الشعري والسير ذاتي

هناك العديد من الاستعمالات، للمنهج السيري، التي تناولت السيرة الذاتية، باعتبارها نوعا من الإثنوغرافيا الذاتية، الشيء الذي يجعلنا نواجه مجموعة من المصطلحات، تُفيد جميعها المعنى نفسه. ومنها، تمثيلا لا حصرا، الأتوبيوغرافيا، والترجمة الذاتية، والمقابلة السيرية، والتراجم، وتاريخ الحياة، وقصة الحياة، والمذكرات واليوميات…، وهي مصطلحات تعني، جميعها، حسب محمد فاوبار «دراسة حالة الفاعل في كنف الحياة الاجتماعية باعتماد الوثائق الشخصية والرواية الشخصية».
وسنركز، في هذه الدراسة، على مفهوم السيرة الذاتية، في الحقل الأدبي، على أساس أنه المجال الحيوي الذي أنتج الخطاب السير ذاتي، أو على الأقل تبلورت فيه بشكل واضح، وإن كانت جذور هذا الخطاب، تعود أولا، إلى الدرس الفلسفي الديكارتي، من خلال مقولة «أنا أفكر إذن أنا موجود»، التي جعلت الذات تتصدر باقي الخطابات والمصادر والمرجعيات، في إنتاج الفكر والمعرفة.
والحق أن الوعي الحقيقي، بضرورة وأهمية هذا الخطاب، أعني السير ذاتي، سيتقوى في القرن التاسع عشر، وفي أوج المد الرومانسي ستظهر مجموعة من الأعمال السير ذاتية، عرّجت بالذات، من العقل، إلى الشعور والوجدان، وجعلتها تتكلم، وتقول ذاتها، ضدا على تمزقات الواقع وإحباطاته، التي أصبحت تحفّ بها.
أما في الوطن العربي، فيمكن اعتبار، كتاب «الأيام» لطه حسين، كتابا إشكاليا ومؤسِّسا، للنصوص التي ظهرت في ما بعد، في البلاد العربية، تقتفي أثره، من داخل جنس سردي، أصبح ينضج، بشكل متسارع جدا، ألا وهو جنس «السيرة الذاتية».
فكيف نظر المنظرون إلى هذا الجنس الفتي؟
وما هي المفاهيم التي أُلحقت به؟
وما هي معاييره؟
في كتابه «الأوتوبيوغرافيا»، يؤكد جان ستاروبانسكي، على أنه يصعب الحديث عن السيرة الذاتية، كجنس أدبي، قائم بذاته، إذ ينبغي، في نظره دائما، «أن نتجنب الحديث عن أسلوب، أو عن شكل مرتبطين بالسيرة الذاتية، إذ لا وجود في هذه الحالة لأسلوب أو شكل ينبغي الالتزام به».
إلا أن هذا، لم يمنع منظري الأدب، من أن يضعوا تعريفات قادرة على رسم حدود وفواصل، بين هذا الجنس الطارئ وباقي الأجناس السردية. هذا الانشغال بشواغل عملية التجنيس هاته، ستقود الإنشائي الفرنسي فيليب لوجون إلى إصدار كتابه الشهير «الميثاق الأوتوبيوغرافي» سنة 1975، علما بأنه كان أصدر، قبل هذا التاريخ، مؤلفا في الموضوع، تحت عنوان «السيرة الذاتية في فرنسا» سنة1971.
ويمكن اعتبار كتاب «الميثاق الأوتوبيوغرافي» تعديلا صريحا لأطروحة فيليب لوجون، المدونة في كتابه الأول عن السيرة الذاتية، لعدم خلوها من دوغمائية، لا تتماشى والطموح العلمي الذي بلغه في ما بعد. هكذا عرف لوجون السيرة الذاتية بأنها «حكي استرجاعي نثري يقوم به شخص واقعي عن وجوده الخاص، عندما يركز على حياته الفردية وعلى تاريخ شخصيته بصفة عامة»، مستخلصا، بذلك، أربعة معايير محددة للسيرة الذاتية هي كالتالي: شكل اللغة ـ موضوعها ـ وضعية المؤلف ـ وضعية السارد، مع العلم أن وضعيات هذه المعايير، لا تتوفر في باقي الأجناس السردية.
إن المؤلف، في السيرة الذاتية، حسب لوجون دائما، يتطابق بالضرورة مع السارد، ومع الشخصية الرئيسة، إن بطريقة ضمنية أو علنية؛ إذ من المفروض أن يحصل هذا «التطابق بإحدى الطريقتين أو بهما معا». فماذا عن السيرة الذاتية في علاقتها بالشعر، أهي ليل يلج النهار؟ لا غرو أنه، في وقتنا الراهن، أصبح من نافلة الحديث عن كتابة شعرية سير ذاتية، أو ما بات يسمى، عند بعضهم، بـ«القصيدة السير ذاتية»، إذ أصبح الكثير من الشعراء، ينبهرون بالعنصر السردي، لما يتيحه من إمكانات هائلة وثرة، لجعل الأنا التخييلي، يحكي ذاته،.. يقول الباحث عبد اللطيف الوراري، في هذا الشأن «صار العنصر السير ذاتي داخل القصيدة المعاصرة يشكل مقوما ثيماتيا وجماليا بارزا، ولم يعد الأمر يتعلق بتوظيف أو إدراج أبيات شعرية داخل نص السيرة الذاتية، حتى أصبحنا أمام «القصيدة السير ذاتية» باعتبارها نوعا شعريا يتنامى باستمرار، وتحوز لنفسها خصائص وأبعادا قائمة الذات، وتتسم بتنوعها وابتكارها، ولا تخضع لنموذج جمالي تمثيلي فج».
إن حضور السير ذاتي، في شعرنا العربي اليوم، ومنه شعرنا المغربي، حضورٌ يترفع عن أي دوغمائية تطابقية، تلك التي تعتلي محددات السيرة الذاتية، عند منظري هذا الجنس الوافد. لقد أصبحت الأنا الساردة، في شعرنا، متحررة، ما أمكن، من مرجعيتها التطابقية/ الواقعية، بالقدر الذي يخدم الأنا التخييلي ويغذيه، انسجاما والمسعى الجمالي لكل شاعر.
ويمكن اعتبار، العمل الشعري المائز، للشاعر الفلسطيني محمود درويش، الموسوم بـ«لماذا تركت الحصان وحيدا» الصادر سنة 1995، من بين الأعمال الشعرية الأولى، في البلاد العربية، التي جعلت من المكون السير ذاتي، المحور البؤري، في الكتابة الشعرية، التي تدخل في هذا النطاق.
وكان المسير، بعد ذلك، جللا..؟
وفي المغرب، في إمكاننا أن نستحضر، بعض التجارب، التي اتخذت من العنصر السير ذاتي، في مشروعها الشعري، مرجعية جمالية جديدة، من شأنها أن تفتح لها أفقا مغايرا
للشعر، وأن تدفع، من ثم، بالكتابة إلى مضايقها؛ نذكر، على سبيل المثال لا الحصر، تجربة كل من الشاعر حسن نجمي، والشاعر مبارك وساط، والشاعر صلاح بوسريف… مع فارق كبير في الحساسية.. وتلك هي المسألة الكبرى.

٭ شاعر وكاتب مغربي

محمد الديهاجي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية