السوريون والنازيون الجدد

عشرات الجثث في شاحنة متوقفة على جانب الطريق في النمسا معظمهم من اللاجئين السوريين، عند هذه المنعطفات تبدأ أوروبا في السفسطة الأخلاقية. بالمناسبة، قبل نصف قرن كان اليسار الفرنسي، سارتر وغيره، يخوضون معركة من أجل حق الجزائريين في تقرير المصير، ومن السذاجة الافتراض بأن كل هذه المرحلة أصبحت وراء ظهورنا، وأن الأوروبيين حسموا مواقفهم بصورة نهائية من مسألة تعريف الإنسانية خارج المعايير القياسية للشخص الأوروبي، وكل القصة أن الأوروبيين لم يخضعوا من زمن لامتحانات أخلاقية كبرى، واليوم، تلقي الأزمة السورية بأسئلة يتوجب الإجابة عليها بصورة فورية.
اليمين الأوروبي ليس مجرد وحش دون عقل، والشباب الذين يهاجمون معسكرات اللاجئين لا يمثلون حثالة بلدانهم، فهم لديهم إطار فكري يرى في المواقف المنفتحة التي تتخذها بعض الحكومات الأوروبية مجرد حالة من النفاق والميوعة التي لا تليق بتحديات مستقبلية يجب على الأوروبيين التفكير فيها، وأولها الأورام الاقتصادية الخبيثة التي تزحف في جسد القارة العجوز من أطرافها الجنوبية في اليونان وأسبانيا وايطاليا والبرتغال.
تغيبت أوروبا عن التدخل بموقف يليق بتاريخها وإمكانياتها فيما يتعلق بالأزمة السورية، فموسكو اليوم تدير دفة الأزمة وتبحث عن صفقة مناسبة لجميع الأطراف، وكان يمكن للأوروبيين أن يكتفوا بالفرجة على المأساة السورية ولكن تطورات أزمة اللاجئين السوريين أتت لتدين الصمت الأوروبي على امتداد المرحلة الماضية.
بداية يجب التأكيد على أن السوريين ليسوا مهاجرين، وإنما مبعدون بصورة قسرية عن بلدهم نتيجة ظروف يتحمل العالم بأسره مسؤولية كبيرة تجاهها، وإدخالهم في قضية الهجرة غير الشرعية والتعامل معهم على أساس تراثها الطويل في الدول الأوروبية يعد افتئاتاً على الحقيقة وتضليلاً للرأي العام، فالسوريون يبحثون عن ملاذ آمن بالحد الأدنى من الشروط الإنسانية، وهم لا يتطلعون لمزاحمة السكان الأوروبيين في مدنهم أو أعمالهم، فقبل الأزمة السورية لم يكن معروفاً عن السوريين أنهم من الجنسيات التي تلجأ إلى قوارب الموت، ولم تشهد مدينة دمشق ذلك التزاحم على السفارات أو مكاتب الهجرة، ويمكن القول، بأن السوريين كانوا يعايشون مرحلة تحول مهمة من سيطرة واحتكار القطاع العام إلى تأسيس سوق تنافسي، وبطبيعة الميول التجارية وثقافة (الشغل) السورية فإن الانتظار كان يشاغل السوريين أملاً في تحسن ملموس في الظروف الاقتصادية.
كما أن هجرات السوريين كانت عادة ما تتم ضمن حواضن عائلية وجهوية، فلم يكن السوري الذي يدخل أي مدينة أوروبية أو أمريكية لاتينية بحاجة لأن يبدأ من الصفر، ففي العادة كان الأقارب يتكفلون بوضعه على بداية الطريق، وذلك ما افتقده المهاجرون الأفارقة وحتى المغاربة والمصريون لدى وصولهم إلى السواحل الأوروبية، وكانت الحواضن العائلية تقطع بالقادمـــــين الجدد مرحلة مهمة في عملية الاندماج في المجتمع الأوروبي، كما أن السوريين بطبيعتهم يعدون شعباً قابلاً للتأقلم وأجبرتهم سنوات طويلة من التعايش مع نظام قمعي على حساسية مفرطة تجاه مخالفة القانون.
اشتباكات الجزائريين مع الجاليات الأخرى في فرنسا كانت مسألة متكررة وروتينية، والمصريون وبدعم من أشقائهم الجزائريين وبينما وصلات التراشق الإعلامي تنطلق من القاهرة بعد موقعة الخرطوم الكروية، قاموا بصدامات انتقامية واسعة مع المهاجرين اللاتينيين في ميلانو بعد مقتل أحد مواطنيهم على يد مهاجرين من البيرو والإكوادور، الأمر الذي أدى إلى اعتقال وترحيل مجموعة من المصريين، هذه الأحداث لم تكن تشتمل على سوريين، وببساطة لم يكن السوريون يعيشون في حالة (الغيتو) أثناء تواجدهم في أوروبا.
