السرد التاريخي

حجم الخط
4

بدأت الرواية العربية الجديدة تعتمد بصورة كبيرة المادة التاريخية أساسا لحبكاتها الحكائية. وقد أثار هذا قراءات نقدية لهذا «النوع» من الروايات التي يرفض أصحابها انتماءها إلى «الرواية التاريخية». غير أن مشكلة هذه القراءات تأبى النظر إليها في الصيرورة، باعتبارها كتابة جديدة.
جاء مفهوم التخيل التاريخي محاولة ملتبسة لتقديمها نوعا بديلا عن الرواية التاريخية، مع رفض تام لنظرية الأنواع السردية. كان موقفنا واضحا من الكتابات الروائية التي تمتح مادتها الحكائية من التاريخ العربي، وذلك باعتبارنا إياها رواية تاريخية «جديدة»، ساهمت في تطوير العلاقة بين السرد الروائي والتاريخ عبر تقديمها من زوايا جديدة ومتنوعة، تختلف عن الطريقة التي اعتمدها الروائيون العرب منذ البدايات إلى أواخر الستينيات من القرن الماضي. ويلزم هذا التطوير إعادة النظر في هذه النصوص الروائية بكيفية ترصد تطور النوع وسياقاته وضروراته، بما يتلاءم مع تطور الأنواع السردية العربية بوجه عام.
كما أن هذا التطوير، وهو ينطلق من تطور الأنواع، يهدف إلى تجاوز النظرة السلبية إلى الرواية التاريخية العربية، من جهة، ويُمكِّن الروائيين العرب، الذين يتعاملون مع التاريخ من امتلاك رؤية واضحة، من جهة ثانية، ويدفع الباحثين إلى قراءة الرواية العربية الجديدة التي تستلهم التاريخ بوضعها في نطاق تطور الوعي بالتاريخ وبالسرد، وكيفية التعامل معه من خلال الإبداع الروائي، من جهة أخرى. بهذا التصور، يكون تعاملنا مع تطور الرواية التاريخية العربية يصب في اتجاه التحول الذي سارت عليه الرواية الأجنبية، وتنظيراتها السردية، ويكشف بالملموس أن التطور سمة العصر الذي نعيش فيه، وأن إبداعنا يواكب الإبداع العالمي في تحوله وتطوره.
لقد كتب الروائي العربي الرواية التاريخية في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، لضرورات تتصل بالحقبة التاريخية التي ظهرت فيها الرواية العربية، وتفاعلا مع الإنتاجات الروائية الغربية، التي اطلع عليها. وما حلم جورجي زيدان بكتابة رواية تاريخ الإسلام، وبعده محفوظ بكتابة تاريخ مصر، في السير على منوال والتر سكوت، سوى دليل على ذلك. ومنذ ذلك الزمان، والرواية التاريخية محط اهتمام الدارسين الغربيين، وإلى الآن ما تزال رفوف الكتابات السردية في المكتبات الغربية تحفل بهذا النوع، الذي صار يكتب بكيفية جديدة ومتطورة عن الرواية التاريخية الكلاسيكية الغربية التي كانت وليدة بدايات القرن التاسع عشر.
لكن الفرق بيننا وبين الغربيين في كتابة الرواية التي تتفاعل مع المادة التاريخية، والتنظير لها، كبير جدا. ففي الوقت الذي نجد ضبط العلاقات المختلفة بينهما قائما سواء على مستوى الإبداع أو الدراسة، تأكيدا للميثاق السردي في الكتابة، نجد الالتباس في إبداعنا ونقدنا، فلم تتضح أمام أعيننا أوجه الاختلاف والائتلاف، فضاعت مواثيق الكتابة، وتقنيات كل نوع ومستلزماته التي تتطلب التحول مع مقتضيات العصر. إن هذا الالتباس كان وليد رؤية تسربت إلينا من التنظيرات الباختينية حول الرواية، التي ذهبت إلى أن الرواية تستوعب كل الأنواع وتتضمنها في بنيتها الخاصة. فكان ذلك بمثابة اعتبارها «نوع الأنواع» الذي لا يضيق باستخدام وتوظيف الأنواع والأجناس المختلفة. ومن ثمة جاءت قولتنا «الرواية ديوان العرب». لكن الديوان ليكون ديوانا لا بد أن يكون قابلا لأن يؤطر ضمن نوع محدد، وفي نطاقه تتضمن الأنواع الأخرى، أو لم يكن ذلك كذلك حين كنا نعتبر الشعر ديوان العرب: ألم تجتمع في القصيدة العربية التواريخ والأخبار والوقائع والأمثال والخرافات؟ ألم تكن القصيدة تتأطر ضمن نوع أو غرض محدد يحافظ على ميثاقها التعبيري؟ ويكفي لتأكيد هذه الفكرة الرجوع إلى كتابات باختين التنظيرية للرواية الغربية، لنجده يحتفي ويهتم اهتماما بالغا بالأنواع السردية المختلفة التي تحققت في الرواية خلال تطورها.
إن العلاقة بين السرد والتاريخ قديمة قدم الإنسان. فما الأساطير والأخبار والمصنفات التاريخية القديمة على اختلاف أنواعها ومناهجها، سوى تأكيد لهذه العلاقة ذات البعد «المرجعي». وما نتعامل معه نحن اليوم باعتباره أساطير وخرافات، كان القدماء يتعاملون معه على أنه وقائع وحقائق. وحين كانوا يسردون، وفق الأنواع السردية المختلفة، كانوا يتعاملون مع «يروى» بأنه «وقع» في زمان ما، وتبعا لذلك لم تكن هناك مسافة بين ما نسميه حاليا: الواقع والخيال. كان كل شيئا قابلا للوقوع، إن لم يكن قد وقع بالفعل. ويبدو لنا هذا بجلاء في تصور ابن خلدون، وهو ينتقد كتابات المؤرخين العرب السابقين عليه. إن دخول الرؤية النقدية في قراءة الوقائع كانت منطلقا للتمييز بين الواقع والخيال، وبين الكذب والصدق، والزيف والحقيقة.
ولهذا السبب عندما ظهرت الرواية الغربية في بدايتها كانت تسعى من خلال «السرد» تمثيل الواقع المعيش (الرواية الواقعية)، أو الواقع الذي كان (التاريخ). ولذلك كان الروائي في القرن التاسع عشر (بلزاك مثلا) يعد نفسه «مؤرخ» العصر.
منذ القرن العشرين تطور الوعي بالتاريخ، وبكتابة التاريخ، سواء في الدراسات العلمية، أو الكتابات السردية، سواء اعتمدت اللغة أو الصورة، وصارت العلاقات متعددة بتعدد أنواع السرد الروائي الذي يتعامل مع التاريخ. فما هي الأنواع السردية القائمة على التاريخ؟

