في سياق اهتمامه بتاريخ الحركات السياسية والاجتماعية في الشرق الأوسط، أعدّ المؤرخ البريطاني تشارلز تريب سنة 2011 مخطوطة كتابه حول «السلطة والشعب: مسارات المقاومة في الشرق الأوسط»، وقد صدر الكتاب بعدها بسنتين عن جامعة كامبريدج وتُرجم عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر سنة 2016.
في هذا الكتاب وجد تريب أن الكتابات حول المنطقة بقيت ترتكز في الغالب على سياسة المغامرات الإمبريالية والدول والأنظمة وأجهزة السلطة التي أكسبت المشهد الإقليمي بعض ملامحه المميزة، ولذلك ظلّت «المقاومة اليومية» للسلطة في الغالب تصوّر باعتبارها شيئاً عرضياً وليس منتظماً، ومن هنا أخذ تريب يسعى إلى كتابة ذاكرة المقاومة التي شهدتها مدن الشرق الأوسط، خلال المئة سنة الأخيرة من عمر المنطقة، عبر اقتفاء أثر وملاحظات السوسيولوجية الأمريكية، ليزا وادين أستاذة السوسيولوجيا السياسية في جامعة شيكاغو، التي قدمت مرافعة معرفية عميقة في كتابها «السيطرة الغامضة» حيال مفهوم الشرعية السياسية الذي طرحه فيبر على الباحثين لدراسة طبيعة الأنظمة السياسية، الذي يقوم على فكرة اعتبار أن أي نظام سياسي هو صالح أو شرعي بالدرجة التي يكون فيها سلوك الناس «موجهاً نحو» هذا القانون أو النظام السياسي. الأمر الذي أدى إلى أن يميل معظم الباحثين إلى قبول فكرة (نتيجة تعريف فيبر السابق) أن الأشخاص الذين يخضعون للقانون أو النظام يفعلون ذلك لأنهم يصدّقون النظام، بدليل أنهم يطيعونه. فتصديق النظام يُقرأ من خلال سلوك الطاعة له.
ولذلك – ووفقاً لوادين- فإن الإشكالية في دراسة الأنظمة السلطوية من خلال استخدام مصطلح الشرعية السابق تبدو أكثر صرامة. لأن مثل هذه الدراسات غالباً ما فشلت في التمييز بين التظاهر العام بالولاء والتصديق من ناحية، وبين الولاء والتصديق الحقيقيين من ناحية أخرى. ولأن حقيقة أن أغلب المواطنين قابلون لإعادة إنتاج الشعارات الرسمية للنظام – وأغلبهم يفعل ذلك بشكل ظاهري ـ بالكاد قادرة أن تخبرنا فحسب على أن النظام قادر على فرض الطاعة على مستوى السلوك الخارجي ليس إلا. ومن هنا أخذت وادين تدعونا إلى دراسة العروض وأشكال المقاومة الرمزية للسلطة (مثل النكتة والمسلسلات) بدل الأخذ بمفهوم الشرعية الذي قدمه فيبر، لأن في دراسة أشكال المقاومة الرمزية والأخذ بملاحظة فوكو الشهيرة «أينما توجد سلطة، لا بد من وجود مقاومة» هي التي تمكننا من ملاحظة المناوشات اليومية التي كانت تدور بين الحاكم والمحكوم، خاصة أن المعنى الفيبري لمصطلح «الشرعية» لا يمكنه الإمساك بهذه الدينامية للتجارب السياسية المعارضة داخل الأنظمة الشمولية. فقد يذعن عدد كبير من المواطنين لكن من دون أن يصدقوا الأحقية العامة للنظام أو قادته، أو بعض قراراته.
وبذلك وجد تريب من خلال مرافعة وادين السابقة مدخلاً معرفياً بديلاً لقراءة تاريخ العلاقة بين السلطة والمقاومة في الشرق الأوسط، وربما هنا تكمن فرادة عمله هذا على مستوى المقاربة التاريخية، خاصة أن هناك العديد من الأعمال السوسيولوجية والإنثربولوجية التي رصدت وحللت أشكال المقاومة هذه، غير أن الدراسات على مستوى الكتابة التاريخية كانت قليلة. ولذلك حاول تريب في القسم الأكبر من الكتاب التأريخ لبعض مظاهر المقاومة الرمزية التي شهدتها المنطقة قبل أحداث الربيع العربي لقناعته – بناء على المعطيات المعرفية السابقة- بأن الأحداث الكبيرة التي تبرز على السطح لا تشكل سوى نتيجة لكل أشكال المقاومة الرمزية واليومية للسلطة، التي ظلت تعتمل في الأذهان والصدور، وفي القصص والنكت اليومية والأغاني والأفلام والروايات، وفي الاقتصاديات البديلة، وهي أشكال برأيه لم يرها القائمون على السلطة، ولا المراقبون الخارجيون المهتمون بسياسات الشرق الأوسط. إذ بقي الأخيرون مولعين بفكرة «الاستثناء الشرق الأوسطي» على مستوى عدم إمكانية المطالبة بالحريات والتحول الديمقراطية. ولذلك كانت النتيجة زيادةً في التركيز على السياسات العليا وتقليل الاهتمام بالسياسات الدنيا، وبدور الفعل المستقل، إضافة إلى تجاهل المطاعن ومواطن الضعف في السلطوية السياسية.
