«وراء كل عظيم امرأة» مقولة طالما نسبت لنابليون بونابرت، ورغم عدم وجود ما يثبت ذلك إلا أنها جرت مثلا، وأصبحت متداولة على ألسنة الكثير، وربما من صلب هذه المقولة ولد منصب محير تبوأته نساء عدة هو منصب السيدة الأولى، الذي يعني أنها زوجة رئيس الدولة، سواء أكان رئيسا للجمهورية أو رئيسا للوزارة.
منصب امتزج فيه الاجتماعي بالسياسي، فما هي حدود المكانة التي يسبغها على من تتبوأ هذا الدور؟ وهل أصبح عرفا دبلوماسيا في كل الدول؟ أم ما تزال بعض البلدان لا تعيره اهتماما؟
إن منصب السيدة الاولى هو اختراع امريكي بامتياز، بحسب انيس منصور في كتابه «السيدة الاولى»، ونحن نعلم أن النظم السياسية القديمة كانت تعرف الملوك وزوجاتهم الملكات، أما النظم الجمهورية فلم يكن فيها دور لزوجة السياسي الذي يتسنم سدة الرئاسة. لذلك احتار واضعو الدستور الامريكي بعد الثورة الامريكية، عندما تحررت الولايات المتحدة الامريكية من سيطرة الاحتلال البريطاني، ففي مايو عام 1787 عندما اجتمع مندوبو الولايات لإقرار دستور البلاد، وكان جورج واشنطون قد اختير بالإجماع ليكون رئيساً للدولة، احتار واضعو الدستور باللقب الذي سيطلق على واشنطون، هل هو صاحب السمو، أم صاحب العظمة؟ أم غيرها من ألقاب التفخيم المعروفة والمتداولة آنذاك في البلاطات الملكية، ليستقر رأي الكونغرس اخيرا على لقب دستوري واحد هو (السيد الرئيس).
اما الصحافة فلم تجد كلمة (السيد) كافية فاصبحت تطلق على الرئيس لقب (فخامة الرئيس) بشكل غير دستوري. كما واجهت من كتبوا الدستور اشكالية اخرى، فماذا سيطلقون على السيدة مارتا واشنطون، السيدة الممتلئة التي كانت تمشي وراء السيد واشنطون منذ ثلاثين عاما، والتي اعتاد الناس على أن يروها معه منذ ايام الثورة عندما كانوا يهتفون لها «تعيش الليدي واشنطون»، احتار الدستوريون هل يسمونها الليدي، المركيزة؟ وأخيرا استقر الرأي على «مسز واشنطون». وهكذا دخلت البيت الابيض بعد مارتا حوالي الاربعين «سيدة اولى» منذ ذلك الزمن حتى الآن، فباستثناء ثلاثة رؤساء امريكيين هم الرئيسان اندرو جاكسون ومارتن فان بيورين، اللذان كانا ارملين عندما توليا الرئاسة والرئيس جيمس بيوكانان الذي ظل اعزب ، كان مع كل رئيس سيدة اولى، اما من كان غير متزوج فكان يعتمد على بعض الاقارب مثل ابنة الاخ أو الاخت أو زوجات الوزراء في النشاطات الاجتماعية التي يتوجب حضور السيدة الاولى فيها.
إن اول من اجترح لقب «السيدة الاولى «كانت الصحافية الامريكية ماري ايمز في اواخر القرن التاسع عشر، فقد كتبت مقالا عن لوسي زوجة الرئيس ردفورد هايز الذي تولى الرئاسة (1877- 1881) واصفة اياها بـ»السيدة الاولى» عندما شاهدتها مرة تمشي وراء الرئيس ثم إلى جواره وتشجعت فتقدمت من الرئيس، لتسير وراءها مجموعة من النساء وورائهن الرئيس الذي قال ضاحكا؛ احترسوا، اذا نحن تركنا المرأة تتقدمنا خطوة، سبقتنا بخطوات، واحتلت الطريق واستدارت لتحرمنا منه. لم تكن السيدة الاولى تلعب دورا سياسيا واضحا، أو تشارك في مهمات ذات طابع سياسي، لكن هنالك بعض الاستثناءات، مثل بعض التأثيرات التي تقوم بها من وراء الستار، إذا كانت تمتلك ما يؤهلها للتأثير في قرارات الرئيس، فحتى ستينيات القرن العشرين لم يكن للسيدة الاولى دور في حملات الرئاسة الانتخابية، وفي عام 1963 ابان تحضير الرئيس كيندي لحملته الانتخابية، ابتدأت السيدة الاولى بالظهور مع الرئيس، ولن ينسى أحد مشهد جاكلين كيندي، الحسناء فرنسية الاصل وهي بصحبة زوجها الرئيس كيندي في حملته الانتخابية في ولاية تكساس، ذات المزاج القريب من الجمهوريين والمعادي لسياسات كيندي الديمقراطية، عندما صرعته رصاصات مجهولة المصدر وهو جالس في السيارة الرئاسية المكشوفة بجانب السيدة الاولى ليلفظ انفاسه الاخيرة في حجرها في مشهد نقلته التلفزة.