٭ كاتب مغربي

السرد التاريخي

سعيد يقطين

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عبدالحكيم المالكي ليبيا:

    مقال جميل للأستاذ يقطين. هاجسي دائما مع الرواية التي تستند في حكايتها إلى التاريخ ليس من زاوية إجناسية أو نوعية بل من الزاوية الفنية ومن زاوية الحقيقة، الزاوية الفنية تتمثل في كيفية معالجة الروائي لهذه المادة الحكائية كيف أشتغل راويه وما هي أنواع التلوينات التي لحقت تلكم الرؤى من حدود وعي شخصياته الممكنة، ومن زاوية الحقيقة باعتبار الروائي (في نهاية المطاف) شخصا واقعيا موجودا يتعامل مع التاريخ باعتباره مادة لرؤيته الشخصية أو تعبيرا عن نزعته القومية، أو العرقية أو القبلية. لهذا وياللأسف نرى تشويها للتاريخ وللحقيقة من روائيين كبار. مودتي

  2. يقول سحر شُبر العراق:

    تساؤلك أستاذ سعيد الفاضل عن الأنواع السردية القائمة على التأريخ جدُّ وجيه يجعلنا نشكُّ في خطاطة الروائي العربي .. الإبداعية .

  3. يقول زهرة:

    اريد توضيح من فضلكم
    السردي والتاريخي كيف يدخل هنا التخييل او بالاحرى هل السرد هنا تخييلي
    لان التاريخ في الرواية هو تاريخ مستمد من الواقع ومتخيل
    في موضوع السردي والتاريخي كيف اتحدث عن التخييل
    من فضلك ارجو الرد

  4. يقول سارة:

    شكرا

إشترك في قائمتنا البريدية