الإعلام الأوروبي، وكثير من الساسة، يخلطون الأوراق، وبينما يتحدث العالم عن شاحنة الموت بوصفها جريمة إنسانية مؤلمة، فإن البعض يبدأ في الحديث لينتهي بصدامات كاليه الفرنسية التي وقعت بين السلطات الفرنسية، وبدعم سياسي وأمني بريطاني، لوقف عبور المهاجرين في نفق المانش نحو الأراضي البريطانية، فهل يريد الأوروبيون أن يتنصلوا من مسؤوليتهم تجاه حالات اللجوء السورية من باب دمج قضيتهم في إطار أوسع وأكثر تعقيداً وحساسية، وبحيث يصبح أي سؤال أخلاقي حول الموقف الأوروبي من اللاجئين السوريين معلقاً برسم الدخول في متاهة تفاصيل قضية الهجرة غير المشروعة في أوروبا، ويصبح (الطارئ) السوري جزءاً من (الدائم) الأفريقي؟
على الأوروبيين الاعتراف بخصوصية الأزمة السورية وانفصالها عن مشكلتهم مع الهجرة غير الشرعية، وعليهم أيضاً أن يتحملوا نصيبهم من اللاجئين الذين يطالبون بأبسط وأكثر الحقوق الإنسانية أولوية وبدهية، وهو الحق في الحياة، واللجوء ليس قضية جغرافية صرفة بحيث يلتزم اللاجئ بالخروج إلى أقرب محطة أو نقطة حدودية ليجد مخيمه جاهزاً، فاللجوء الفلسطيني مثلاً كان يجري براً وبحراً، ولم تكن السفن الأوروبية القريبة من وقائع اللجوء الفلسطيني عن طريق البحر تتدخل لمساعدة القوارب الفلسطينية التي نقلت الآلاف أثناء اجتياح العصابات الصهيونية، ولأن التاريخ للجوء الفلسطيني ما زال يحتاج إلى كثير من الدراسة، فإن المواقف الأوروبية ستظهر غالباً تخاذلاً مماثلاً لما يحدث اليوم.
الرأسمالية الأوروبية لم تكن منزعجة من الهجرة غير الشرعية، فهي تمنح الدول الأوروبية فرصة واسعة للحصول على عمالة رخيصة في كثير من المهن التي لا تجتذب الأوروبيين أصلاً، ولكن المشكلة بدأت مع ظهور الجيل الثالث من أبناء المهاجرين ووزنهم السياسي في البلدان التي استقبلت الأجيال الأولى، واليمين أتى بطروحات أكثر صراحة ومباشرة، بينما كان اليسار يرى أصلاً في المهاجرين جزءاً من قاعدته التصويتية، وبقيت الأمور تراوح مكانها في هذه المربعات، وطبعاً لم يكن السوريون بصورة أو بأخرى ضمن هذه المعادلات، ولكن لا يوجد ما يمنع من استخدام فزاعة الثقافة وأنماط الحياة الأوروبية والتهديد الذي يلحق بها من المهاجرين الذين فشلوا في الارتقاء للمواصفات الأوروبية، وكانت مجزرة صحيفة «تشارلي إيبدو» تمثل نقطة تحول تزيد من عبثية مشهد المهاجرين في أوروبا.
فالصحيفة من منطلق انتمائها لليسار الفرنسي شكلاً وموضوعاً دائماً ما كانت تدافع عن قضايا المهاجرين، وأتى الهجوم على محرريها ورساميها ليعتبر بداية جديدة في التعامل مع المهاجرين، فالأوروبيون لم يعودوا ينظرون إلى تصاعد نسبة المهاجرين المسلمين بوصفها تحدياً ثقافياً ولكن ضمن تصنيفها تحدياً أمنياً.
يمكن للإتحاد الأوروبي أن يتجنب المسؤولية الأخلاقية من خلال اتخاذه خطوات جدية لاستقبال اللاجئين السوريين من خلال التنسيق والتحضير السياسي والأمني، وتجنيبهم الوقوع ضحية جزاري الهجرة غير الشرعية وسماسرتها ضمن إطار قانوني وأخلاقي وإجرائي واضح، وبذلك يمكن أن يتم التعامل مع السؤال الأخلاقي للاجئي الأزمة السورية، دون أن ينفي ذلك بالطبع، أو ينتقص، من أخلاقية السؤال حول الهجرة غير الشرعية ودور الإستعمار الأوروبي في تخريب نظم الحياة القائمة في افريقيا دون تقديم أية بدائل مناسبة تستطيع أن ترتقي بعشرات الملايين من ضحايا الصراعات والنزاعات الافريقية وتوابعها الاقتصادية.
أصبحت مشكلة الأخلاق في أوروبا مرتبطة بمنتجات فكرية يجري تداولها بلغة معقدة وقابلة للتأويل، وفي النهاية، فما يحكم أخلاقيات الساسة وناخبيهم هو بيانات الأسعار على رفوف السوبر ماركت، بالطبع، في حالة ظروف كالتي عصفت بألمانيا العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين يمكن أن يصعد النازيون من جديد، دون أن يكونوا هذه المرة ظاهرة محلية، فالنازيون الجدد وحليقو الرؤوس يصعدون في دول أوروبية كثيرة، ويمكن القول، بأنهم سيصبحون قوة مؤثرة في الاتحاد الأوروبي ككل.

