مضى زمن شهد شيوع سردية رسمية أطلقها النظام السوري خلال الأشهر الأولى التي أعقبت انطلاق الانتفاضة الشعبية في سوريا، آذار (مارس) 2011، مفادها أنّ الأمير السعودي بندر بن سلطان هو الذي يقف وراء «المؤامرة»؛ أي التسمية، الرسمية بدورها، التي استقرّ عليها النظام في توصيف الحراك الشعبي، الذي بدأ سلمياً تماماً، رغم لجوء النظام إلى العنف منذ تظاهرات درعا البلد. كذلك اتُهم الأمير، وعلى نحو شخصي وفردي أحياناً، بأنه يموّل أطراف تلك «المؤامرة»، خاصة بعد أن مضى النظام أبعد في ستراتيجيات التأثيم المعمم، فأطلق على الناشطين صفة «الإرهابيين». فيما بعد، عند تشكيل معارضات الخارج، وتوزّع غالبية المعارضين (عبر «المجلس الوطني» أولاً، ثمّ «الائتلاف الوطني») في ولاءات عربية وإقليمية ودولية؛ تولى معارضون أفراد (أمثال أحمد الجربا وميشيل كيلو واللواء سليم إدريس…)، تثبيت علاقة الأمير بهذه المعارضات، الإسطنبولية تحديداً كما يجوز القول، وتأكيد الكثير مما يُقال عن تحكّم المملكة العربية السعودية بإرادة «الائتلاف»، أفراداً ومؤسسة.
وفي ربيع 2014 أصدر الملك سلمان بن عبد العزيز أمراً بإعفاء الأمير من منصبه كرئيس لـ«مجلس الأمن الوطني»، «بناءً على طلبه»، كما نصّ القرار؛ مما عنى أنّ مسؤولياته في «إدارة» تلك المعارضات قد آلت إلى جهة أخرى، تبيّن سريعاً أنها لم تعد استخباراتية صرفة، بل عُهد بها إلى وزير الخارجية عادل الجبير، ضمن متغيرات أخرى في سياسات المملكة الإقليمية، خاصة تورّط الرياض في اليمن وتشكيل تحالف «عاصفة الحزم». وعلى خلفية رغبة أمريكية في إعادة هيكلة المعارضات السورية، بعد أن ترهلت صيغة «الائتلاف» التي ولدت على أنقاض «المجلس الوطني»؛ تبنّت السعودية خيار «هيئة التفاوض»، وجمعت أطياف المعارضين (بما في ذلك الفصائل المسلحة، «الجيش الحرّ» أسوة بالجهاديين…) في مؤتمر الرياض، أواخر 2015. آنذاك، كان خطاب الجبير يسير هكذا، على سبيل الأمثلة: «بشار الأسد سيرحل عن الحكم في دمشق سواء كان عاجلاً أم آجلاً لأنه انتهى»؛ أو: «إن لم يستجب الأسد للحل السياسي، فإنه سيبعد عن طريق حل عسكري»، و»المسألة مسألة وقت»…
وكان اجتماع الرياض قد توصل إلى جملة «ثوابت»، أبرزها أنّ هدف «التسوية السياسية» هو تأسيس نظام سياسي جديد لا مكان فيه «لبشار الأسد وزمرته»؛ قوامه الالتزام بآلية الديمقراطية، والنظام التعددي الذي يمثل أطياف المجتمع السوري، الحفاظ على «مؤسسات الدولة السورية»، وضرورة «إعادة هيكلة وتشكيل مؤسساتها الأمنية والعسكرية». كذلك اتفق المجتمعون على تشكيل فريق للتفاوض مع ممثلي النظام (ترأسه رياض حجاب، الذي انشق عن النظام وهو في منصب رئيس الوزراء؛ وتألف من 33 عضواً، بينهم 11 عن «الفصائل الثورية»، و9 عن «الائتلاف»، و8 عن المستقلين، و5 عن «هيئة التنسيق»). كان سياقات المشهد العامّ في سوريا، يومذاك، تحكمها عناصر كبرى مثل التدخل العسكري الروسي المباشر، وتحولات الموقف الأمريكي نحو اعتماد الفصائل الكردية في الحرب ضدّ «داعش»، وتركيز الموقف التركي على قطع وتفكيك أيّ احتمال لإقامة كيان كردي على الحدود السورية ـ التركية وغرب نهر الفرات.
