بالرواية العربية وحالتها الراهنة. والمُلاحَظ اتفاقهم النسبي على العديد من النقاط ووجهات النظر في شأن الرواية العربية وما آلت إليه.. بداية من الترويج الوهمي لبعض الأسماء والموضوعات، وغياب الدور النقدي، ودخول رأس المال اللعبة، وتحويل الأمر بالأساس إلى سلعة بغض النظر عن قيمتها، وفي الأخير يعقد بعضهم الأمل على ذلك الروائي صاحب الصوت الخاص، الخافت الآن أمام الصخب الشديد، والذي يخط جمالياته في يقين وصبر أشد.

وصفة الكاتب الناجح

بداية يرى الروائي أحمد زغلول الشيطي، أنه على المستوى الكمي، يمكن ملاحظة أن الرواية في المنطقة العربية تشهد عصر ازدهارها الكبير، لقد دخل إلى الساحة كُتّاب جُدد وقرّاء جُدد، لذلك أظن ــ يقول الشيطي ــ أن الرواية الجديدة أصبحت حقيقة في حياتنا. الإحصاءات وحدها يمكن أن تختبر هذا النظر. روايات مثل «عمارة يعقوبيان، الفيل الأزرق، الحداد يليق بك، عزازيل» حققت أرقاما قياسية في التوزيع مقارنة بالحائز جائزة نوبل نجيب محفوظ حتى بعد حصوله على الجائزة. لقد أعادت هذه الكتابات الأجيال الشابة للقراءة، وكذلك اجتذبت السينما إلى إنتاجهم الروائي. يمكن القول إن هذه الكتابات أسقطت متطلبات الرضا النقدي، ولجأت مباشرة إلى أرقام التوزيع التي لا تخطئ. هذه الرواية الجديدة لم تسجل مشكلة جدية مع الرقيب على امتداد الرقعة العربية، فهي تقدم بوعي أدبا نظيفاً لا يمكن أن تثير مشكلة جديّة مع الرقيب. يستند هذا النوع إلى نماذج غربية مثل «خمسون ظلاً لجري» لمؤلفتها إي. إل. جيمس. كذلك روايات جي. كي. رولينغ صاحبة سلسلة «هاري بوتر»، وبطبيعة الحال ستيفن كنغ. هذه مجرد أمثله للأيقونات المُلهِمة التي أسست لفكرة الكاتب الناجح مقابل الكاتب الإشكالي الذي يبحث عن صوته الخاص.

«البيزنس» الأدبي

ويستكمل صاحب «ورود سامة لصقر» في شأن ظاهرتي الجوائز والأعلى مبيعاً قائلاً.. لحسن الحظ، لا تحتل الرواية الأكثر مبيعاً المشهد وحدها، فوجئت برواية هائلة مثل «مدن الملح» لعبد الرحمن منيف يُعاد طباعتها وتوزيعها بشكل جيد، وهي العمل الذي أسقط الجنسية عن صاحبه، وجعله يعيش بلا جنسيه في ظاهرة فريدة، كعقاب على اجتراح النظر إلى تابوهات آل سعود، وقد سعدت مؤخرا بخبر ترجمة خماسية منيف كاملة إلى الفرنسية. هل كان سيقبل عبد الرحمن منيف إحدى الجوائز الممولة من إمارات ودول البترول؟ هل كانوا سيفكرون في منحه الجائزة؟ وبدورها صارت الجوائز الأدبية ظاهرة ثابتة في حياتنا مثل «المول، والتيك آوي، ومحطات الطبخ، ومقابر الأثرياء الفارهة». طورت هذه الجوائز ظاهرة ما اسميه «البيزنس الأدبي» فالروايات صارت تكتب للجوائز التي تجلب الشهرة والمال بضربة واحدة، وباتفاقات سابقة مع الناشرين أصحاب حق الترشيح. بكل تأكيد لا يخلو الأمر من منح الجائزة لرواية باستحقاق حقيقي، لكن المحصلة الإجمالية هي تسويد نوع من الأدب النقي الذي يُلبي متطلبات مانحي هذه الجوائز، على سبيل المثال رواية كـ«استخدام الحياة» لكاتبها أحمد ناجي، التي اجترحت تابو الجنس، يقبع صاحبها الآن في السجن لقوله ما لا ينبغي وفقاً للرقيب. سوف أفاجأ حقاً إذا ما اجترأت إحدى الجوائز البترولية أو المملوكة لرجال أعمال في الاقتراب من مثل هذه الكتابات.
من ناحية مغايره، يُنظر للجوائز كبديل للغياب النقدي الكبير، حيث يقبل القراء على الروايات الفائزة مثلما تقبل دور النشر العربية الكبرى على إصدار سلاسل للروايات الفائزة بنوبل أو بوليتزر. الوضع شديد التعقيد، لكن في يقيني أن الكاتب الساهر في عزلته على اكتشاف صوته، على اجتراح كل تابو محمي، على كسر مواصفات السوق، وركل أوهام النجاح، هو البديل الممكن القادر على اكتشاف الرواية الجديدة حقاً، تلك المنفتحة على الأسئلة الجذرية الأكثر حدة عن هنا والآن.

