يتواصل سعي الدارسين، يوما بعد يوم، لإعادة النظر في ما تراكم من تراث سردي عربي قديم، ودراسته دراسات جديدة في ضوء ما جد ويستجد يوميا من نظريات في اللغة، ونظريات في علم السرد والسرديات. فبعد الكتاب الذي وضعه سعيد جبار بعنوان «الخبر في السرد العربي» 2003 وشعيب حاليفي «الرحلة في الأدب العربي» (2007) وعبد الرحيم المودن «الرحلة في الأدب المغربي» 2006 وسعيد يقطين «السرد العربي مفاهيم وتجليات» (2006) وماجدولين شرف الدين «ترويض الحكاية» وغيرها من دراسات، يأتي كتاب سعيد جبار الموسوم بالعنوان «التخييل وبناء الأنساق الدلالية ـ نحو مقاربة تداولية» رؤية للنشر ـ مصر ـ 2013 ليضيف إلى ما تقدم قراءة جديدة لثلاثة نماذج من السرد العربي القديم، أولها كتاب الاعتبار لأسامة بن منقذ الشاعر الذي عاش وتوفي في القرن السادس الهجري. وثانيها السيرة النبوية برواية ابن إسحق المعروفة اختصارا بسيرة ابن هشام. والأخير «الرحلة العياشية» لمؤلفها عبدالله بن محمد العياشي، استنادا لمخطوط نشر بعد تحقيقه على يدي سعيد الفاضلي، وسليمان القرشي، وصدر عن دار السويدي في (أبو ظبي) في طبعته الأولى عام 2006 وكانت قد حظيت الرحلة العياشية باهتمامات كل من سعيد يقطين، وعبد الرحيم المودن، وشعيب حاليفي، في كتبهم المذكورة.
مقاربة تداولية
بيد أن سعيد جبار في سفره القيم هذا، لا يكرر ما قيل في تلك الكتب عن النصوص السردية المتخيرة موضوعا لدراسته، باعتماده نهجًا صرح به، وأعلن عنه في العنوان الفرعي لكتابه، وهو «نحو مقاربة تداولية» والتداولية تيار لساني ظهر للمرة الأولى على يدي الفيلسوف الأمريكي شارل موريس سنة 1938 فقد فرق بين علم الدلالة والتداولية، تفريقا يقوم على أن الأول يعنى بمعاني العلامات اللغوية المتواضع عليها في معجمات اللغة، في حين تعنى التداولية بعلاقة العلامة اللغوية بمستخدمها، أي بالمتكلم والسامع، أو الكاتب والقارئ. وقد استند إلى هذه الفكرة عدد من اللسانيين منهم بال هيل وفرانسيس جاك وسبيربر، وولسون، اللذان عنيا بتأويل العبارات تأويلا محليا، وأنكومبر الذي عني بالشروط التي يتطلبها نجاح التواصل الشفوي والمكتوب.
على أن التداولية اكتسبت شهرة على أيدي فلاسفة أكسفورد ـ لندن، وفي مقدمتهم جون أوستن وسيريل وغرايس، وقد لفت الأخير الأذهان لما يعد خللا في نظرية أفعال الكلام عند أوستن، والمنطوقات الأدائية أيضا، كونهما تخلوان من أي إشارة للملفوظات التخييلية. فقد تجاهل فلاسفة اللغة هذا الجانب مكتفين بالقول: «إن التخييل نقيض الحقائق. وهذا الذي يكاد يجمع عليه فلاسفة اللغة لم يرض بعض التداوليين، الذين لا ينكرون أن التخييل وصف كاذب للواقع، ولكنه يتضمن وصفا لكيانات غير موجودة، مسهمًا بذلك في تمثيل المبدع للكون، وتجويده». فالأعمال التخييلية المعروفة، كالحكاية، والقصة، والرواية، والخرافة الشعبية، وقصص الحيوان، ترسل عبر النصوص رسائل يختلط فيها الكلم الصادق بالمتخيل، الذي لا يُفترض فيه أن يكون خبرًا ـ كغيره- يحتمل الصدق، أو الكذب. وتبعا لذلك يؤكد بعض التداوليين أن «الخطاب التخييلي (حكاية أو قصة) خطابٌ قابلٌ لتداخل الملفوظات والفضاءات والشخصيات، والأزمنة والأحداث، وتآلفها جميعا لتكون عالما غير صادق، وغير مطابق للواقع، ولكنه تلميحي».