وقبل أيام، في أعقاب اجتماع بين الجبير وحجاب، راجت معلومات تفيد بأنّ الرياض أبلغت هيئة التفاوض أنّ الاهتمام الدولي لم يعد يشدد على رحيل الأسد في المرحلة الانتقالية، لأنّ التشديد انتقل إلى ملفّ محاربة الإرهاب؛ وبالتالي على الهيئة أن تعيد ترتيب خياراتها. وقيل كذلك إنّ الجبير تحدّث عن «إعادة هيكلة» الهيئة ذاتها، الأمر الذي قد يفسّر ـ في قليل أو كثير، لكنه غير منقطع الصلة كما يلوح ـ إعلان الهيئة عن عزمها عقد مؤتمرها الثاني، بعد الأول التأسيسي، في تشرين الأول (أكتوبر) المقبل؛ تحت عنوان «اجتماع موسع مع نخبة مختارة من القامات الوطنية السورية ونشطاء الثورة، من أجل توسيع قاعدة التمثيل والقرار». وليس واضحاً، بعد، ما إذا كان هذا الاجتماع سوف يشهد انضمام ممثلي منصتَي القاهرة وموسكو، لكنّ الكثير من المؤشرات تذهب نحو هذا المآل. من جانبه كان جورج صبرا عضو هيئة التفاوض وممثل الائتلاف، قد أوضح أنّ الجبير «لم يمارس أي ضغوط، كلّ ما قاله إن ثمة متغيرات على الساحة الدولية والإقليمية فيما يتعلق بالوضع السوري وإن الأولوية أصبحت للإرهاب وليس إسقاط الأسد، وعليكم أن تراعوا هذه المتغيرات»؛ موضحاً أنّ الوزير أكد على استعداد المملكة «لدعم المعارضة أيا كانت القرارات».
وبين ما راج في الأخبار، من تهمة تخلّي الرياض عن خيارات الأمس القريب بخصوص مصير الأسد؛ وما جزم به صبرا وسواه، من تبرئة ساحة الرياض وتنزيهها عن أيّ ضغط؛ ثمة ذلك الواضح المسكوت عنه من عناصر هذا التأزم، الأحدث عهداً، في حال المعارضات السورية عموماً، وهيئة التفاوض خصوصاً: 1) أنّ ما يُسمّى «المجتمع الدولي» لم يعد، بالفعل، ملتزماً بمبدأ إبعاد الأسد عن المرحلة الانتقالية (فما بالك بإسقاطه، حسب تعبير صبرا!)، وهذا واضح في تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وتغريدات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب؛ و2) أنّ المعارضات السورية، ذاتها، واقعة في حيص بيص، من حيث ما تبقى لها من أوراق تفاوض على الطاولة، وتمزيق بنيتها بين هيئة التفاوض ومنصة موسكو ومنصة القاهرة؛ و3) ما ينعكس على حركة هذه المعارضات من ضغوطات النزاع الخليجي ـ الخليجي الراهن، واعتماد الرياض مبدأ الانحياز القسري وقاعدة «مَنْ ليس معنا فهو ضدنا»…
ومع ذلك، وأياً كانت التبدلات التي طرأت على علاقة السعودية بالمعارضات السورية، في إسطنبول كما في الرياض؛ فإنّ الجوهر الأكبر، القديم والمتجدد، سوف يظلّ يدور حول السؤال الكبير: مَنْ نصّب هؤلاء، أينما كانوا وكانت صفاتهم ومؤسساتهم، ممثلين للشعب السوري؛ منذ جنيف 1 وحتى جنيف 7، ومنذ أستانة 1 وحتى يشاء الله؟ وهل يكفي القول، كما جاء في بيان الرياض 2015، إنّ المشاركين «ينتمون إلى كافة مكونات المجتمع السوري من العرب والأكراد والتركمان والآشوريين والسريان والشركس والأرمن وغيرهم»، لكي ينطبق الزعم على الواقع؟ أم تُفرض شرعية التمثيل، اعتباطياً وعشوائياً، لمجرد تأكيد البيان أنه «شارك في الاجتماع رجال ونساء يمثلون الفصائل المسلحة، وأطياف المعارضة السورية في الداخل والخارج»؟ أو تُختلق هذه الشرعية، كما يجري الزعم الجديد حول الاجتماع المقبل، بسبب من حضور «نخبة مختارة من القامات الوطنية السورية ونشطاء الثورة»؟
ألم تمارس السعودية، منذ أن أسلمت معارضات إسطنبول والرياض قيادها لأجهزة المملكة، طرازاً مزدوجاً من التدجين، قوامه إكراه السياسة (بمعنى فرض أجندات المملكة، الداخلية أو الإقليمية أو الدولية)؛ واستغلال باطل التمثيل (بمعنى إدراك هزال ما يمثله زيد أو عمرو في عمق الشارع الشعبي السوري، ومقادير تبعية هذا واستزلام ذاك)؟ ألم تُختبر سلوكيات تلك المعارضات، على مستوى «المجلس الوطني» ثمّ «الائتلاف الوطني» وصولاً إلى «هيئة التفاوض»؛ بحيث نشهد اليوم كسوراً وانشقاقات وتباينات حادة، حتى في إسقاط ثوابت كبرى؛ كما اعترف صبرا نفسه، مؤخراً: «لم يعد خافيا أنّ البعض بات يصرّ على بقاء الأسد في المرحلة الانتقالية، وحتى من داخل هيئة المفاوضات العليا هناك من يعتقد بإمكانية أن يبقى الأسد في المرحلة الانتقالية، أما المنصات الأخرى فهي لم تعد تخفي هذه المطالب»؟
إلام، إذن، هذا التمادي في خداع الشعب السوري، والغرق أكثر فأكثر في حضيض سياسة بالإكراه، وتمثيل لا ينهض إلا على باطل؟
٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
صبحي حديدي
على حد علمي كانت هذه المعارضة نفسها تقريبا تحركها دولة اخرى قبل السعودية فلماذا التركيز على دور السعودية وتناسي دول اخرى