الزمن على الطريقة اللبنانية

حجم الخط
6

لم تمطر هذا العام في بيروت في 14 أيلول/سبتمبر، في العادة يأتي عيد الصليب محمولاً على المطر الخريفي الذي يعلن بداية أفول الصيف. لكنها لم تمطر هذا العام، وهذا، في عُرف الناس، علامة تدعو إلى التشاؤم، وتنذر بسنة مليئة بالمصاعب.
هذا ما يعتقده أهل بيروت، وعلى الرغم من أنني أتبنى مقولة «كذب المنجمون ولو صدقوا»، فإنني عندما لا تُمطر في هذا اليوم أشعر بالأسى، وأسأل الناس في المناطق اللبنانية المختلفة عن حالهم مع المطر. أدّعي أن الأمر لا يعنيني لأنني إنسان عقلاني، أعرف أن الأرض تتعرض لتغيير مناخي كبير، وهذا يؤثر على دورة الفصول، ويقوم بتمزيق ثوب المطر الخفيف الذي يلبسه أيلول. لكن والحق يقال، فأنا لم أشعر بشيء من الطمأنينة إلا حين أخبرني سائق التاكسي أنها أمطرت في الجبل، وهكذا أستطيع القول إنها أمطرت حتى ولو لم تمطر.
لكن ما معنى أن تمطر أو لا تمطر؟ ففي الرابع عشر من ايلول/سبتمبر سنة 1982، أمطرت السماء، ولم يراع المطر الخط الأخضر الذي كان يشطر بيروت إلى نصفين. لكن مطر ايلول في ذلك العام جلب معه المآسي، ارتكب الاسرائيليون وحلفاؤهم اللبنانيون إحدى أشنع المجازر في تاريخنا، فكانت مذبحة شاتيلا التي «نحتفل» بذكراها في هذه الأيام، وقيل أن هذه المذبحة المروعة جاءت رداً على اغتيال بشير الجميل، قائد ميليشيا «القوات اللبنانية»، الذي وصل إلى منصب رئاسة الجمهورية محمولا على دبابة حلفائه الإسرائيليين الذين اجتاحوا لبنان بآلة دمارهم الوحشية.
يومها غرقت بيروت في الأسى، ولم يشفع لها المطر، هناك في بيروت الشرقية تحطّم الحلم الذي كان كابوسا للمنطقة الغربية، وهنا في الغربية تحوّل الكابوس إلى حقيقة من الأشلاء والجثث التي التفت بنُبل صمت الضحايا. ومنذ لحظة الموت الأيلولي تلك، تمزق الوطن الصغير في ذاكرات متناقضة. ودخل لبنان في نفق جديد من الحروب التي لم يخرج منها حتى اليوم.
صحيح أن مطر ايلول جلب معه أيضا ولادة أفق اسمه جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية التي قادها الشيوعيون وكتب بيان ولادتها جورج حاوي ومحسن إبراهيم، لكن هذا الأمل تم وأده على مذبح الصعود الطائفي والديني، الذي جعله الديكتاتور السوري أداته لاغتيال المقاومين ومحاصرتهم وشطبهم من المعادلة، كما حوّله إلى وقود للحرب الإجرامية التي عرفت باسم حرب المخيمات، وقامت بتدمير مخيم شاتيلا.
ذاكرات ايلول التي نعيشها هذه الأيام، تطرح علينا سؤال معنى الزمن في الحاضر اللبناني. هل ما جرى عام 1982 دخل في الذاكرة الجماعية وتحوّل جزءا من تاريخ هذا الوطن الصغير، أم أننا لا نملك سوى ذاكرات ترفض أن تصير تاريخا. كأن الماضي يلتهم الحاضر، وكأننا لا نعيش في الحاضر الا بصفته امتداداً تكرارياً للماضي.
حين نشاهد الفيلم الوثائقي عن بشير في قناة «ام تي في»، أو حين نتأمل أسى ذاكرة شاتيلا التي رسمت سماءنا بالدم، أو نحتفل مع المحتفلين بذكرى جبهة المقاومة اللبنانية التي بموتها صودرت المقاومة طائفياً، وصار العمل المقاوم النبيل رهينة الانقسام اللبناني وأداة في يد المستبد الإقليمي، فإننا نكتشف غربتنا في وطننا، ونشعر بهشاشة حاضرنا وعطبه.
غير أن ما يحيرني ليس فقط الذاكرات المتناقضة التي تنخر أرواحنا، بل قابلية تكرار المكرر الذي خبرنا نتائجه الكارثية، لكن بعض القادة اللبنانيين يصرون على استعادته، كأنهم فقدوا أي إحساس بالمسؤولية تجاه اتباعهم من رعايا طوائفهم.
وهذا ما يجسّده بشكل صارخ جبران باسيل، زعيم التيار الوطني الحر وصهر الجنرال ميشال عون. فالباسيل لوّح بسيف «الميثاقية»، ولم يأبه لبقاء سُدة الرئاسة اللبنانية فارغة، إلا إذا انتخب جنراله رئيساً. لكنه أحدث تطويرا على مقولة الفراغ، عبر التهديد بأن عدم انتخاب عمه في 28 أيلول/ سبتمبر، سوف يعني بداية ثورة كبرى لا يعلم أحد إلى أين ستذهب بنا. وهو بذلك يستعيد زمنا لم يمض. ففي عام 1989 قاد الجنرال عون حربين: حرب التحرير بقصف مواقع الجيش السوري في لبنان، وحرب الإلغاء في محاولة لسحق ميليشيا «القوات اللبنانية». والهدف الحقيقي هو وصول الجنرال إلى الموقع الماروني الأول، فماذا كانت نتيجة الحربين؟ تم تدمير المنطقة الشرقية «المسيحية»، وتهجير عدد كبير من سكانها، وأقرّ اتفاق الطائف الذي حجّم دور المارونية السياسية وهمّشه عبر تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية.
كانت الحربان هزيمة كبرى للمارونية السياسية التي هزمت نفسها بنفسها. وكانت هزيمتها نتيجة للبنية العشائرية اللبنانية. فالطوائف لم تتحول، رغم كل الضخ الايديولوجي والعسكري، إلى مجتمعات متماسكة منفصلة. وإذا كان النموذج البشيري الذي صعد على دماء طوني فرنجية وبعد مجزرة الصفرا ضد جماعة كميل شمعون هو دليل العونية إلى السلطة، فإن هذا النموذج قاد بعد اغتيال بشير إلى الانقلابات والاقتتال الدموي داخل االكانتون المسيحي كي يصل إلى ذروته في حرب الإلغاء.
الصعود عبر التدمير لا يقود سوى إلى الهاوية، واليوم ينخر الانقسام المارونية السياسية، وما ثنائية ميشال عون- سليمان فرنجية سوى تكرار هزلي لثنائية بشير الجميل- طوني فرنجية الدموية.
لا يريد الباسيل وجنراله التعلم من الماضي، فهما يقامران اليوم بالوجود المادي لمسيحيي لبنان، عبر وضعهم في مأزق اللاعقلانية. ومثلما كانت حرب الإلغاء نزقا وعظامية حطمت الهيمنة المارونية، فإن المقامرة الجديدة لن تقود سوى إلى الخيبة، عبر أوهام الاستقواء بميليشيا حزب الله، وعبر تحويل تهويمات العودة إلى السلطة القديمة يأساً وقنوطاً.
ميشال عون هو بشير في كهولته التي حرمه الاغتيال منها، وجبران تكرار لحبيقة بطل مذبحة شاتيلا الذي بيّضه النظام الاستبدادي في دمشق وسوّقه كعروبي.
صحيح أن الذاكرات تمنع الماضي من التبلور كتاريخ، لكن التاريخ لئيم ويعرف كيف ينتقم، فذهب بشير إلى مصيره الدموي وانتهى حبيقة اغتيالا هو الآخر.
لم تمطر هذا العام في عيد الصليب، كأن الغيوم أشاحت وجوهها عن بيروت لأنها ملت من الحماقة التي لا تسأم من تكرار نفسها، وتقديم الضحايا على مذبح ذاكرة مهووسة بنوستالجيا التسلط والممــــزوجة بخوف مَرَضي يبرر أي شيء.

