■ النخبوية تعني أن هناك علية القــوم وعامتهم، وتعني أيضا أن هناك ثقــــافة ترتبط بالعلية وتعــــبر عنهم، مثلما أن هناك ثقافة تخص العامة والبسطاء، وشتان بين ما تمتلكه النخبة من سلطة وقوة ومادة ومال ومكانة، يضمن لثقافتها التدوين والحفظ، وحظوظ العامة في الثقافة، وإجبارها على سماع ثقافة النخبة، ووسائلها البسيطة في حفظ مروياتها وسردها وتناقلها.
إن هناك من يشطر الثقافة العربية التراثية إلى شطرين: ثقافة نخبوية عالمة تقام لها حلقات الدرس وتصنف فيها كتب النقد والبحث عن أسرار الفصاحة والبلاغة والإعجاز واستخراج النوادر والدرر وجواهر الأدب لإمتاع الحكام ومؤانستهم واسترضائهم حينا، ولتعليم الناس أحيانا أخرى. أما الشطر الثاني فثقافة الطبقات الشعبية البسيطة التي تكدح سعيا لرزقها فيسير شعرها ونثرها في البوادي والأرياف، ينسج باللغة الشفاهية المحكية، ينشأ ويزدهر ويذوي ويندثر في صمت، بدون أن يحظى بمن يرقى به إلى درجة التدوين، إلا قليلا مما ذكرنا آنفا.
وفي الحقيقة هذا تقسيم فيه ظلم كبير للثقافة العربية، لأنه ناتج عن رؤية استعلائية تفصل بين النخبوي والشعبي، وهو فصل على غير أساس، فكل ما تنتجه الثقافة، شفاهية أو كتابية، معبر عن روح الثقافة وفئاتها، وبالتالي مرحبا بكل ما هو منتوج ثقافي، ولا للفصل والإقصاء، فلا ندون ونحتفي بما يعجبنا ويحظى برضا النخبة أو الصفوة المرتبطة غالبا بالسلطة وبذوي النفوذ والمال؛ ونترك ما هو شعبي/ فقير/ هامشي، بدون تدوين أو اهتمام.
أما لو تغيرت النظرة بأن كل ما ينتج ثقافيا مقبول، ويعبر عن شرائح المجتمع المختلفة، وبذلك تتغير النظرة المبنية على الفوقية والتحتية إلى الرؤية المتقبلة، ومن ثم تكون الدراسة شاملة لكل ما ينتجه الفرد والمجتمع ثقافيا، وتتحول من نخبة وعامة إلى ثقافة المجتمع كله، وإن ضعفت في فترات، وإن تميزت شريحة عن أخرى، فالثقافة هي الوجه المعبر عن المجتمع بكل ما له وما عليه، أما التمييز فيتم على أسس فكرية وفنية وموضوعية وليس على تمايزات طبقية أو إثنية أو فئوية أو دينية .
وبالنظر إلى النخبة العربية القديمة، فإن النقاد العرب القدامى – وكذلك النقد العربي القديم – لم ينشغلوا كثيرا بتصنيف مثل هذه الكتابات تحت أجناس أدبية بعينها، فإنّ إطلاق القول في جزئيّات الأجناس الادبيّة في القرون الهجريّة الأولى كان أمراً غير ميسور على الناقد العربي، بسبب من تعقد تلك الكتب التي اشتملت على نصوص أدبية عديدة، واعتماد بنيتها النقديّة على نظرة توازن بين الأجناس نفسها، فضلاً عن أنها كانت بعيدة عن طبيعة الخطاب البلاغي النقدي الذي عُرف به العرب، وقد شُغل بمعايير لسانيّة تختلف عن تلك التي بحوزة الحضارات المجاورة للعرب؛ ولهذا لم تظهر جزئيّات الأجناس إلا عند نقاد قلة، في إطار محدّد أيضاً، فالنقد العربي عند القدماء شأنه شأن كلّ خطاب مرهون بزمانه ومكانه، من الطبيعي أن يخلو من بعض الموضوعات الدقيقة المعروفة في زماننا، على الرغم من أنّ الناقد يوم ذاك كان يتمتع بموسوعيّة واضحة، يأخذ من كلّ فن بطرف.
