إلى محمود درويش في ذكراه
. شعبُ الملاحة..أنجليزُ الأعصر الأولى.. أبونا نحنُ، نوحٌ..
والزمانُ بنا.. هنالكَ عالقٌ في فلْكهِ، بين السحائب؛ راخمٌ..
والبيْضُ نحن جميعُنا..
٭ ٭ ٭
أنا لا أحبّك يا أبي.. تُوحِي لنفسكَ أنّه يُوحَى إليكَ..
وأنت مَن أوحدْتني.. ونصَبْتني غَرَضَ المياهِ تنُوشُني
وتشدُّ خاصرَتي
وكنتُ أرى بها في عمْقِ هاويتي أنا
أضواءَ هاويتي!
٭ ٭ ٭
لك أصدقاءٌ زاحمُوكَ؛
وما صغِرتَ عن احتضانِ جميعهِمْ:
نسْرٌ وثعبانٌ وذئبٌ
قطّةٌ وحشيّةٌ.. ضَبُعٌ رماديٌّ ودُبٌّ..
كلُّ ما حملتْ به فينيقِيا..
إلاّ أنا! ٭ ٭ ٭
والآنَ حيثُ يُظلُّهمْ فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ.. غَمَامَتَان.. غَيَايَتَانِ.. أنا ابتعدتُ، الآنَ أقرب ما أكونُ إليّ.. أجْلسُ عند مُنحدَرٍ..
أنا يَامُ بنُ نُوحٍ..
قلتُ سوف أقيمُ حتّى آخر الأمطارِ.. أعْنِي آخرَ الطوفانِ؛
حتّى تهدأ الأنهارُ..وحْدِيَ عند عائلةٍ من الأشجارِ،
والأشجارُ من أبدٍ؛
عوائلُ أوْ شعوبٌ أو قبائلُ..
أوْ بيوتٌ تلتوي فيها الأزقّة كالجذور على بَنِيهَا..
إنّما تتوحّدُ الأشجارُ حتّى الموتِ
حينَ تجفُّ.. مثل حجارةٍ ملمومةٍ..
وتئزّ بالحشراتِ أحيانا..
وفيها تسْرَحُ الديدانُ أحيانا
وتصغي إذ يحطّ الطيرُ؛
لكنْ لا يرنُّ لها صدى..
ماذا إذنْ لوْ أفْردَتْ للريحِ أجنحةً،
وطارتْ هذه الأشجارُ بِي!؟
٭ ٭ ٭
لا ترتجي الأشجارُ موتا حين يُظْمِيهَا الجفافُ..
ولا حياةً حين تنعِشُها السماءُ..
كأنّها خرجتْ هنا.. توّا.. إليَّ أنا!
للسرو شكل نُحامةٍ ورديّةٍ بيضاءَ.. قائمتانِ ضارعتانِ
ذا ظلٌّ وذا جذرٌ هنا يتبادلانِ الدوْر،َ
أوْ يتباريانِ.. الظلّ فحْمُ الضوءِ..
لي منقارُها المعكوفُ..
إذ تتنفّسُ الأشجارُ..
لي أنفاسُها خيطُ السماءِ ونورُها؛
لكنّ للأشجارِ لوْنَ القشّ إذ تصفرُّ،
غيمًا ناعسًا.. سمّيتُهُ أعشابَها البيضاءَ..
لي منها مصابيحُ النذورٍ.. وزيتُها المسفوحُ فوق النورِ..
لي وبَرُ الخرافِ.. به تُذَرِّي الريحَ.. تكنُسُها..
وللأشجارِ عند الساحلِ السوريِّ قبّعةٌ تُحيّينَا
وترفعُ عاليا حمّالتيْنِ لنَا..
بِبنادِق خشبيّةٍ يتلاعبُ الأطفالُ… تحت الأرْز..
قلت جنودُنا الآتون.. سوفَ تعجّ أرض الشام من بعدي بأحفادٍ لنا ولدوا بلندن أو كولونيا أوْ أثينا أوْ بجِبْرلْتارَ..أوْ باريس.. أوْ بافاريا..*
وأطلّ من جبلٍ على أرَدُوسَ..
حيثُ غبارُ نجمٍ طَافِئٍ في بحْرها
مازالَ يومضُ لِي
على فُرْسٍ.. ورومانٍ.. ومصريّينَ..إغريقٍ…
على عربٍ وأكرادٍ..على آشورَ تحفرُ نقشها
وأُطِلُّ من أرْزٍ على صيدا..
على صُورٍ،
على أوزُوسَ يرفعُ رايتينِ لريحِها ولنارِها..