الزمن على الطريقة اللبنانية

الياس خوري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    مذبحة صبرا وشاتيلا هي مذبحة من أسوأ ما شهد العالم من المذابح، نفذت في مخيمي صبرا وشاتيلا لللاجئين الفلسطينيين في 16 أيلول 1982 [1][2] واستمرت لمدة ثلاثة أيام على يد المجموعات الانعزالية اللبنانية المتمثلة بحزب الكتائب اللبناني [3] وجيش لبنان الجنوبي [4] والجيش الإسرائيلي [5]. عدد القتلى في المذبحة لا يعرف بوضوح وتتراوح التقديرات بين 750 و 3500 قتيل من الرجال والأطفال والنساء والشيوخ المدنيين العزل من السلاح[6]، أغلبيتهم من الفلسطينيين ولكن من بينهم لبنانيين أيضا [7]. في ذلك الوقت كان المخيم مطوَّقًا بالكامل من قبل جيش لبنان الجنوبي والجيش الإسرائيلي الذي كان تحت قيادة ارئيل شارون ورفائيل إيتان [8] أما قيادة القوات المحتلة فكانت تحت إمرة المدعو إيلي حبيقة المسؤول الكتائبي المتنفذ [9]. وقامت القوات الانعزالية بالدخول إلى المخيم وبدأت بدم بارد تنفيذ المجزرة التي هزت العالم ودونما رحمة وبعيدا عن الإعلام وكانت قد استخدمت الأسلحة البيضاء وغيرها في عمليات التصفية لسكان المخيم العُزَّل، وكانت مهمة الجيش الإسرائيلي محاصرة المخيم وإنارته ليلاً بالقنابل المضيئة، ومنع هرب أي شخص وعزل المخيَّمَيْن عن العالم، و بهذا تسهل إسرائيل المهمة على القوّات اللبنانية المسيحية، و تقتل الأبرياء الفلسطينيين دون خسارة رصاصة واحدة، و بوحشية لم يشهد العالم نظيرًا منذ مئات السنين[10]
    – عن الويكيبيديا –
    ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول الكروي داود النرويج:

