السيرة والاستشراق المضاد

حجم الخط
5

حين تُرجمت سيرة طه حسين الذاتية إلى الفرنسية، وهي بعنوان «الأيام» علّق كاتب فرنسي على الكتاب قائلا: كيف نصدّق أن هذا الكتاب سيرة ذاتية لرجل أعمى لم يتجاوز في الاعترافات ما يمكن أن يَرِد في أي يوميات، وكان يقصد بذلك أن طه حسين لم يقدم اعترافات صريحة كاعترافات أوغسطين أو جان جاك روسو وشاتوبريان وآخرين، ولعلّ تعليق الكاتب الفرنسي كان مدفوعا بثقافة استشراقية طالما ادّعت أن الأدب العربي يخلو من أدب الاعتراف، ومن هذا المنطلق يقول سعيد الغانمي في مقدمته للكتاب الذي ترجمه بعنوان «ترجمة النفس»، والذي حرره دويت رايندرلز، إن مجلة الكاتب نشرت في السبعينيات مقالة مقارنة بين «اعترافات» أوغسطين و«المنقذ من الضلال» للغزالي، وتوصل كاتب المقالة إلى أن الثقافة الغربية المسيحية أقرب إلى السيرة الذاتية من الثقافة العربية الإسلامية، لأن المسلمين لم يعرفوا أدب الاعتراف بمعنى التكفير عن الخطايا بمجرد البوح بها.
وربما كان هذا الوعي المفارق للسائد الاستشراقي حافزا للغانمي كي يترجم هذا الكتاب الذي ساهم في تأليفه تسعة كتّاب كان هدفهم، كما يقول محرر الكتاب رايندرلز، البرهنة على أن السيرة الذاتية في الأدب العربي في عصور ما قبل الحداثة هي نوع متميز يحتاج إلى أن يدرج في الميدان الأوسع من الأدب العالمي، ويقدم الكتاب مئة نص في السيرة الذاتية العربية، وإحالات إلى ما يقارب أربعين نصا آخر.
والنموذج الذي يقدمه الكتاب للسيرة الذاتية العربية، هو ما كتبه العالم المصري جلال الدين السيوطي عام 1845، الذي اتبع تقليدا عربيا راسخا في هذا الميدان، بالطبع هناك آراء في هذا الكتاب تقبل المناقشة حدّ السّجال، لكن ما يعنينا في هذا السياق هو فتح بوابة كانت موصدة لزمن طويل، فلا بأس أن يكون صريرها تدشينا لاستقراء جديد حول أدب الاعتراف عند العرب، كبديل لقراءات أفقية تورط بها باحثون من العرب أيضا بعد أن تشبعوا بالمرجعيات الاستشراقية، التي لم يكن بعضها سليم الطوية حين أدان القصور في العقل العربي، باعتباره ما قبل منطقي، سواء جاء ذلك على لسان مورو بيرغر ودي بور أو جورج باتاي في كتابه الشهير عن العقل العربي والأقرب إلى ذلك، الكتاب الذي حمل عنوان «مثالب العرب في زمن الهجاء العرقي المتبادل بين العرب والعجم».
والسيرة الذاتية العربية شجن قديم مُتجدد، لأن الخلاف يبدأ من تعريف هذا النوع الأدبي، فالسيرة ليست ذهنية أو معرفية فقط، كسيرة ابن سينا عن معلميه ومرجعياته، إنها سيرة الجسد أيضا، بما يعج به ملكوته من مكبوتات وخطايا وندم واعتراف، لهذا ما توقعه ذلك الكاتب الفرنسي من طه حسين هو أن يتحدث عن مراهقته، على غرار ما كتبه روسو وأن يبوح بتلك المملكة الجسدية المسكوت عنها عربيا لأسباب تتعلق بالأعراف والتقاليد والكوابح القسرية التي تفرضها الرقابة بشقيها، الذاتي والموضوعي، لهذا واجهت سير ذاتية عربية حديثة منها «الخبز الحافي» لمحمد شكري استنكارا واسعا، ومنعها الرقيب في عدة أقطار عربية، وتعرضت سيرة الراحل سهيل أدريس إلى شيء كهذا، لأن المحظور لدى الرقيب العربي رسميا وشعبيا على السواء هو البوح بتجارب تدرج في خانة خدش الحياء، وقد تمددت هذه الرقابة لما لديها من فائض المساءلة، لتشمل سيرا ذاتية مترجمة، بحيث حذفت فقرات وأحيانا صفحات، ومنها ما كتبه هنري ميلر وكولن ويلسون وجيمس جويس خصوصا في رسائله.
والسيرة الذاتية أو ادب الاعتراف ليست طليقة وبلا قيود، إنها محاصرة بشروط ذات جذور تربوية أولا، لهذا يضطر الكاتب العربي حتى لو كان يكتب رواية إلى أن يحترز من تأويل بعض المشاهد قائلا: إن أحداث الرواية لا علاقة لها بالواقع، أو أن شخوصها هم من نسج الخيال فقط .
لكن هذا الجهد الكبير المبذول في كتاب «ترجمة النفس» سواء من مؤلفيه ومحرره ومترجمه أيضا يستحق وقفات مطولة ليس فقط لمقاربات حول أدب السيرة، بل لإنصاف التراث العربي الذي حكم عليه الاستشراق بالجملة وحرمه من هذا النوع الأدبي، والسير التي يقدمها الكتاب منها ما يفاجئ القارئ العربي، الذي عزف لأسباب باتت معروفة ومألوفة عن قراءة التراث، رغم أن المنطقي هو أن يكون القارئ العربي الأدرى بهذه الشعاب، لكن ما يحدث الآن هو العكس تماما، فالاستشراق في تجليات ما بعد الحداثة، الذي أصبح عسكريا واستبدل قبعة نيبور وعمامة نابليون بالخوذة، يمارس دوره الآن في قراءة وتحليل كل ما يجري في بلادنا، بحيث أصبحت مرجعيات معظم القراء العرب وبعض المعلقين برنارد ليفي وتوماس فريدمان وروبرت فيسك وباتريك سيل وغيرهم .
وكأن من كان ينوب عنا بالأمس في قراءة تاريخنا أصبح له أحفاد يواصلون هذه المهمة مما يجزم بأن ما قاله مالك بن نبي ذات يوم قد تحقق وهو، أن المستعمر عندما يرحل يترك وراءه أفكارا زرعها في وعي ضحاياه، فتماهوا معه وتقمصوه .
ومن الاسئلة بالغة الأهمية التي يطرحها كتاب «ترجمة النفس» ما يتعلق بدعاوى الغرب احتكار فنون وآداب، كما لو أنه هو الذي اجترحها، فالرواية مثلا لم تعد ملحمة البرجوازية الأوروبية، كما عرفتها المعاجم الأوروبية، إنها أيضا ملحمة الطبقة الوسطى العربية منذ نجيب محفوظ حتى حنا مينا مرورا بجبرا إبراهيم جبرا وغسان كنفاني ويوسف إدريس وغيرهم..
وحين يرصد كتاب «ترجمة النفس» عشرة قرون تمتد من القرن التاسع حتى القرن التاسع عشر وهي الإطار الزمني لعشرات من السير الذاتية العربية، فإن دلالة ذلك هي أن التراث العربي عرف هذا النوع الأدبي ومارسه تحت مختلف العناوين والتعريفات.
يبقى أن نشير إلى مسألة ذات صلة جدلية بأدب الاعتراف، هي حرية الفرد وخروجه عن مدار القطعنة والامتثال، وإذا كانت السيرة الذاتية الآن تشكو من شحة في الكم أو قصور في الاعتراف، فلأن القبيلة هاجرت وعبرت القرون بكامل نسيجها ولم ينج الحزب أو التيار السياسي أو حتى النقابات من عدوى قبيلة غزيّة وما اعترف به شاعرها من امتثال وعزوف عن العصيان!

