■ يشكل المنهج السيميوطيقا مدخلا مختلفا لقراءة النص الإبداعي، لأنه يعتمد على مفهوم مفاده أن البناء اللغوي نظام من علامات يرتبط بالمستخدم ذاته، فليس للعلامات معنى أصلي ملازم لها أو كامن في داخلها، فالعلامات تصبح علامات فقط عندما يقوم مستخدموها بإكسابها معناها، من خلال إحالتها إلى شيفرة معينة معروفة، وفقا لهذا المفهوم، تصبح اللغة نظاما إشاريا/ علاماتيا، يتوافر متى اتفق عليه متكلمو اللغة ومبدعوها، الذين تواضعوا على ألفاظ بعينها بوصفها علامات بينهم، تتنوع دلالة مفرداتها من خلال الاستخدام اللغوي الدلالي للكلمات، وهذا يفسر لنا وجود معان عديدة للفظة الواحدة في اللغة، وتختلف المعاني نفسها من عصر إلى عصر، حسب الاستخدام اللغوي أيضا، وبذلك، يكون الاستخدام هو المحك الأساسي للعلامة على مستوى فهم معناها/ دلالتها، ومدى رسوخها واستمرارها أو تغيرها وتبدلها. واللغة تتضمن بطريقة ما في قواعدها الدلالية تعليمات موجهة بصفة تداولية، إلا أنه أمام ثراء السياقات.. يصبح من غير الممكن الإحاطة بجميع استعمالات كلمة ما، ويتعين الانتقال من أنموذج القاموس إلى أنموذج الموسوعة، فنموذج الموسوعة، يعتمد على موسوعية المتلقي، التي تفتح المجال لتأويل الكلمة في سياقاتها الكثيرة، التي تتخطى المعاني القاموسية إلى فضاء تداولي ودلالي واسع، ومنه تتحول الكلمات إلى علامات.
والأمر السابق نفسه نجده في عالم الإبداع الأدبي، بل يتجلى بصورة أبرز في الأسلوب الأدبي، لأن المبدع هنا متعمد صياغة علاماته وإشاراته، مفرداته وتراكيبه، صوره وأخيلته، من أجل أن يجذب متلقيه إلى الجديد في صياغة أسلوبه. فالنص: عمل أدبي خلاق، يمكن إدراجه تحت أي تسمية، ولا تسمية له، لأنه بتحرره هذا، ينتج الجديد ويبدع، بل إن المدرسة الفرنسية تربط النص بمفهوم الكتابة، بوصفها وسيلة اجتماعية، تعبر عن علاقة بين المبدعين من جهة والقراء من جهة أخرى، فالكتابة جنس أدبي من التعبير/ المؤسسة الاجتماعية، يتميز عنها بشيفراته وأعرافه وتقاليده الأدبية المتعارف عليها.
ومعلوم أن «السيميولوجيا» كمصطلح تشمل دراسة العلامات بشكل عام في الحياة والعلوم، حيث يتبع تقاليد مدرسة جنيف التي تزعّمها دي سوسير، وأشار إلى أن اللغة نظام من العلامات. أما مصطلح «السيميوطيقا» فينصرف إلى دراسة العلامات في أسسها ومجالاتها الجمالية في الأدب والفنون، حسب مدرسة الترجمة العربية المعاصرة التي تعتمد على المصادر الأنكلوسكسونية في ترجمتها لمصطلحات عديدة مثل البويطيقا وغيرها، في حين أن هناك اتجاها ثالثا يحاول تجذير المصطلح بلفظ تراثي عربي، فيطلق عليه «السيمياء»، وهذا لدى النقاد المغاربة، مع العلم أن لفظة السيمياء تقترن بالكهانة والسحر، ما يبعدها عن الإطار المعرفي المنبثقة منه في العصر الحديث، ويوقعه في مظنة الاشتباه مع مجالات عربية قديمة لا علاقة له بها، فالأرجح استخدام المصطلح الحديث توثيقا للعلاقة المعرفية مع الفكر النقدي الحديث، وتيسيرا على المتلقين أنفسهم.
إن الولوج السيميوطيقي في التجربة الإبداعية في النصوص الأدبية عامة يتأتى في نظرنا ببعدين أساسيين يتصل أحدهما بالآخر، بل يرتبط الثاني بالأول.
البعد الأول: يتصل بالعلامات المطروقة بين المتلقين، وتعني: تلك العلامات المنتشرة بين القراء، وتشير إلى دلالات بعينها، مثل الألفاظ الشعبية أو الأسطورية أو الفكرية إلخ، ولا شك في أن أي مستخدم للغة يستند إليها، لأنه يبني على ما عند القارئ، ومن ثم يأتي بجديده، وبعبارة أوجز: فإن المبدع لا يستغني عن القاموس العلاماتي عند القارئ، قبل أن يقدم الجديد من علاماته. فالنص رسالة، ولا يستطيع أحد فهم المرسلة المذكورة، من دون معرفته بالشيفرات الاجتماعية والنصية المناسبة، فلا يتصورن أحد أن هناك مبدعا يتفرد بعلاماته ويستغني عن الدارج منها، فسيكون قاموسه اللغوي في إبداعه أشبه بالطلاسم. وهذا ما يسمى في السيميولوجيا باستخدام «علامات الإصرار» التي تنشأ من الاستعمال اليومي (أو الحياتي) بغض النظر عن النقاشات النظرية، وترى أنها استدلالات طبيعية، مع الأخذ في الاعتبار أن هناك علامات «اعتباطية»، تحظى بالمكانة في الاستخدام، بدون قصد بعينه من المرسل/ المتكلم أو توافق من المستقبل، ولكنها تؤدي دورها في الفهم والتواصل، وبعضها لغوي وكثيرها إشارات بالحركات.
البعد الثاني: جهد المبدع نفسه في صياغة علاماته، وهي تأتي على أطوار، فهناك صياغات داخل النص، تتطور وتتصاعد دلالاتها من نص إلى آخر، يعيها القارئ، عندما يكون الكتاب / النص كاملا بين يديه، فينتقل مع المبدع ويرتحل معه، لنكتشف في النهاية أن العلامة المستخدمة تطورت، وتوسعت دلالاتها، وتعمقت إيحاءاتها. فمثلا في الرواية عندما يستخدم المبدع اسم شخصية ما في مستهل روايته، سيكون مدلول اسم الشخصية في بداية الأحداث مختلفا عن ذروتها وكذلك عن نهايتها، ويختلف بالطبع في التلقي لدى القارئ، في بداية قراءته عما سيحدث معه في نهاية القراءة. والأمر نفسه سيكون في العلامة الشعرية أو الدرامية، فما يطرحه المبدع على متلقيه، يكون طرحا أوليا يتزايد في حمولته الإشارية، كلما أمعن المبدع في استخدامه، وحمّله بالمزيد من الطروحات. وبالطبع هناك علامات ثابتة في النص دلاليا، وهناك متغيرة، وهذا يتوقف على التجربة الإبداعية ذاتها، وعلى مرامات المبدع، وأيضا قدرة الناقد على فك شيفرات العلامات.
٭ كاتب وأكاديمي مصري
مصطفى عطية جمعة