فكون النقد العربي القديم لم ينتبه كثيرا لتجنيس السرديات، فهذا عائد إلى انشغاله بقضايا أخرى مثل اللفظ والمعنى والنظرات البلاغية ومعالمها وتحليل وشرح النصوص الشعرية، ولكن لم يسجل وجـــود إشارات بالرفض للسرديات الشـــفاهية أو المكتوبة، بل كانت مكتوبة ومدونة ومنتشرة بين الناس العامة والخاصة، بدون وجود تصنيف نقدي لها، أو لقصور الرؤية نفسها، لأن قضية التجنيس لم تكن حاضرة بقوة في وعي النقاد العرب القدامى.
أيضا، فإن غياب التكامليّة النقديّة التتابعية، والتي مؤداها أنّ الناقد اللاحق غير معني بإكمال مقولات الناقد السابق، قد أدّى الى تشتت الخطاب النقدي، وضعف القواسم الرابطة بين قسم من موضوعاته، فلو قدّر للناقد اللاحق أن يكمل نظرات الناقد السابق، وأن يضيف إليها لكانت صورة النقد العربي القديم في وضع آخر مختلف.
كما أننا نرصد أن متلقي القصص (السامعين) في البوادي والقرى، سلكوا ما هو مشترك إنساني بين الشــعوب كافة، وهو السماع للقصص المروية شفاهـــة، وإن تفرد العرب في مختلف البــلــدان بالسماع للرواة المتقنـــين لفن الحكي للسير الشعبــية وغــيرها، فلم تكن القراءة عادة بالنظر لانتشار الأمية، ولكن كان السماع والتلقي الشفاهي سبيلين للتعلم وتذوق الحكي، فإذا كان هناك كتاب يقرأ، فهو يقــــرأ على جماعة، وهم ينصتون إليه، في زمن قلة المجيدين للقراءة، وندرة الكتب وهي مخطوطة، ومشقة النسخ فحلقات رواية السير الشعبية جمعت الناس صغارا وكبارا.
وتلك السمة ظلت ملازمة الأمة العربية، إلى ما هو قريب من عصرنا الحديث، وظلت الشفاهية ـ وستظل ـ منبعا لتسجيل الكثير من الحكايات والروايات والقصص حتى مع انتشار الوسائل المطبوعة، فإن الشفاهية تظل سبيلا للتعلم والتسلية وتبادل الخبرات الحياتية، وفي كل هذا منبع للأديب الملهم، والمثقف المبدع، الذي عليه أن ينتقي ويسجل ما يسمعه إبداعا. فيمكن القول: إن التراث العربي تراث حكائي شفاهي في معظمه، مهيمن عليه الطابع السردي، وإن الثقافة الشفاهية ـ بآلياتها وسماتها ـ مهيمنة على الذات العربية، فكرا وسلوكا، ولا تزال تلك الذات تعيش إلى يومنا بهذه الثقافة، بل إن الثقافة الشفاهية وإن كانت مهمشة في الظاهر، ولكنها فاعلة على صعيد الواقع، على النقيض هناك ثقافة كتابية فاعلة في الظاهر، مهمشة غير فاعلة في الواقع المتعين، فكرا وسلوكا وهذه مفارقة مهمة.
فإذا كانت هناك نخبوية لدى بعض النقاد ومؤرخي الأدب، إلا أنها لم تكن مانعة لانتشـــار النصوص الشفاهية وإن كانت عامية، بل وجدت مجالس كثيرة سمعت الشفاهي، ووجدت نخبة قيدت الشــفاهيات، وساعدت على كتابتها، ومن ثم حفظها، وإلا ما كانت قد وصلت إلينا، بروايات مكتوبة عديدة، مختلفة باختلاف الأجيال والبلدان والمرويات.
٭ كاتب وأكاديمي مصري
مصطفى عطية جمعة