الجوائز وتنميط الرواية العربية

من ناحية أخرى يقول الروائي إبراهيم فرغلي.. إن الجوائز نجحت في لفت الانتباه للأدب الروائي، وأتاحت لكُتاب الرواية جمهوراً أوسع في أرجاء الوطن العربي، وأظنها أيضا خلقت درجة ما من التنافس الخلاق بين الروائيين العرب، لكنني لا أعتقد أنهات نجحت في إضافة معايير تتعلق بالتجديد والتجريب، بقدر ما كرّست ولا تزال لأنماط شديدة التقليدية من الأعمال الروائية، روايات تعتمد على الحكايات التقليدية، أو تلك التي تعيد إنتاج قضايا سياسية واجتماعية وثقافية في المجتمع العربي، ويمكنك ببساطة أن تتابع مثلاً قوائم الأعمال الروائية التي تترشح لجائزة مثل البوكر لترى ذلك بشكل ساطع. ويُضيف صاحب «أبناء الجبلاوي» .. أغلب هذه الأعمال أيضا ــ وأرجو أن أكون مخطئا ــ هي بالضرورة لا تناوش أي تابو، ربما باستثناء التابو السياسي لأنه التابو الأسهل نسبيا في اقتحامه، خصوصا والمنطقة تمور الآن باضطرابات تختلط فيها السياسة بالاجتماعي والعكس.
والخطورة هنا أنها تكرّس لوصفة محددة، ولنوع من الأدب يميل للتقليدية الشديدة، لا أتذكر أن جائزة عربية غامرت بمنح رواية تقدم مغامرة سردية مهمة فرصة الفوز، ومع ذلك فإن الجوائز وحدها لا يمكن أن تكون مؤشرا وحيدا على ما أنجزته الرواية العربية، فهناك بالتأكيد أعمال روائية مهمة أنجزت على يد جيل الستينيات، مهما كانت قليلة، ومع الزخم الحادث في كتابة الرواية العربية اليوم بإمكانك أيضا أن تجد عددا لا يستهان به من الروايات التي تبحث عن خصوصية سردية وأجواء مختلفة، من أجيال عديدة، وفي أقطار عربية متباينة، بعضها طموحها الفانتازيا، أو الرواية التاريخية، أو تمثل الديستوبيات، أي تولي التخييل والخيال الجامح أولوية، وإن كانت في ظني قليلة ولم تخلق تيارا بعد.