كاتب أردني

خيري منصور

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول AHMED El HADJ ALGERIE:

    مهما قيل ـ في الأيام ـ ومهما قيل في صاحبها ـ طـه حسين ـ رحمة الله عليه، فإن هذا الكتاب رغم حجمه الذي لايزيد علي بضع صفحات ، إلا أنه يعد في رأي كثير القراء مفخرة للعرب جميعا ولأدبهم المعاصر حتي اليوم، فالرجل نقل البيئة المصرية التي تتوسدها كل بيئة عربية شرقية أو غربية كانت ، البيئة بعاداتها وأعرافها وعقيدتها ليتم ذلك في صراحة ووضوح، من كتاب القرية وشيوخه، حيلهم وتعاملهم مع تلاميذهم واسترزاقهم من مصدر وضيع مـزر حيث التخلف العلمي الذي يغطي البلدان العربية منذ بداية القرن العشرين وما خلف وراءه من إرث منحط حيث الجمود والخنوع، إذا به ينتقل بنا إلي البيئة التعسة التي يمثلها هو ذاته حين يفقد بصره في طفولته علي يد حلاق القرية الذي تصدي لعلاجه والأب راض ساكت وكأن كل شيء يبدوا طبيعي لامفر منه، إذا به يصل إلي شقيقته الصغري يتخاشي ذكر اسمها لأنها كل بنات القرية هي شقيقته، تصاب بمرض قتترك علي حالتها سكوت فذبول فخمول إلي أن طفح الكيل وباتت قاب قوسين من وفاتها فكانت المصيبة وكانت الفاجعة، أيام قلائل وتنتقل الفاجعة إلي شقيقها الطالب قي المدرسة، هناك الوباءوهناك الكوليرا فكان وصف العلاج ومطاردة الداء أكل ـ الثـوم ـ نيئا، كل ذلك يجري ولم يفكر أحد في الطبيب، والمفهوم عند ـ طه حسين ـ شيـى يبقي للذاكرة إما انعدام الطليب واختفائه في قري مهملة منسية نسيها السلطان، سوي نفسه وأسرته وحتي إن وجد كان فردا واحدا ـ يتيما ـ في القرية عز علي الجماهير وصوله لفراغ اليد التي تمــد له أجره أو ازدراء فيه مادمت الأعشاب تعوض قارورة دوائه، هكذا يسير الكاتب مع قصته متنقلا مالين محطة وأخري حتي يصور لنا أو يردنا إلي ماعتشه أجدادنا من تخلف واضطهادـ للأسق الشديد لم نبال به اليوم ولم نعره اهتماما، ومنذ خمسين عاما أو زيد عنها بقليل كان الصوت ا الناشز يتردد في جامعاتنا بقوة التاريخ في المزبلة. فصاروا هم المزبلة …..