لي سورُهَا جسْرٌ
إلى ديدُون هاربةً إلى إفريقِيا
٭ ٭ ٭
شعبُ الملاحةِ..أنجِليزُ الأعصرِ الأولى.. أبونا نحنُ.. نوحٌ..
غير أنّي لا أحبّكَ يا أبي.. تُوحي لنفسكَ أنّه يُوحَى إليكَ..
وأنتَ مَنْ أوحدتني.. ونصبْتني غرَضَ المياهِ تنُوشُنِي..
أنا ذقتُ هذا الموتَ مرّاتٍ.. وذقتَهُ مرّةً..
وطباعُ موتيَ من طباعيَ .. لا طباعِكَ.. يا أبي
فاضربْ بفلكِكَ.. لُجَّ بحر الرومِ..
لي دِلْتَا لأنهار الشآم؛
ونحنُ نجْري مثلما العاصِي شمالاً
نحنُ من أبدٍ نصبُّ هنا بِبَحْرِ الشامِ..
نسلُكُ في تِلاَعٍ من وُحُولٍ..
حيثُما كنّا التقتْ أنهارُها..
ووجوهُ موتانا نراها حيّةً أبدا
ولكنْ لا يرنُّ لها صدى
ماذا إذن!؟
لو أخرجتْ أثقالَها أرضُ الشآمٍ،
ولو أعادتْها إليكَ بِدُودِها.. أو لحْمِها المبيضِّ!؟
قلْ!
هل كنت تعرفُ وجْهَ أختكَ أو أخيكَ.. ووجْهَ أمّكَ أو أبيكَ؟
الآنَ من خلفِ الزجاجِ..تَرى بريقَ عيونهمْ إذ تخدشُ الأشياءَ
ها نوءٌ ترجُّ سماءَها.. وسهولَها وجبالَها
ها جُنّت الأنهارُ يا أبتَا
وذا «الأورنتُ» يأتيني بأعينِ ماعزٍ في الليل..
يأتِي «لْيُونِتِيسُ»
بلمّة شعثاءَ..
قلْ إيقاعُ هذا النهرِ من إيقاعِ دوّاماتهِ..
ولأضبطنَّ أنا عليها خطوتي
صوتي أنا قربانُ صمتِي
إنّما أنا ضيفُ هذا النهر
إذْ تطفو الجذوعُ.. تغُطُّ في الأنهارِ.. إذْ
أسمُو على الأسماءِ والأشكال..
لي سُحبُ البَخور.. وقد نذرتُ الصمتَ.. قلتُ الصوتُ أرضٌ..
لن أكلّمَ غيرَ نفسيَ.. ثمّ أنساهَا.. وإذْ أنسَى أكونُ..
ليَ المياهُ الماطراتُ الراكداتُ النابعاتُ..
أقولُ للأشجارِ مُدّي في الهواء جذورَنا.. أغصانُنا في الأرض..
فليضربْ بفلكهِ حيثما ضربتْ؛
فهذي الشامُ بستانٌ لنَا..
٭ ٭ ٭
بهراوةٍ سوداءَ.. لوّح لي.. بكأسٍ من دمي.. كانت تزيّنُها الرؤوسُ..
ولطخةٍ من نارهِ الحمراءِ
ـ كيف تنامُ أنتَ؟ هنا!
ـ أنا يامُ بنُ نوحٍ!؟ على لوْحٍ!
ـ إذن لأعلّمنّكَ أن تنامَ كما الحجرْ
إيّاكَ! لا تحلمْ.. فإنّ الحلم أضغاثُ الحياةِ.. فنَمْ
ولو هطل المطرْ
أوْ هدْهَدْتكَ الريحُ..
جذعُكَ أنت من جذعِ الشجرْ
لأجرّدنّكَ من عظامكَ..
كيْ تخفّ فراشةً.. أو غيمةً أو نُدْفةً من ثلجها..
لأعلّمنّك كيف تنمو في زجاجتك الشفيفة، كالنباتِ..
لأطوينّك أنتَ زهرةَ لوتسٍ!
وترى الحقيقةَ دونما أمواهِها
وترى الحقيقةَ دونما أوهامها.
لأعلّمنّك كيف تقفز فوق ظلّك.. كيف تطويهِ على عجلٍ؛
وتتركه وحيدا وهو يُقعي آبَنُوسَ سفينةٍ جَنَحَتْ
ومجذافا!
وربّك لا يَخفُّ إليكَ من ندمٍ..
وذي كلماتهُ نفدَتْ.. وهذا البحرُ صارَ مِدادَنا
فانثرْ على أرواحهمْ من قمحِنا أو ملحِنا
فلعلّ آلهةً ستنزلُ ذات يومٍ..
رُشَّ من دمِنا عليهمْ!
ربّما يتقبّلُ القربانَ يا أبتَا
إلهٌ آبَنُوسِيٌّ.. ونحنُ لهُ هنا
بطبولِنا ودفوفِنا!
٭ ٭ ٭
أنا لستُ مُختصًّا بدوْر ضحيّةٍ أبديّةٍ حتّى أحبّكَ يا أبي..
أدري.. ولا أدري بأنّيَ مِتُّ.. لا أدري بأنّيَ نمْتُ..
قلتُ لِذَا أُصَدِّقُ كلَّ أضغاثِ الحياةِ.. أنا ابنَ نوحٍ.. كلَّ من غرِقُوا
ببحرِ الرومِ.. مَنْ عبرُوا..
لهذا لأزرقِ الصوفيّ في بيروتَ لونُ الشامِ.. ..إذْ أمشي.. بها متلفّتا.. أوْ واقفًا بالسطحِ أرْقبُ مثلها
بابَ المرورِ به.. مرورِ طيورِها وزهورِها.. أعنابِها.. أفراسِها.. أعشابِها..
للأحمرِ العنبيِّ في باريس لونُ الشامِ.. حين أحبُّ..
لكنْ للفراغِ اللندنيِّ غرابةُ الأسماكِ..
لي صيفٌ دمشقيٌّ بلونٍ ليلكيّ في أثينا..
صيفُ دير الزور
أخضرَ كانَ في اسطمبولَ..
كانَ الدغلُ لونَ بنفسجٍ.. أنصالَ مَوزٍ.. كانَ.. في درْعا.. وكان الحقلُ أفْقًا مِن فراغٍ..
إنّما للبيتِ جلدٌ آخرٌ.. ولهُ لسانٌ.. مثلُ ألسنةِ الطلولِ الدارساتِ
بهِ وقفْنا..
إذْ نجُسُّ حطامَنا.. ونجِفُّ.. أو تَعْيَا بنا الكلماتُ..
أو تمشي بنا مشْيَ السحابِ..
كأنْ نُحذّرَ نجمة.. نهرًا.. حصاةً.. إنّما سبْحاتُنا من دمع أيّوبٍ.. ومن عُودِ الصليبِ جذوعُنا.. وظلالُنا أشباحُنا..
٭ ٭ ٭
هي فلكهُ من سرْوِ سوريَة تدورُ بهمْ.. فمن بحْرٍ إلى بحرٍ تدورُ مع الفصولِ.. تدورُ في عجلاتِها.
٭ ٭ ٭
كان الشآميّونَ بالأبوابِ ينتظرونَ نوحًا
لمْ يجئْ نوحٌ، ولا هلّتْ سفينتهُ!
……..
ـ نُشرت القصائد 1 و2 و3 بالقدس العربي
٭ شاعر تونسي
منصف الوهايبي
شكرا أستاذنا الجليل على هذه الوليمة الروحيّة، فقد اختزلت كلماتك ما في الشام من وجع
كان الشآميّونَ بالأبوابِ ينتظرونَ نوحًا
لمْ يجئْ نوحٌ، ولا هلّتْ سفينتهُ!
القصيدة 4 وهي محاولة لكتابة سيرة يام بن نوح(الغريق) شعريّا؛ من كتابي”السوريّون”. وردت في القصيدة أسماء فينيقيّة مثل أردوس(أرواد) والأورنت(العاصي) وليونيتيس (الليطاني)… وإشارات أخرى اسطوريّة . تصويب: منقارها المعقوف(لا المعكوف)
رائع أيها المبدع الصيداح : إنها كلمات من مزاميرداوود تجود البوح ؛ تقرأ في محراب الروح ؛ مبحرة كسفينة نوح ؛ من دون ركوع ولا سجود ولا ملاح..أحببتك شاعراً وناقداً ؛ وأحببتك أكثرتعاكس تيارالريح..لأنك شراع سفينة في وجه الشمس تلوح…
السلام عليكم
لاول مرة لاسفي الشديد اقرأ لحضرتك رغم اني عاشق للعربية شعرا وأدبا، عندما قرأت القصيدة أول مرة رأيت اني بحاجة لعادة قراءتها مرارا ومرارا لأقف عند كل معنى، فأسلوب هذه القصيدة فيه الكثير من فلسفة الراحل عنا الباقي بيننا محمود درويش.
وعندي رغبة كبيرة ان اقف عند كل معنى لهذه القصيدة وان احاول تحليلها وربطها بشعر وفلسفة درويش، ولكني على يقين اني بحاجة ماسة لمناقشتك في الكثير من المواقف في القصيدة. فكيف لي بذلك؟