قبل أن يُبشر جابر عصفور بـ«زمن الرواية» في كتابه الصادر عن دار المدى في دمشق عام 1999، كان محسن جاسم الموسوي قد أعلن عن حضورها الجارف في كتاب بعنوان «عصر الرواية – مقال في النوع الأدبي» صادر عن منشورات مكتبة التحرير في بغداد عام 1985.
ولم يكن ذلك التتالي في الإعلان عن لحظة الرواية وانهمار الكتابات الروائية، إلا بمثابة إسدال الستار على كل ما يتعلق بالشعر، كتابة ونقداً، حيث بدأت الهجرة الجمالية نحو الرواية إيذاناً بموت (ديوان العرب).
وهكذا بات الشعر، بمنظور المتخلين عنه، أقل استجابة للتحولات الحداثية، مقارنة بالرواية التي كانت تلوّح بقدرات تمثيلية أوسع وأعمق وأشمل لهواجس الإنسان العربي، إلا أن تلك الإماتة الافتراضية للشعر لم تُخرجه من المشهد، حيث شهد انفجاراً على المستوى العمودي والتفعيلي والنثري. وما زال يُعاند موجات التهميش والإقصاء. وكأن مواضعاته التقليدية لم تتعرض لأي هزة، حتى إن سجل المشهد الثقافي ارتحالات لعدد من الشعراء صوب الرواية. وبمعزل عن ذلك التجابه القائم على الصراع العبثي بين الثنائيات، لا بد أن نراقب الشعر على حافة الحداثة، أي اختبار إمكانيات الشعر العربي الحديث بمختلف ضروبه واشتغالاته على اجتراح أشكال مغايرة، وارتياد آفاق جديدة، تختزن من الأفكار والأحاسيس ما يفي بمتطلبات الإنسان العربي، أي تجديد الرؤية للعالم، عبر الكلمات والصور والأخيلة والمجازات والاستعارات والموضوعات، والانفلات من مراودات الهجس بالقومي إلى وساعات الإنساني، على إيقاع التحولات الكبرى التي استولدت الإنسان المعولم، حيث باتت الثقافات على درجة من التداخل والاشتباك والتمازج، ضمن نظام معولم بالغ التعقيد يصعب على كل من يجس الوجود بذاته الشعرية أن يعيش على هامشه، أو أن ينسج نصه الشعري خارج تلك المدارات الساطية، التي تنهض على التجاذبات والتنافرات.
عشرات الدواوين الشعرية تصدر يومياً، تخاطب الإنسان العربي بلغة يُفترض أنها تلامس شيئاً من وجدانه، إلا أن ذلك الكم الطوفاني من القول الشعري بات يشكل عبئاً صريحاً على الخطاب الشعري ذاته، لأن تفشي الشعر بهذه الوتيرة المتسارعة والكثيفة يحد من عملية التفاعل، بل يعطل من الوجهة النقدية آليات الاستقبال وجماليات التلقي. وبالتالي يقضي على كل ما هو سحري في المسألة الشعرية، إذ يمكن التقاط الرنين الحسّي لبيت شعري مرسل من مرحلة ما قبل الإسلام، ولا يمكن التوقف للحظة قبالة مجموعة شعرية حديثة كاملة، يُفترض أنها وليدة اللحظة ومعبرة عنها في آن.
هذا لا يعني الانتصار للتأصيلي التقليدي القديم، بل الانتباه لأصالة الشعري، حيث يمكن القول – مثلاً- إن بيت زهير بن أبي سلمى (وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم/ وما هو عنها بالحديث المرجّم) أكثر شعرية وصدقية في التعبير الإنساني عن ويلات الحروب، من رطانات مجاميع شعرية لشعراء يشاهدون اليوم ويلات الحروب على الشاشات على مدار الساعة، ويعبرون عنها بقشور لفظية، بدعوى العودة إلى نمط كتابي طهوري أقرب إلى التلقائية والمباشرة والانبساطية.