لعبت السيدات الأُول بعد ذلك ادوارا مهمة في الحملات الانتخابية ودعم ازواجهن لكن بدون أن يلعبن ادوارا سياسية واضحة، وكانت حياتهن بعد الخروج من البيت الابيض تتحول إلى بعض اعمال المؤسسات الخيرية أو الاجتماعية، حتى ظهرت السيدة هيلاري كلينتون زوجة الرئيس بيل كلينتون التي كسرت القاعدة عندما ترشحت للرئاسة في منافسة مع الرئيس الحالي باراك اوباما في دورته الرئاسية الاولى ثم اكتفت بان تكون وزيرة للخارجية في حكومته.
أما زوجات رؤساء الحكومات في اوروبا فلم يكن لهن ذكر واضح أو مؤثر سوى بعض النتف من الكتابات التي ظهرت في المذكرات هنا وهناك، فمثلا يشار إلى السيدة كلمنتين زوجة ونستون تشرشل، اشهر رئيس وزراء بريطاني، فبحسب ما ذكرته ابنتها في مذكراتها، أن كلمنتين كانت اشد الناس اهتماما بصحة زوجها الذي كان يعاني الكثير من الامراض، وكان من عادتها اذا نام الرئيس، الجلوس على مقعد امام باب غرفته المغلقة حتى لا يزعجه احد، وتكون قد قرأت الصحف واعدت تلخيصا سريعا لكل ما يحدث في العالم أثناء نوم الرئيس لتقدمه له عندما يصحو. أما السيدة مارجريت ثاتشر فقد مثلت الاستثناء الوحيد في تاريخ بريطانيا عندما اصبحت السيد والسيدة الاولى في آن. وفي الاتحاد السوفييتي السابق لم يكن أحد يعرف السيدات الاول أو قصص حياتهن، فهن لا يظهرن في المناسبات العامة عادة، حتى بزوغ عهد البريسترويكا على الامبراطورية الحديدية التي ظهرت فيها السيدة رايسا غورباتشوف بصحبة زوجها ميخائيل غورباتشوف في المناسبات العامة، أو في زياراته البروتوكولية لدول العالم. وفي فرنسا الامر نفسه تكرر، اذ لم يكن للسيدة الاولى حضورها الواضح حتى عهد الرئيس فرانسوا ميتران، فقد كان الفرنسيون يعرفون أن دانييل ميتران هي الزوجة الرسمية، لكنهم شاهدوها مع (المرأة الاخرى) في جنازة الرئيس، والمرأة الاخرى هي آن بنجو، التي أنجب منها ميتران ابنته مازارين بنجو، التي كشفت عنها السيدة الاولى في مذكراتها التي اصدرتها قبل وفاتها، قائلة إن ذلك الجانب الخفي من حياة زوجها لم يكن يخصها، وإن السكوت عن مغامرات زوجها لا يعني أنها كانت تجهل ما يجري وراء ظهرها، لكنها كانت تحمي اسرتها بتفهمها.