النقد العربي في ظِل رأس المال

كما يرى فرغلي أن غياب النقد العربي الأكاديمي الخلاق له دور كبير طبعاً في هذا الاستقرار النوعي لتقنيات الرواية العربية السائدة، إضافة إلى تكريس رأس المال الذي لا يستهدف سوى الأرباح الهائلة بغض النظر عن قيمة ما يروج له، بالتعاون مع منظومة ثقافية غربية لا تكرس إلا لأعمال تقدم المجتمع العربي كما يريد أن يراه الغرب، أديا معا لشيوع أعمال أدبية متوسطة القيمة أو ركيكة تقدم بوصفها كتابات عبقرية أو ناجحة. حين تتغير أولويات الجوائز من انحيازات قُطرية، أو حسابات سياسية، ومعايير فنية مشوّشة لصالح نصوص مغامرة مُجدِدَة فربما حينها قد تسهم في الاحتفاء بالروايات العربية شديدة الطموح في تقديم نص أدبي إنساني متطور تقنيا. وحين يستعيد النقد الأكاديمي سلطته المُبدَدَة اليوم بفضل الفوضى الثقافية ورأس المال الفاسد فسوف يتوالى ظهور روايات عربية عالمية تغير خريطة الأدب العربي في العالم.
ويرى الروائي المغربي عبد الواحد استيتو، أن الرواية العربية للأسف لا زالت نخبوبة، باستثناء بضع روايات تُشهرها الجوائز، التي تعرف إقبالاً ــ لازال ضعيفاً رغم ذلك ــ من طرف قرّاء غير متخصصين. مشكلة الرواية العربية أن كتّابها، في الغالب، يكتبون لناقد مُفترض أو لكاتب مثلهم، لازلنا لا نجد في العالم العربي رواية موجهة بشكل رئيسي للقراء، علماً بأن فنّ الرواية خصوصاً هو حكيٌ بالدرجة الأولى، وهو ما يعني أن المتلقي مُستهدَف بشكل كبير، ووفرة القراء دليل على نجاح روايةٍ ما أو فشلها. في الملتقيات أو الندوات نسمع كلاماً كبيراً جداً، وعندما تنزل لأرض الواقع تجد تناقضاً كبيراً بين ما قيل وما هو كائن، لا أحد يحفل أو يهتم بهذه الرواية أو تلك، وكل الكلام الكبير الذي قيل عنها هو من باب المجاملات بين ناقد وكاتب أو كاتب وآخر.

مُمَاحكات الشُهرة

ويستشهد استيتو بتجربته في روايته «على بُعد مليمتر واحد»، وهي التجربة التي أطلق عليها مُسمى (الرواية الفيسبوكية)، إذ يكتشف أن 80 في المئة تقريبا ممن تابعوا الرواية لم يقرأوا رواية واحدة في حياتهم، وأن ما دفعهم للقراءة هو التشويق وبساطة الأسلوب. ويُضيف.. ولعلّي لا أكون مُجحفاً لو قلت إن الروايات العريبة المعاصرة تخلو من التشويق والسلاسة، دعك طبعاً من مشاهيرها كنجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس ومعاصريهما، أنا أتحدث عن العقدين الأخيرين حيث يصعب أن تفرق بين رواية وكتاب فكري أو فلسفي. فهناك نقص حاد في الحبكة والإثارة السردية واعتماد حكاية واضحة في الروايات الحالية. أما بالنسبة لثالوث المقدسات فلا أراه أمراً ذا أهمية، ليس هذا ما يجعل الكاتب مكتوف اليدين، بل هو رقيب آخر اسمه الناقد، أو الخوف من فشل الرواية أو سمّه ما شئت. السؤال عن التابوهات يفترض أنها المانع وراء عدم شهرة الروايات والحقيقة ليست كذلك بالطبع.

