أتيح لي في الفترة الأخيرة قراءة روايتين، الأولى من كوريا، مدفوعا بفوزها بجائزة مان بوكر الدولية، والثانية من الصين، مدفوعا بحماسة بعض القراء، الذين أشاروا إلى رواية أخرى للمؤلفة عنوانها: شنغهاي بيبي.
في رواية (النباتية) للروائية الكورية هان كانغ، تكتشف أنك متورط، من الصفحات الأولى، بأحداثها البسيطة، ولكنها العميقة، الصادمة. لقد قررت بطلة الرواية، يونغ هيه، أن تصبح نباتية، ومع أن قرارا كهذا يبدو طبيعيا، وخيارا إنسانيا عاديا، إلا أن الرواية تقوم على متواليات الأحداث التي تعقب هذا القرار، والتي يمكن أن توصف، بأنها مدمِّرة، بدءا من ردّ فعل الزّوج، جونغ، وانتهاء بردّ فعل أسرتها؛ أبيها بشكل خاص.
عالم كامل من الهدوء، الذي يستهلّه الزوج بمديح غير عادي لزوجته، ينهار محوِّلا الحياة كلها إلى جحيم لا يطاق، وصرخة كبرى ضد هذا التحكم الدامي بامرأة بسيطة، وخيارها الطبيعي.
تتجاوز الرواية حالتها الصغيرة هذه، نحو ذلك الوضع الذي تعاني منه نساء كثيرات على سطح هذا الكوكب، إذا ما قررن أن يفتحن أفواههن ليقلن كلاما واضحا عن أنفسهن، أو يطبقن أفواههن ممتنعات عن قبول الكلام أو الطعام الذي يزج في هذه الأفواه عنوة. إنها صورة قاسية عن الشراسة التي يمكن أن تنفجر في وجه المرأة لأوهى سبب، وكل ذلك عبر سرد بسيط، يبدو سهلا للغاية، وإن كان محتشدا بدم يُسفك أمامنا، وروح تُمزَّق بوحشية، بطريقة تقشعرّ لها الأبدان والقلوب أيضا.
ما كنت أتمناه في هذه الرواية ولم أجده، ما يمكن أن ندعوه عدالة السّرد، فقد منحت الروائية الزوج الفرصة ليسرد القسم الأول من الرواية، وسرَدَ الراوي العليم القسمين الثاني والثالث، وقد كان من حقّ البطلة أن تكون هي الساردة لحكايتها، في القسم الأخير، ليحدث ذلك التوازن في البناء الكلي لهذا العمل الجميل.
في الرواية الثانية (الزواج من بوذا) للروائية الصينية وي هيوي، نعثر على مساحة أخرى لصورة المرأة، فهي على النقيض من بطلة (النباتية)، إنها المرأة الصينية المنطلقة، الحرة، في نيويورك! التي تنتقم من كل ما عانت منه في الصين، والغريب أنها ليست امرأة متخيلة، بل هي الروائية نفسها، التي تسرد حكايتها، وتسترجع حرق نسخ روايتها الأولى، شنغهاي بيبي.
في أحد فصول الرواية -ودائما هناك اقتباسات في مطلع كل فصل، أشبه بالمقبّلات، حول الجنس والطعام، بشكل خاص- تورد الروائية قولا تنسبه للاوتزو يقول فيه: الذين يعرفون لا يتكلمون، والذين يتكلمون لا يعرفون.
ينطبق القسم الأول من القول على بطلة رواية (النباتية)، في حين ينطبق الثاني على شخصية بطلة (الزواج من بوذا)، إذ ليس ثمة حبكة كبرى في النص، إنه سيل اليوميات، والذكريات، والكلام الذي لا يتوقف المندفع على لسان البطلة/ الروائية، في رواية تنتمي للأدب المكشوف، الذي يبدو وكأنه انتقام من الماضي. لكن التأمل الحقيقي للعمل يمكن أن يوصلنا إلى نتيجة مغايرة، وهو أن الرواية كتبت بكل هذا الانكشاف لتلبي نداء الأعين المتلصصة على الصين اليوم، صين المنافسة، الصين الصاعدة، القوة الجبارة، إذ تبدو الرواية وكأنها كتبت لتكون فضيحة للصين، وملبية لفضول القارئ الأمريكي، الأوروبي، ولتكون بالتالي في قائمة الكتب الأكثر مبيعا.
تزداد مصداقية الرواية بالنسبة لنمط واسع من القراء، حين تكون بمنزلة اعترافات روائية، من لحم ودم، وشبق لا حدود له، وقد حولت الروائية نفسها هنا إلى سلعة، برخص لا حدود له، سواء وهي تتفنن في حياكة الأحداث المثيرة التي تعيشها، أو التي تتخيلها. ليست الرواية هنا سوى نمط من الصفقات مع قارئ ممتلئ بالفضول، ويريد أن يرى ويعرف، وبما أن البطلة هي الروائية، فهو، القارئ، ليس في حاجة إلى تخيّل صورتها، كما يحدث حين نرسم صورا ما لشخصيات الروايات، بل هي الروائية، التي تغدو نفسها مصدرا للفتنة، ووسيلة غير عادية للتعلق بها، لا كشخصية، ولا كراوية، بل كامرأة ماثلة أمام الأعين، ولعل في ذلك أيضا إشباعا غير عادي لشخصية كاتبة تبخل بتقديم شخصية متخيّلة، لأنها هي الأحق بأن تكون الفاتنة، والمشتهاة، التي تسحب الرواية من خانة التصنيف: رواية، إلى خانة السيرة والاعترافات، بل والفُرجة!
في الرواية كما أشرت، هناك وصفة جاهزة قائمة على: رشَّة من الحكمة الشرقية المغرية للغرب، فائض الجنس، البذخ، أصناف الطعام، السفر، اللباس، وهي تتفنن هنا في تعداد ماركات الثياب التي ترتديها، من ملابس وأحذية وحقائب، حتى كأن صفحات الرواية قد تحولت فعلا إلى عدد هائل من لوحات الإعلانات، وإذا تذكرنا أن ورود أسماء سيارات أو ماركات أو أي سلعة أخرى في الروايات (كما في الأفلام) يكون في الغرب نوعا من الدعاية، يتقاضى الكتّاب مقابله أموالا عبر وكلائهم الأدبيين، فإن الرواية كانت فعلا حائطا هائلا للإعلانات.
لكن الرواية تذكرنا بشكل أو بآخر بروايات هاروكي موراكامي، الياباني الأكثر انتشارا في الغرب، مع فارق أن الروائية هنا لم تأخذ من موراكامي غير إكسسوارات روايته، وإن استبدلتها، ففي وقت يبدو أبطال موراكامي، صغيرهم وكبيرهم، مولعين بالثقافة الغربية، وبخاصة الموسيقية، مع إهمال شديد للثقافة اليابانية، عموما، تأتي صاحبة الزواج من بوذا لتحتفي بالثقافة الغربية المتمثلة في تعدد العلاقات وسخونتها، وبما تنتجه الصناعات الغربية من ملابس وأحذية وحقائب، وحين تريد أن تطرح مصدرا ثقافيا فنيا، فإنها لا تجد غير مسلسل (الجنس والمدينة) الذي تستشهد به كثيرا، كما لو أنه كتاب الحكمة الأكبر!
الزواج من بوذا هنا، ليست أكثر من رواية استهلاك متفاخر لكل ما هو غالي الثمن، عكس رواية (النباتية)، التي تنتمي إلى أدب رفيع ينتمي للإنسان، ولا يقبل أن يكون مجرد سلعة.
إبراهيم نصر الله