وبعد عام من نشر كتاب تشارلز السابق، نشر المؤرخ ذاته بحثاً آخر في كتاب «الشرق الأوسط الجديد: الاحتجاج والثورة والفوضى في الوطن العربي» الذي أشرف على تحريره فواز جرجس، صدر أيضاً عن جامعة كامبريدج، وترجم نهاية العام الفائت عن مركز دراسات الوحدة العربية. في هذا البحث «سياسات المقاومة والانتفاضة العربية» الذي جاء بعد مرور ثلاث سنوات أو أكثر على حرق البوعزيزي جسده كتعبير سياسي رمزي عن حالة من الاحتجاج حيال سردية السلطة الاقتصادية والاجتماعية وسلوكاتها الجائرة اليومية، (وهو ما دفع تريب في كتابه السابق إلى تخصيص فصلٍ كامل حول سياسات الجسد)، وفي فترة أخذت العديد من الصحف الغربية تتحدث عن «الشتاء الإسلامي»، الذي حل في المنطقة بعيد أشهر الربيع العربي الأولى، وهي تحولات كما يبدو أثرت في دراسة تريب، إذ ظهر ذلك من خلال سؤاله الأخير في الدراسة والذي جاء تحت عنوان «متى تنتهي المقاومة؟.
ذلك أن استعادة المجال العام ومثله في الأهمية استعادة المؤسسات العامة بوصفها مواقع للمناقشة وإصدار القرارات المتعلقة بالصالح العام، كانت من إنجازات الانتفاضة. بيد أن تحويل مقاومة الجمهور إلى مؤسسة كانت تختلف – برأي تريب- عن مسألة نزول الجمهور في الشوارع وساحات المدن، لأن العمل المؤسسي تطلب خلق ظروف جديدة ومهارات مختلفة، إذ وقعت عملية تحويل الجمهور إلى مؤسسة بحد ذاتها تحت رحمة خصائص حياة المؤسسة السابقة ـ تقسيم العمل، ضرورة غموض الوظائف، الميل نحو تشكيل النخبة ـ ما ساعد على إزاحة المؤسسات العامة بالاسم فحسب من السيطرة، من هنا فإن الخصائص ذاتها في سياسة المقاومة، التي كانت مؤثرة في النيل من النظام الطاغي، عادت لتربك التحول إلى نظام عام أكثر تأسيسياً، إذ يكون موقع القوة منتشراً، لا متركزاً في أيدي القلة (التي ادّعت تمثيل الثورة) إضافة إلى أن قوى المعارضة أخذت تتبنى صفات السلطة وتقسيماتها الثنائية للعالم والمجتمع. من ناحية أخرى يرى تريب أن أحداث الربيع العربي أظهرت أن السلطة أكثر تعقيداً وانتشاراً واندماجاً في نسيج المجتمع، من ذلك التمثيل القانوني والمادي الذي قد توحي به، الأمر الذي شكل بالإضافة إلى السبب السابق تحدياً كبيراً لمدى جدوى التطرق للمقاومة في يوميات الربيع العربي، في ظل عودة السلطة إلى الحكم من جديد من دروب مختلفة.
لكن رغم الإخفاقات السابقة، ما يزال تريب مؤمناً بضرورة رواية ذاكرة المقاومة، لا بل محاولة بعثها والحفاظ على مخيلتها كعمل أساسي ومهم بالنسبة للمؤرخين أو العاملين في المجالين الفني أو الروائي، ولعل إشارة تريب إلى دور الروائيين، تؤكد وربما تعد اعترافاً من قبل مؤرخ لما أشارت إليه بعض الدراسات من أن الروائي بمخيلته ومقارباته السردية بات من يرث مهمة المؤرخ، وربما عالم الاجتماع اليوم، خاصة أن المخيلة الروائية تمتلك اليوم قوة قادرة على «إخراج الناس من أنفسهم» وتقدم مخيالاً للسلطة السياسية خاليا من إقصاءات النظام القديم واحتواءاته، وربما في إعادة إحياء هذه الذاكرة والمخيال ما يتيح فرصاً اجتماعية وسياسية جديدة بدل القبول بفكرة «موت فعل المقاومة» للسلطة وعدم جدواها، التي أخذ يرددها البعض بعيد الانقلاب السياسي في مصر وتعثر مسار الاحتجاجات الشعبية في سوريا.
٭ كاتب سوري
محمد تركي الربيعو