الشعر مخيال، وهذا هو سر سطوته على الهوية الفردية والمجتمعية. وعليه يمكن استجواب الشاعر العربي الحديث عما يمكن أن يؤديه في اللحظة الراهنة، وعن أخيلته الخاصة الملائمة لما بعد القومية تحديداً، التي تسلخ الكائن من كل اعتياداته وترمي به في فوران معلوماتي، يحتم عليه التفكير في الوسيط اللغوي، أو التعبيري بشكل أدق، الذي يمكن من خلاله إثبات حضوره وتنصيع هويته وصيانة ذاته من الكليات الجامحة، أي ابتكار التقنيات الكلامية التي تُلبسه الشخصية الإنسانية الجديدة، بكل ما يعتريها من تحولات وارتباكات وقلق واضطرابات وطموحات.
وكل ذلك يشترط القدرة على توليد المعاني والأحاسيس والأفكار المؤكدة على جدارة الشعر واستحقاق الشاعر العربي على أن يكون جزءاً من الحداثة الاجتماعية، أي ضخ الطاقة الجمالية التي تجعل الشعر أكثر إمتاعاً وسطوة وتأثيراً مما يبدو عليه كخطاب فئوي، لا يعني إلا الفصيل الذي ينتجه، وكأن الشعر قد خرج من حدود الإبداع إلى لهو اللعب اللفظي، وبالتالي لم يعد القارئ ضمن حساباته.
الشعبوانية ليست دليلاً على الأثر الفني، كما أن النخبوية ليست علامة من علامات التخلي عن الجمهور، وهنا مأزق الشاعر العربي الذي بات يتحرك بين حدّي الضرورة والحرية، أي البحث عن قوالب وعلل وأدوات تجعل من الشعر أكثر اقتراباً مما يجري في العالم اليوم، وأقدر على تمثيل هواجس الإنسان العربي، وهي تحديات على درجة من الصعوبة بالنسبة للشعر الذي يعتمد كمنظور تحليلي على تذويت الوجود، مقارنة بالرواية التي ترتبط حد الالتصاق بالزمان والمكان، فالإنسان العربي، شأنه شأن أي مواطن معولم، يبحث في النص الأدبي عن تفصيلات حسّية للوجود، تُشركة في تلمّس الموجودات وتأمل الحوادث، لا الانقياد وراء هذيانات ذات متصوفة، تمارس عليه فعل النفي والنأي عن المحسوسات. وهنا، على وجه التحديد مكمن القطيعة والتحدي والانفصام، إذ يواجه الشاعر العربي الحديث مهمة كبرى تتمثل في استيلاد وعي جديد يتلاءم مع حداثة العالم، الذي لا شك فيه أن العولمة تحتّم تغيير أو تطوير الطريقة التي يكتب بها الشعر. لأن الأجناس الأدبية لا تتشكل بمعزل عما يجري من تحولات مادية خارج إطار النص الشعري. وهو ما يعني أن الشاعر العربي صار لزاماً عليه أن يتخفف من ذهنيته التجريدية، وأن يمد نصه إلى ما يتجاوز أقليمه الضيق، من خلال ذاتية معولمة وذات طابع إنساني، فهو ليس داخل صراع مع الروائي أو حتى مع القوى الاجتماعية، بقدر ما هو داخل سيرورة كونية كبرى، تسمح له بالتفرد الإبداعي في ظل سياقات عولمية ساطية.
هذه السياقات لا تسلبه خياراته الشخصية إلا في إطار التلاقح الثقافي، أي أنها تهيكل خطابه الشعري في ذاتية هجينة، يمتزج فيها الأصلاني والمفروض كنوبات تأثير من ثقافات غير متجانسة، ولا يُراد لها الالتئام في بؤرة مركزية، بل العكس، أي التشظي المتوائم مع ضرورات الإنسان الحديث، فالتجربة الإنسانية لا يتم التعبير عنها إلا من خلال وسيط، والوسيط هنا هو الشعر الحديث الذي يؤمل عليه ردم الهوة ما بين التجربة الواقعية بكل غناها والتأمل الذهني. من خلال توليد منظومة من القيم الفنية الجديدة التي تتبأر بالضرورة في ذات معولمة.