  2. يقول محمد نعمان- تونس:

    أيها الأخ، دقق كتابتك بالتحري في مراجعك، صاحب كتاب “العقل العربي” الباحث رفائيل باتاي وليس المفكر والأديب الفرنسي جورج باتاي.

  3. يقول قاسم توفيق:

    إن ما يطرحه الأستاذ منصور أو ما يعرضه هو تحليل لموضوعة السيرة الذاتية و قضية المصداقية في إنتاجها عربياً، وإن إعطاء شواهد ومرجعيات مثبتة لا يعني بالضرورة أنه حسم أمره وأنهى جدله في هذه القضية. لا أعني هنا الدفاع عن هذا المقال بل أعني ردود السادة أعلاه والتي يبدوا فيها شيء من الرفض والغضب. ما يمكن قرأته بهذا المقال أمر واقعي وحقيقي وهو بخصوص مفهوم الأعتراف. فالأعتراف جزء مهم من الإيمان المسيحي وهذا يعني أن من يجد خلاصه في الأعتراف لن يكون صعباً عليه أن يسرد أعترافاته في سيرته الذاتية، وهذا بالتأكيد أمر غير مألوف في الثقافة العربية. والموضوعة الثانية أن التابوهات التي تحكم الثقافة العربية لا تعطي للعربي الحرية بأن يعبر أو يكشف ما في ذاته على العلن لأسباب ذاتية وموضوعية مثلما ورد في المقال. أعتقد أن الأجدى عند مناقشة هذا المقال ” الموضوع ” أن يتم بالفعل البحث في وجوده ومصداقيته بما كُتب من سير ذاتية عربية. إن طه حسين قامة عظيمة في الثقافة العربية ومن الممكن أن ” الأيام ” رواية مهمة لكنها بالتأكيد غيبت الذات في ظل العام مثلما ورد في التعليق الأول. إن هذا التعصب في مناقشة أية فكرة هو الذي أوصل الواقع الإجتماعي والثقافي والسياسي إلى ما هو عليه الآن.

  4. يقول حي يقظان:

    الأخ قاسم توفيق،

    صحيحٌ أن اعترافَ جمهرةٍ من اللاهوتيين والفلاسفة الغربيين بـ”خطاياهم” الفكرية و/أو النفسية يشكِّل جزءًا مهمًّا من الإيمان المسيحي، كما أشرت، إلا أن اعترافَ نظرائهم من العرب يشكِّل جزءًا مهمًّا كذلك من اللاإيمان (ولا أقول “الإلحاد”) الإسلامي، رغم كونه اعترافًا إيحائيًّا ورمزيًّا يُغَيِّبُ الذاتَ في الأغلبِ والأعمّ. وما نصُّ «رسالة الغفران» المسرحي سوى اعترافٍ غير مباشر من أبي العلاء المعرِّي على الصعيد اللاهوتي، كمثال أول. وما نصُّ «حي بن يقظان» القصصي، بنساخاته الأربعة المعروفة، سوى اعترافٍ غير مباشر من ابن سينا وابن طفيل والسهروردي وابن النفيس (كلٍّ على نهجه الفكري و/أو النفسي الخاص) على الصعيد الفلسفي، كمثال ثانٍ.

  5. يقول حي يقظان:

    [تصحيح]

    الأخ خيري منصور،

    أود أن ألفت الانتباه، هنا، إلى أن المستعمر الغاشم، عندما يرحل عن البلاد التي استعمرها، لا يترك وراءه أفكارًا زرعها في وعي ضحاياه، لكي يتماهوا معه ولكي يتقمصوه فحسب، بل يترك وراءه أيضًا عصاباتِ مافيا محليةً مواليةً كلَّ الولاء، عصاباتٍ تنادي، في الجهار، بكافة الشعارات “الوطنية” و”الثورية” التي تنطلي أيَّما انطلاءٍ على الشعوب المستعمَرة المغلوبةِ على أمرها وتتحوَّل تدريجيًّا، في الخفاء، إلى طبقات حاكمة طغيانية مستبدَّة ليس همُّها سوى إرضاء أسيادها وصيانة مصالحهم على حساب هذه الشعوب، أولاً وآخرًا، مقابل بقائها على (بل تشبُّثها بـ) كراسي السلطة أطولَ فترةِ زمن ممكنة.

إشترك في قائمتنا البريدية