    حرب المخيمات هو الاسم الذي أطلق على المعارك التي دارت بين مايو 1985 ويوليو 1988 بين (قوات حركة أمل والجيش السوري والجيش اللبناني وبعض الفصائل الفلسطينية المدعومة من قبل سوريا) ضد(قوات فتح الموالية لياسر عرفات ومقاتلين حركة المرابطون), حول مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في بيروت. اندرجت الحرب في إطار صراع سوريا وحليفتها أمل ضد نفوذ منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات في لبنان. أدت المعارك إلى خروج قوات ياسر عرفات إلى مخيمات الجنوب, وإلى إحداث دمار كبير وتدهور الأحوال المعيشية لسكان المخيمات والجنوب اللبناني. أدت هزيمة حركة المرابطون المتحالفة مع ياسر عرفات إلى سقوط جميع المناطق المحاذية لمخيمات اللاجئين في بيروت في يد قوات حركة أمل المدعومة من سوريا، كان اللواء السادس الذي انشق عن الجيش اللبناني إبَّان انتفاضة السادس من شباط/فبراير 1984م قد التحق بأمل وساهم في حصار المخيمات، بينما رفضت الأحزاب اليسارية المشاركة فيها.
    – عن الويكيبيديا –
    ولا حول ولا قوة الا بالله

  3. يقول سلام شوقي الاردن:

    مقال رائع يستحق ان يكون قصيدة شعر ناقدة وبناءة وصف الكاتب القدير ما يدور بلبنان -الجريح بالطائفية- بكل دقة وحذر من تبعات الطائفية ومن الاستمرار في سياسة تهميش المكون الفلسطيني الذي يشهد له القاسي والداني بالمشاركة الفعالة في بناء لبنان ونهضته اقتصاديا وعمرانيا وفنيا وثقافيا

  4. يقول Oweini Saleh:

    Shukran ustad Elias
    Greetings
    Saleh Oweini
    Sweden

  5. يقول خليل ابورزق:

    يقولون في فلسطين ان ايلول ذنبه مبلول. اي يسقط الماء في نهايته و يتبادل الناس عبارات كل عام و انتم بخير. اما استعمال كلمة مطر فدليل على الخراب وهي تستعمل من قبل اهالي المناطق التي لا تعتمد على الغيث. لانها تسبب ازعاجا او خرابا بدون فائدة. ام نحن فنقول شتاءاو الغيث بالفصحى استبشارا.
    و لنعد الى الصراع الذي نشهده في لبنان و غيرها فهو بسبب طول الامد في عصر الانظمة السياسية المفروضة في المنطقة و قلة النخب الحرة فخلت الساحة لهؤلاء. وفشلت الانتفاضات الشعبية و لكن الصحوة لا رجعة فيها

  6. يقول Ossama Kulliah أسامة كليَّة سوريا/المانيا:

    أخي الياس شكراً جزيلاً, كلمات نبيلة مليئة بالعقلانية مع أنها لم تمطر لا في عيد الصليب ولا في عيد الأضحى لكنها أمطرت في الجبل والحمد لله. عندما أُعيد إلى ذاكرتي تلك الأيام التي كنت فيها شابا لا يعرف من السياسة إلا الولاء للوطن والوطنية كما تعلمناها في المدرسة كنت أتسائل بكل هول يا إلهي ما هذا الذي يحدث وتضج به أخبار راديو مونتكارلو أو الراديو والتلفزيون السوري حيث لم يكن هناك وسائل إعلام منتشرة إلى هذا الحد وحيث كان الكذب وحجب الحقائق أسهل بكثير من أيامنا هذه. ولكن اليوم عندما أقرأ وأسمع من هنا وهناك وأصبح رصيدي من المعرفة لابأس به وأن كثيراً من الحقائق انكشفت وتنكشف باستمرار أتسائل بكل هول مرة أخرى يا إلهي أهذا هو تاريخنا! وأنظر إلى ما يحدث اليوم فإذا به ليس إلا امتدادا للماضي وكاننا لا نملك حاضراً كي نملك ذاكرة. وحقيقة غالبا ماتصحبني السخرية من هكذا زمن نعيش فيه دون أن يكون لنا ذاكرة لا مكان فيه حتى للذاكرة إنه امتداد يصل الماضي بالحاضر ويصبح الحاضر فيه بلا ذاكرة مليء بالحماقة وهوس السلطة والتسلط وهاجس الخوف المرضي الذي يبرر كل شيء في سوريا كما في لبنان وكما في العراق وفلسطين ومصر واليمن لا بل حتى في أمكنة أخرى كثيرة لربما هي فقط سخرية الزمن الذي سينتهي إلى زمن أخر تصحبنا فيه الذاكرة.

إشترك في قائمتنا البريدية