هذا ما تعنيه الحداثة في جانبها الإبداعي، أي الأدائي القائم على المزج بين الأساليب وتسييلها، لتتداخل في نبرة تعبيرية متعددة التونات. بمعنى أن مزاج الشاعر العربي الحديث ينبغي ألا يكون على تلك الدرجة من الصفاء، بل مشوباً بلطخات من الثقافات المتباعدة، وأكثر استعداداً لتلبّس الذاتية المعولمة، أي تغيير مواضعات رؤيته الجمالية عبر مجسات ذاتية، ومراودات تشكيكية، ونوبات بوح متأتية من وعي الفيضان المعلوماتي الهائل، والإحساس بالحركة التاريخية الاجتماعية، وهو ما يستلزم امتلاكه لقراءات فاحصة للوجود قابلة لأن تتنصّص، لإخراج النص من فكرة كونه مجرد لعبة لغوية، إلى شكل من أشكال الحضور في الزمن، أي محاكاة واقعيات العولمة، فذلك هو ما يؤكد صدقية النص الشعري ويؤسس لأثره الجمالي، بحيث يكون نصه الشعري مختبراً للأفكار المتصارعة، سواء على مستوى الارتداد العمودي داخل الذات، أو الحفر خارجها، لا مجرد سطح ساكن لمرآة خرساء.
لا يمكن التسليم بأفول زمن الشعر لمجرد أن المشهد الثقافي يشهد هياجاً ظاهرياً في اتجاه الرواية. والآمال ما زالت معقودة على الشعر القادر على ضبط رؤية هذا الوجود المتلاشي اللامتماسك. وإذا كان للشاعر العربي الرغبة في مناطحة الاندفاع الروائي فليكن في السباق نحو الإخلال بالتوازنات التي يستهدفها الإبداع الحداثي على الدوام. خصوصاً أن الشاعر العربي الحديث يمتلك القدرة على تسريد الواقع والتحكم بسيولة الأحداث المعولمة بطريقته الخاصة المستمدة من ذات معولمة.
أما الحداثة فلا تتجاوز الأجناس ولا تطمسها ببساطة، بل تدخل معها في عراك خلاق، يحتم عليها التطور والتبدّل، وهي تحولات لا تتأتى ضمن مناهج مدرسية، أو وصايا تعقيمية، إنما بمقتضى حضور ذوات مهجنة، قادرة على حقن الشكل الشعري الجديد بقناعات مضادة وأفكار واقعية وحركات تنقيحية ومراودات تجريبية، لا تقرن الشعر بأساطير الهوية، والشطحات الصوفية، بقدر ما تتعامل معه كجزء من حركيتها. ولا تقبل بأن يكون مصب الحداثة الاجتماعية مفتوحاً لجنس إبداعي دون آخر. حتى إن بدا كنزعة خلاص فردية.
٭ كاتب سعودي
محمد العباس
أستاذ محمد. أتابع ما تكتبه منذ أشهروأستمتع بنصوصك أيّما متعة. إلمامك بالمتن الإبداعي العربي والعالمي وبأدوات قراءة مميّزة لهذا المتن يجعل نصّك قطعة جمالية فريدة. واضح انك تمتلك شروط النقد الأكاديميي المنفتح على ذائقة جمالية “ذاتية” مرهفة تمتح من روح الشعر. شكرا على ما تكتبه.
وظيفة الشعر، ليس اثارة مشاعر القارىء بقصيدة عن الوطن والحبيبة وغير ذلك.
إنما اثارة عقل القارىء بطريقة جمالية(معرفية).تجعل منه منتج ومكمل للنص الشعري.