حين مررتُ قرب السيارات المصفحة للشرطة التركية، المعززة بعناصرها المدججين بالرشاشات، عند مدخل حي «غازي» الشعبي عند أطراف إسطنبول، سرت في بدني قشعريرة رعب مألوفة لدى السوريين في المواقف المشابهة. لولا عمل اضطراري لما اتجهتُ إلى ذلك المكان في الثامنة من صباح يوم الأحد. فقد سبق لي وقرأت إعلاناً عن مظاهرة سلمية دعت إليها مجموعات يسارية معارضة، في ذلك اليوم هناك، رفضاً للتعديلات الدستورية التي تقرر إجراء استفتاء شعبي عليها في السادس عشر من شهر نيسان المقبل.
في الوقت الذي اتخذت فيه الشرطة التركية كل تلك التدابير لمنع مظاهرة سلمية معارضة للنظام الرئاسي الذي سيجري الاستفتاء بشأنه، كانت جميع قنوات التلفزيون التركية متفرغة، على مدار الساعة، لعرض الإجراءات الوحشية للشرطة الهولندية، أمام القنصلية التركية في روتردام، لمنع وصول وزيرة شؤون الأسرة في حكومة العدالة والتنمية إلى قنصلية بلادها. وكانت التصريحات النارية للرئيس أردوغان وأركان الحكومة تتوعد هولندا بالويل والثبور، وتصف الحكومة الهولندية بالنازية والفاشية. ويقول أحد الوزراء إن على الأوروبيين أن يأتوا إلى تركيا ليتعلموا منها وفيها الديمقراطية على أصولها!
توجه الناخبون الهولنديون، امس الأربعاء 15 آذار 2017، إلى صناديق الاقتراع لانتخاب برلمانهم ذي الـ150 مقعداً نيابياً، في وقت تشير استطلاعات الرأي فيه إلى صعود «حزب الحرية» اليميني المتطرف بقيادة خيرت فيلدز المعادي للمسلمين والأتراك، والأجانب بصورة عامة، على حساب أحزاب الائتلاف الحكومي الليبرالي ـ الاشتراكي الديمقراطي. غامرت هذه الحكومة بالقيم الديمقراطية ودخلت في تنافس مع التيار اليميني على أمل كسب بعض أصوات اليمين، فكانت فضيحة الشرطة الهولندية أمام القنصلية التركية: هجوم بالخيالة والكلاب البوليسية، وطرد الوزيرة التركية فاطمة بتول كايا خارج الحدود، بعد احتجازها في سيارتها، رفقة موكبها، لسبع ساعات متصلة!
«كنت سأبقى هناك وأموت هناك» قالت الوزيرة التركية المحجبة «لولا أن رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان طلب مني العودة». تصريحات تعبر عن «فدائية» المهمة التي انتدبت كايا إليها بتكليف من الرئيس الذي يريد، من خلال التعديلات الدستورية المقترحة، إلغاء منصب رئيس الوزراء، بحيث يتولى معاً أعلى سلطتين تنفيذيتين في البلاد ـ تقليدياً ـ فيعين وزراء الحكومة بنفسه، ويرأسهم، ويعزل منهم من يشاء عند الحاجة إلى عزلهم. ويعمل رئيس الوزراء بن علي يلدرم، بكل طاقته، على إنجاح الاستفتاء لمصلحة إلغاء منصبه بالذات، بعدما سبقه البرلمان فصوت بأغلبية نوابه على تقليص صلاحيات «مجلس الشعب» هذا لمصلحة الرئيس.
وقبل وزيرة شؤون الأسرة التي دخلت الأراضي الهولندية براً قادمة من ألمانيا، كان وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو قد جرب حظه لمخاطبة الجالية التركية في هولندا (وتبلغ نصف مليون تركي) لمطالبتها بالتصويت بـ»نعم» على التعديلات الدستورية. وإذ منعت السلطات الهولندية طائرته من الهبوط، تسلمت زميلته فاطمة «المهمة الانتحارية»، وكل شيء يهون في سبيل «الوطن» المختزل إلى شخص.
لم يكن تصرف الشرطة الهولندية مفاجئاً أو خارج السياق، إلا بوحشيته المفرطة. بل سبق للحكومة الهولندية أن أبلغت الجانب التركي بعدم موافقتها على إجراء حملات دعائية بشأن الاستفتاء على التعديلات الدستورية على أراضيها. وكان الرائز وراء هذا القرار هو الحملة الانتخابية الهولندية التي يحتمل أن تتأثر سلباً بحضور أركان الحكومة التركية لمخاطبة الأتراك الهولنديين. الغريب أن رئيس الحكومة التركية يلدرم نفسه قد قال، قبل أيام، إنه من المتعذر القيام بحملات ترويج من أجل الاستفتاء في هولندا، و»علينا الانتظار إلى ما بعد إجراء الانتخابات البرلمانية هناك». ولكن كان لأردوغان البارع في الفوز بالانتخابات والاستفتاءات رأي آخر: كبس زر البدء، وتحركت عجلة الفضيحة بين يمين هولندي هائج وشهوة سلطوية تركية بلا حدود. فكان ما كان.
أردوغان اليوم هو المستفيد الأكبر مما فعلته الشرطة الهولندية من ارتكابات مشينة على الهواء مباشرةً: جُرِحَتْ الذات القومية التركية الجاهزة دائماً للتحريض والتعبئة، ضد «الغرب الكافر المعادي للمسلمين والأتراك» بصورة خاصة. حزب الحركة القومية، الحليف الرئيسي للعدالة والتنمية، شهد تململاً في قاعدته وجمهوره ضد قرار رئيسه دولت بهجلي بدعم التعديلات الدستورية، وكانت نتائج بعض استطلاعات الرأي مقلقة لأردوغان، فكان لا بد من افتعال حادثة تقلب التوقعات وتضمن مشاركة فعالة من الناخبين لمصلحة التعديلات، خاصة وأن جمهور العدالة والتنمية نفسه لم تكن موافقته على التعديلات مضمونة بصورة تامة. وكان من المحتمل أن تكون نسبة المشاركة الشعبية في الاستفتاء منخفضة بما يهدد فرص نجاحها لمصلحة الرئيس.
كل تهديدات أردوغان والحكومة بمعاقبة هولندا تمخضت عن إجراءات ضئيلة لا تتعدى المعاملة بالمثل: الطلب من السفير الهولندي عدم العودة إلى أنقرة في الوقت الراهن، وإغلاق الأجواء التركية أمام طائرات قد تقل أحداً أو بعضاً من أركان الحكومة الهولندية التي ستتغير، على أي حال، بعد أيام في أعقاب انتهاء التصويت في الانتخابات البرلمانية الهولندية.
أهذا كل شيء رداً على إذلال الذات التركية الجريحة أمام كاميرات التلفزيون؟ نعم، هذا كل شيء، وحجم التبادل التجاري بين البلدين يبلغ نحو ستة مليارات دولار، وهولندا هي الوجهة المفضلة رقم واحد للاستثمارات التركية في الخارج!
الرداءة تنتصر في كل مكان. من المحتمل أن الطبقات السياسية في دول «ديمقراطية» عدة تحسد بشاراً الكيماوي على «حريته» المطلقة في فعل أي شيء للاحتفاظ بالسلطة، بما في ذلك تدمير سوريا وإزالتها من الخرائط.
ربما لهذا السبب تتسابق وسائل إعلام تلك الدول «المتحضرة» على السفر إلى دمشق للقاء به ونشر الدرر التي يتكرم بها عليها.
٭ كاتب سوري
بكر صدقي