وقد صقل بعض التداوليين هذه الفكرة، جاعلين من العلاقة بين الواقع والتخييل في الخطاب السردي جزءا من البعد المعرفي الذي يمرره الخطاب التخييلي. وعلى هذا الأساس تقوم دراسة سعيد جبار لكتاب «الاعتبار» بفرضية الجمع بين المعرفي (الإخباري) والتعبيري (التمثيلي) فالمعرفي في الخطاب هو الذي يعد التحقق من صدق ما فيه من مرويات سلمًا للوصول إلى الحكم على الكتاب بالواقعية، وبصدق الرواية، وبأن ما ورد فيه من أخبار، سواء أكانت تتعلق بالمؤلف نفسه، أم بغيره من السلاطين والأمراء والوزراء، وبفضائه المتعدد بين دمشق وشيزر والقاهرة، أو بغير ذلك من شؤون كشهاداته عن الإفرنج، وما ذكره عن حياتهم اليومية، وما يتصفون به من شجاعة، أو جبن، ومن غيرة على النساء أو عدم الغيرة، إلخ أقوال وروايات صادقة مئة في المئة. وأما الجانب التعبيري، فيختص بذلك القدر من التمثيل الذي قصد به أسامة بن منقذ وضع القارئ في أجواء الأحْداث، على الرغم من أن مروياته تلك لا تتعدى القرن السادس الهجري. فهو يتعمَّد المزج بين المعرفي ـ بالشروط التي ذكرنا- والتخييل، مضفيًا على الجانب المعرفي الطابع الذاتي، والحدس الشخصي، الذي يمرِّره المؤلف ابن منقذ عبر قنواته المتخيرة إلى قارئ يُراد له أن يتفاعل بهاتيك الأجواء التي يصفها الكتاب، وأن يقع تحت تأثيره وسحره. ففي الوقت الذي يطمع فيه ابن منقذ بتمرير الأخبار عن الوقائع، لا يفتأ يستعين بوسائل تشويق متعددة تجعل من هذه الوقائع مزيجًا من الوعي الذاتي، والنوايا المضمرة، التي لا غاية لها، ولا هدف، سوى التأثير في القارئ.
وتبعا لهذا نجد المؤلف سعيد جبار يتحدث بشيء من الإمتاع عن الأسس التي تحدث عنها التداوليون بوصفها ضوابط، أو معايير، تكفل للكاتب تحقيق هذا الهدف، والوصول إلى غاياته المرجوة. وأولها المقصدية الإخبارية، التي لا بد أن تتأثر بعوامل منها، أن يشتمل الجانب المعرفي على جلّ ما هو ضروري، من غير زيادة، ولا نقصان. وأن تتصف مرويات الكاتب بالتأكد من صحة ما يرويه، فيحيل إلى الأسانيد الموثقة والوثائق. وأن لا يتضمن سرده للوقائع ما يوحي بتناقض المتأخّر منها مع السابق. وأن يكون الملفوظ الإخباري واضحًا لا يحتمل اللبس، ولا تعدد الدلالات، وألا يتخلل الترتيب ضربٌ من الاضطراب أو الفوضى.
وهذه الأمور تكاد تتحقق جميعا في(الاعتبار) ولاسيما في القسم الأكبر منه الخاصّ بما رواه عن الصراع الثلاثي: السني- الشيعي- الصليبي.
السيرة في نسق تداولي
وقد استعان ابن منقذ في «اعتباره» بغير قليل من الوسائط التي تضفي على خطابه السردي مزيدا من التشويق، والقدرة على التأثير في المتلقي. ويقف بنا المؤلف سعيد جبار عند عنوان الكتاب (الاعتبار) فهو عنوان يوحي بما يرمي إليه المؤلف، وقد جاءت سلسلة المرويات المطردة فيه لتعزز اعتقاده بأن القارئ لا بد له من أن يتفاعل بمحتواه، سواء صدق المؤلف فيه، أم لم يصدق. ولهذا، فإن الدلالة الطبيعية للأخبار التاريخية المذكورة تتراجع أهميتها إزاء ما يستقبله القارئ عبر قراءته لها من عبر ودروس. وهنا يغدو معيار الحقيقة، أو مصداقية الخبر، التي تحدث عنها فلاسفة اللغة، غير ذي جدوى، وغير ذي نفع. لأن الهدف من هذه المرويات ليس الاعتقاد بمطابقتها للواقع، وإنما هو الاتعاظ، والاعتبار، من هاتيك الوقائع، والأخبار.
وإذًا نجح ابن منقذ ـ في رأي المؤلف – في أن يقدم لنا ما يشبه السيرة الذاتية، التي يُفترض فيها الواقعية بالمفهوم التسجيلي، غير أنه يروي هذه الوقائع وفي نيته أن يحقق هدفا آخر يتجاوز قشرة الواقع، فلكي تكون حكايته هذه عبرة لمن اعتبر، وموعظة لكل من يتعظ، يوظف الطرائق السردية المتاحة، والعلاقات بين الشخوص، ولاسيما بين الإنسان والحيوان، وذلك يضفي على الجانب المعرفي، وعبر النسيج اللغوي الترميزي، واللون التخييلي، صورةً من صور الإبداع السردي، الذي ينعم فيه المتخيل بحظوة خاصة، ومكانة بهية، إلى جانب النسق المعرفي.
والواقع أن دراسة المؤلف، أو قراءته بكلمة أدق، لكتاب الاعتبار لا تختلف إلا قليلا عن قراءته لكتابي سيرة ابن هشام، والرحلة العياشية،.فالمنهج واحدٌ وإن اختلفت التفاصيل، وتباينت المفردات. وصفوة القول إن كتابا كهذا الكتاب، لولا الإفراط في طول مقدمته التنظيرية (ص12- 87) والاستطراد الذي يتجلى في عودة المؤلف للحديث عن التداولية بعد الشروع في تناول الاعتبار (ص130) لكان كتابًا أنموذجًا للدراسات التي يتغيا فيها مؤلفوها إعادة النظر في التراث السردي العربي.
٭ ناقد وأكاديمي من الأردن
إبراهيم خليل