٭ كاتب من الأردن

سامح المحاريق

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول محي الدين ح - الجزائر:

    بداية يجب التأكيد على أن السوريين ليسوا مهاجرين، وإنما مبعدون بصورة قسرية عن بلدهم نتيجة ظروف يتحمل العالم بأسره مسؤولية كبيرة تجاهها.
    لكن للعرب المسؤولية الأكبر فيما حدث ويحدث للسوريين،فهم دفعوا مليارات الدولارات لشراء السلاح الذي أخرج السوريين من أراضيم، وهم أيضاً الذين دفعوا بآلاف من المقاتلين العرب للذهاب إلى سوريا لقتل السوريين وإخراجهم من أرضهم، ولكن هؤلاء العرب، وخاصة الذين فعلوا ما ذكر، لم يجرؤا على استقبال هؤلاء السوريين بل تركوهم للحيتان وللطيور تأكلهم، مع أنهم أصموا آذان العالم وهم يذرفون دموع التماسيح على الشعب السوري المقهور من طرف نظام الأسد، والذي يفتقد حسبهم لكل الحريات التي يتمتع بها المواطن عندهم.
    إن إلقاء اللوم على الأوربيين هو الفحش عينه، لأنه إذا كان العربي لا يستقبل أخيه (طبقاً للأغنية العربية المشروحة التي نسمعها منذ صبانا)العربي اللاجئ عنده فكيف يحق له أن يعتب على الأوربي الذي كان في الأصل مستعمر لنا
    إنه من الأخرى أن نطالب ونبحث عن كل السبل التي تضع حداً للدمار والشتات عوض أن نطلب من الأروبيين أن يبستقبلوا اللاجيئين.
    ما الذي فعله العرب من أجل وقف نزيف الدم في سوريا والعراق وليبيا واليمن ما يجري في سوريا إن لم يسرعوا
    إلى البحث السريع عن المخرج من هذه الورطة التي أوجدها العرب قبل غيرهم

  2. يقول الكروي داود النرويج:

    مناظر غرق الأطفال وأمهاتهم أثرت على جميع الأوروبيين
    وبدأت تخرج مظاهرات تأييد لللاجئين وبدأ الناس بجمع المساعدات
    الانسانية فازت الآن بجدارة وذلك يرجع الى الاعلام الغير مسيس بمعظمه

    ولا حول ولا قوة الا بالله

إشترك في قائمتنا البريدية