أما في عالمنا العربي، فان للمشهد تجليات اخرى، حيث لم يكن لزوجات الحكام في العصر الحديث دور أو ظهور في المجتمع ، ناهيك عن اي دور سياسي أو اجتماعي، فحتى في الممالك الدستورية كانت بعض السيدات ممن حملن لقب الملكة، بعيدات عن الظهور حتى منتصف القرن العشرين، عندما بدأت المجتمعات تتعرف على ملكاتها مثل زوجتي الملك فاروق، الملكة فريدة والملكة ناريمان اللتين كان الشعب المصري يحبهما ويتعاطف معهما. وفي العراق احب الشعب العراقي الملكة عالية زوجة الملك غازي، خصوصا بعد نكبتها بمقتل زوجها الشاب وترملها وهي في عز شبابها ثم وفاتها المبكرة اثر اصابتها بمرض السرطان، كما أن الملكة نور زوجة الملك الحسين بن طلال كانت لها شعبية واسعة في الاردن، بوصفها راعية الثقافة في البلد، ولم تعرف الدول العربية ظهورا للسيدة الاولى حتى ستينيات القرن العشرين، واول ظهور مميز كان في تونس للماجدة – كما سماها الرئيس- وسيلة بورقيبة، التي لعبت ادوارا سياسية مهمة في عهد زوجها الرئيس الحبيب بورقيبة وقيل الكثير عن تدخلاتها السياسية وتأثيرها في تنصيب أو عزل العديد من الوزراء، أو حتى رؤساء الوزارات، أما مصر الجمهورية فلم يعرف احد شيئا عن عائشة محمد لبيب زوجة الرئيس محمد نجيب مثلا ، ولا حتى عن تحية كاظم زوجة الرئيس جمال عبدالناصر، اذ لم يكن يظهرن في المناسبات العامة، لكن السيدة جيهان السادات كانت قد كسرت هذا التقليد عندما حازت مكانة السيدة الاولى وقامت بأدوار اجتماعية وسياسية ابان حكم زوجها في السبعينيات من القرن العشرين، وقيل الكثير عن تدخلها في قرارات الرئيس وتأثيرها عليه، وربما حدث هذا التحول نتيجة تأثر مصر بالولايات المتحدة الامريكية نتيجة انفتاح الرئيس السادات على الولايات المتحدة ابان رئاسة ريتشارد نيكسون، وهي حقبة كانت فيها للسيدة الاولى بات نيكسون ادوار اجتماعية وثقافية وسياسية مهمة، واستمر الامر مع السيدة سوزان مبارك، في زمن الرئيس مبارك إذ كان لها حضور كبير في مجال الثقافة وحقوق المرأة والطفل، عبر المجلس القومي للمرأة وغيره من المؤسسات الثقافية التي تشرف عليها، مثل مكتبة الاسرة. اما في لبنان فقد برزت عدة سيدات اول على المستوى الاجتماعي بعد عقد الستينيات.
الدول العربية الاخرى لم تكن مختلفة في موضوع ظهور ومكانة السيدة الاولى، فلم يعرف العراق على امتداد عهوده الجمهورية السيدة الاولى، إلا في زمن الرئيس صدام حسين، عندما بدأت السيدة ساجدة خيرالله الظهور معه في بعض المناسبات العامة في حقبة الثمانينيات من القرن العشرين، أما في سوريا فلم تظهر السيدة انيسة مخلوف السيدة الاولى في عهد الرئيس حافظ الاسد الا في بعض الصور العائلية للرئيس في بعض الحوارات الصحافية، ولم تكن لها ادوار اجتماعية أو سياسية أو ثقافية تذكر، بينما لعبت السيدة اسماء الاخرس دور السيدة الاولى بشكل اكثر وضوحا في عهد الرئيس بشار الاسد ربما بسبب ولادتها في بريطانيا وتربيتها الارستقراطية.
ان دور ومكانة السيدة الاولى، يختلط فيه الاجتماعي بالسياسي بالبروتوكولي، وتحكمه العادات والتقاليد والقيم الاجتماعية التي قد تسمح بظهوره جليا متى ما توفرت للسيدة الاولى الامكانات من تربية وتعليم وشخصية قوية قد تؤهلها للعب دور مجتمعي مهم، لكن في كل الاحوال ما تزال العديد من دولنا العربية تعاني من تدني مكانة المرأة مجتمعيا، ما يعيق ظهورها بشكل جلي سواء كسيدة اولى أو كسياسية محترفة قد تلعب ادوارا تنفيذية وتشريعة في ادارة الدولة.
٭ كاتب عراقي
صادق الطائي