الولائم

ويُشير كاتب السيناريو والروائي أشرف نصر إلى تيارات ثلاثة للرواية العربية الراهنة، فيقول.. يبدو أننا نعيش حركة مد هائلة في الرواية العربية، مع شروق الشمس كل يوم تخرج لنا رواية جديدة، وكل شهر وأحيانا أسبوعياً لدينا جائزة ومؤتمر واحتفال بالروايات، بالإضافة طبعاً لـ«مولد» معارض الكتب، حيث يكتمل المشهد بسوق ضخم لحصاد العام، للوهلة الأولى الأمر مبهج ورائع وازدهار حقيقي لفن الرواية، أما بالنظر من الداخل، فسنجد عدة تيارات داخل حركة المد هذه، تيار رسمي وتيار شعبي وتيار ثالث يحيا على الهامش، التيار الرسمي هو تيار الجوائز، وهو مجتمع صغير، مغلق على أصحابه، حيث يتبادلون توزيع الجوائز على بعضهم بعضا، بمنطق«الجمعية» نفسه كل واحد منهم له دور، ومَن لم يفز بالجائزة الفلانية سيتم تعويضه بجائزة أخرى، الجوائز قائمة على المصالح وتبادل المنافع والعلاقات العامة، خاصة مع المحكمين والصحافيين ويصل الأمر أحيانا للابتزاز والمهازل، فالقتال شرس حتى آخر لحظة وربما آخر مكالمة قبل إعلان النتيجة. بالتأكيد ــ وأكرر بالتأكيد ــ لا أقصد الطعن في الكل وإنما أقصد الأغلب، وفوز مُستحَق هنا أو هناك أصبح –للأسف ــ الاستثناء الذي يؤكد القاعدة. والذائقة المنتشرة هنا التابوهات الثلاثة الشهيرة، والرابح في السباق من يضرب بصخب أكبر، لا تشغل بالك بفنيات الكتابة المهم لديهم هو الصخب الأكثر، بجانب اعتبارات أخرى مثل فوز كاتب من كل بلد، ومن عجائب بعض الجوائز أن لها معايير ضد الفن أساساً مثل جوائز الكتابة الأخلاقية والوعظ والإرشاد.

السوبر ماركت

ويُضيف نصر.. أما التيار الشعبي فترك المجتمع المغلق وبحث عن هدف واحد هو المبيعات، وهو تيار يحقق مبيعات كبيرة فعلا توهم بانتشار القراءة، وربما يفرح الانسان بمشهد القراءة في المواصلات كمشهد متكرر من جانب فئة الشباب خاصة، لكن ستقلق عندما تجد أن القراءة لكاتب واحد أو مجموعة محدودة وليس القراءة في المطلق، بل لمجموعة صغيرة لها (ماكيناتها الدعائية) والكارثي هو سيادة الركيك لغة والتافه محتوى ومنه المسروق من أفلام ــ أمريكية بالتحديد ــ ليتهم يا سيدي يسرقون حتى من روايات، بل من أفلام ربما مأخوذة من أصل أدبي، أي سرقة من معالجة تجارية لعمل أصيل!

اليتامى

ويعقد صاحب رواية «حرية دوت كوم» الأمل على ما سماه التيار الثالث، فيراه الأكثر هامشية، لكنه يراه حسب قوله.. الوحيد الذي يمنح الأمل، المُتمثل في أولئك المغامرين الذين يواصلون في كل يوم كسب مربع جديد لفن الرواية، هم أصحاب البيت الأصليون، بعيداً عمن تطفلوا من الشعراء وكتاب المسرح من التيار الرسمي أو الباحثين عن الوجاهة من التيار الشعبي. أبناء التيار الثالث ربما يتجاهلهم الإعلام والدعاية لكنهم يستغلون رواج الطباعة وإقبال القراء للتنفيس عن مغامراتهم في فن الرواية، تخلصوا من ظل الرواد والأهم من سطوة وديكتاتورية جيل الستينيات، ليبحثوا عن ذواتهم كأفراد مستقلين في هوياتهم، ومشاريعهم الفنية شديدة الفردية والتميز، التيار الثالث أو الهامشي أو الفردي هو فقط المتضرر من عدم الترجمة للغات الأخرى، فالترجمة جسر التواصل والتأثير في الثقافات المختلفة، فالمحزن في الأمر أن كل هذا الصخب الروائي غير مؤثر ولا فعّال ولا مُشارك في الثقافة العالمية، ويظل أمر الترجمة في علم الغيب، ويؤجل التواصل لحين حدوثه. أما عن حركة الرواية العربية نفسها في المستقبل أتوقع ـ بشكل شخصي ــ هو أن حركة المد سيبتعها حركة جزر بالقوة نفسها، وسوف تظهر (موضة) جديدة تنتقل إليها الأضواء، وسوف يرحل إليها سريعاً (أسراب الجراد) ولن يبقى كالعادة إلا «القابضون على جمر الفن».

الرواية العربية وعصرها الصاخب… هل أنجزت ما انتوته في ظِل الجوائز والمؤتمرات وألعاب الـ«بيست سيلر»؟

محمد عبد الرحيم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية