الشعر وتجليات المتواري

تمر آلية رفع الحجب الدلالية المسدلة على الشعري، عبر عدة مستويات، تتراوح بين البسيط والمركب، ونخص بالذكر هنا، كلَّ متوارٍ، يقتضي من الكتابة اختبار أقاصي ما تمتلكه من إمكانيات تعبيرية، قد تسعفها في تلمس ما ترشح به مسامات هذا المتواري من أحوال. والمخاطرة برفع الحجب، هي مخاطرة بحث وتنقيب استثنائيين، في مسالك لا تكون بالضرورة معبدة، كما لا تكون أحادية المسار.
هذا التعدد في هندسة بناء المسالك ومَدِّها، يستلزم تعدد طرائق التلقي، وتعدد طرائق الكتابة، بما يقتضي توافر حد الخبرة بمقامات القول، وبأحواله، حيث يتقاطع الفكري بالتأملي، والجمالي بالإيقاعي، والحقيقي بالمجازي، عبر بنيات تعبيرية، تتساكن فيها لغات الحواس، لغات العقل، الحلم والمتخيل، وباقي اللغات، التي تجدد الكتابة من خلالها، اكتشافها لِما في عُهدتها من أنساق عصية على الحصر، كما يسمح لها بإعادة اكتشاف تلك المناطق، التي يمكن أن تكون مكامن سرية، تلوذ بها الدلالة المسكونة بممارسة احتجابها الدائم، حيث على الكائن هو أيضا، أن يمارس بحثه الدؤوب عن أسرارها، كما لو أن الأمر يتعلق بالبحث عن ملاذ محتمل داخل الجحيم، أوعن «حقيقي» يُحتمل أن يكون الجحيم الفعلي، الذي لا يستطيع له الكائن ردا.
إن استدراج المتواري كي يعلن عن حضوره، لا يتحقق إلا عبر تمَلُّك القدرة على الإنصات إلى لغاته ومحاورتها أيضا، وهي اللغات التي لن تكون جاهزة لاستضافة إنصاتك، ما لم تتأكد من قابلية إمكانياتك التأويلية، لممارسة فعل جمالية الإنصات والحوار.
إن لعبة رفع الكتابة للحجب، من أجل كشفها عن أسرار تكَوُّن/تخَلُّق الشيء، بما يتخللها من حس مغامراتي ومخاطراتي، تظل معروضة على محك الاختبار القاسي، الذي قد يتعرض في أي لحظة إلى مواجهة قوة الخالق الأصلي، المحتجب هو أيضا خلف ستائر البنيات السلفية، كي ينزل بثقله الكامل، من أجل إجهاض غواية اللعبة، والحد من طيشها، بالنظر لما تشكله من تهديد حقيقي لسلطته المركزية، ولسلطة الخلق الأصلي. إنه من هذا المنطلق يسلط على الكائنات النصية، المعدة للظهور – ضدا على إرادته- ما يؤثر في إفساد إيقاعاتها، وفي تشويه ملامحها، وما يُسَوِّرها بحاجز شوكي، يستعدي عليها الرؤية، ويحفزها على التشكيك في كل ما هو بصدد التشكل أمامها. هذا التشكيك يؤدي إلى تعميم حالة التعتيم، بما هي حالة عمى، لا تتبين العين منها سوى ظلمة الحجاب. ومع ذلك، فإن عين الشاعر، تحرص على احتفاظها بسداد الرؤية، كي تسلم من عنف رجفة التنزيل، ومن رهبة ما سينكشف أو سيتجلى. إنها تتموضع هناك، وعن سبق إصرار في قلب المشهد. تفرك تفاصيل ما سينبني فيه، معتكفة على تثبيتها أمام عين القراءة. وهي المهمة المركزية التي على أساسها سوف يتحقق ما سيكون. إنه «القول المنتظر»، الذي لن تقوم له قائمة، بدون التثبيت القبلي لما تم الحدس بحضوره. لأن ما «سيتم تثبيته»، هو السند لما «ستتحقق تجليته بالكامل». وقبل ذلك، هو الإشراك السخي للقراءة، في معايشة بشائر قيامة ما سيجيء، لأنه إشراك/تقاسم، يدخل ضمن استراتيجية مضمرة، تتمثل في الزج بالقراءة داخل مغامرة، ومخاطرة رؤية ما لم تتعود على رؤيته، وما لم تتعود على سماعه. أيضا هو تمهيد مستتر للحظة للانتقال من مرحلة ما قبل التجلي النصي، إلى زمن اكتمال ظهوره وتمظهره. والأهم من ذلك، هو إشراكه في متعة التعرف على مراحل تبنين النص، وعلى مراحل تدرجه من زمن البحث عن ذاته، إلى زمن الاهتداء إليه. وهو إشراك ينم عن رغبة عميقة في إشراك القارئ متعة تشكل الكتابة النصية، التي تندرج أساسا ضمن اختصاص صاحب العمل دون غيره، وباعتبار أن التلقي، يكون معنيا أولا وأخيرا، بالصيغة النهاية التي يتمظهر بها القول الشعري، وليس بما «لم يتم بعد قوله». عموما، فإن الأمر ينطوي على مغامرة غير مأمونة الجانب، بالنسبة للأنا الشعري، الذي يُحتمل أن تقابَلَ مبادرةٌ إشراكه للقراءة، برفض أهوجَ، يجهض جمالية مقصديته.
إن ما ينبغي استحضاره، سواء في معرض الاشتغال بالكتابة أو القراءة، هو حقيقة تلك الموجودات الجديدة، الغائبة مؤقتا عن رؤيتنا، والتي تستدعي ما يكفي من الاهتمام، قصد إدراجها في مدونة الأسماء، باعتبارها امتدادا لأصداء اللانهائي، المترددة في مدارج الوجود، حيث سيكون علينا، توخي رسم ما يتردد على عين الذاكرة من مشاهد هذه الموجودات، التي يستدعي حضورها مواسم متعددة من فصول القول والمقامات والأحوال، فضلا عن الإبدالات التي لا تكف عن استدعاء الخطابات المنسجمة مع مراوحاتها بين الحضور والغياب، داخل فضاء الكتابة الشعرية. وبقدر ما هي خطابات حياة، بقدر ما هي خطابات فضاء نصي، ليس من الضروري أن يكون انعكاسا لفضاء الواقع، أو محايثا له، لأنه الفضاء الذي تلتئم فيه الشروط الفيزيائية والخيميائية، لإيقاظ نطفة الكينونة في عمق ما يبدو عدَما، ميْتا، أو ثابتا هناك، حيث تحضر الرغبة الجامحة في الانتماء إلى حُظوة الحي، ضمن قوانين منفتحة على نص، متبرئ من أي إكراه مفاهيمي أو تقعيدي، مسبق وجاهز. وهي القوانين ذاتها التي تصبح معها القصيدة كائنا حيا، يمتلك ما لا حصر له من الأجساد والأرواح، التي تكون في هذه الحالة، قد قطعت صلتها بالمفاهيم، وبالأطاريح الفكرية والإبداعية، الموظفة عادة في هندسة إطارٍ محتملٍ لكتابة ما. بمعنى أنها ترتقي بآلية اشتعالها إلى مقام ذلك الكائن المتفاعل مع فضاءات أضداده وأشباهه، بصرف النظر عن الدلالة التي تسندها القراءة المتأنية أو المتعجلة لهذه الفضاءات. ومع ذلك، ستكون الدلالة ذاتها منزاحة عن الأبعاد الحاضرة بعنفها المباشر، في قلب الفضاءات الاجتماعية والسياسية، نظرا لاقترانها كما سبقت الإشارة إلى ذلك، بموجودات قابلة للانصهار في أتون التحولات اللانهائية، لشعرية أجساد الكلمة وأرواحها. هذا الانصهار الملموس، والمعيش في ثنيات النص، يؤدي إلى توليد طاقة حضور حية، جديرة بأن تُستقبل كذات، تتماهى مع البعد البشري في حده الانفعالي، والتفاعلي المتعدد الأبعاد.
ضمن هذه الأبعاد، وخلافا لما هو عليه الشأن في المدارات المأهولة بالمفاهيم المتكلسة والمعطوبة، يمكن أن نقيس مختلف درجات التفاعل أو الحياد، التي يتجسد فيها زمن العبور النصي، إذ بقدر ما يحدث أن يفجر النص أمام عيوننا براكينه الباطنية، بمختلف إيقاعاتها التأملية والجمالية، بقدر ما يمكن أن يمطرنا بأندائه، التي تبوح ذات الكتابة خلالها، بكل ما يعتريها من انتشاء، من وهن ويأس. هذا التعدد، هو الذي يحمي النص من احتمال تقييده داخل سجن منظومة فكرية نهائية ومطلقة، كما أنه يضع ذات الشاعر خارج أي خانة مغلقة، يمكن أن تلزم شعريته بالانتماء إلى توجه فكري معين دون غيره، والإلزام، ذو الطبيعة الإسقاطية التي تتحول إلى حجاب، يحرم الرؤية من تفَدِ بُعْد الاختلاف، الحاضر بصيغة أو بأخرى، على امتداد مسارات المنجز الشعري، المنتمي إلى تجربة مخصوصة، ذلك أن انتفاء بنية الاختلاف في هذه المسارات، يضفي عليها شكل خرائط ملتبسة، وعصية على الضبط والحصر، حيث يتعذر معها إمكانية الوقوف على المحطات المتنوعة، التي تميزت بها تجربة الكتابة في انتقالاتها وارتحالاتها. إلا أن التجربة ذاتها، وبحكم ديناميتها الداخلية والعضوية، وأيضا، من منطلق تملك مسارها لشعرياته المتعددة، تكون مؤهلة لدحض تلك الأحكام التي دأبت على تأطيرها، ضمن خانة إبداعية معينة، على ضوء الانقلابات المتوقعة التي تحدث تباعا في أراضي القراءة، كما في أراضي الكتابة، معيدة بذلك للمسار ألقه وعنفوانه.
تحضرنا هنا تلك القراءات، التي تسيء برؤيتها الاختزالية، إلى غير قليل من نماذج الشعر الكوني، التي شاءت ظروف القهر، بمختلف مظاهره الهمجية والعدوانية، أن ينكتب في دياجيرها، من خلال تأطيرها المسبق له، في ما يتعارف عليه بالرؤية الأيديولوجية، إما من موقع تعاطف إنساني وفكري، أو من باب الطعن الجاهز في شعريتها، حيث يتم في الحالتين معا، صرف الاهتمام عن جانبها الجمالي، المنسجم مع خصوصيتها، ومع طبيعة موجوداتها، التي تظل في حاجة ماسة إلى مقاربة تفاعلية، بعيدة عن أطروحة الانعكاس ومقولاتها المسكوكة، والمؤدية حتما إلى العبث بمكوناتها، وإفراغها من دلالاتها، بما يساهم في تحجيم تجربة انكتابها، المنبثقة أصلا من نواة مخَصَّبة، هي نتاج رؤية جدلية للكتابة وللحياة، ضمن سياقها الوجودي المحدد بشروطه. وعلى الرغم من الأهمية- المدرسية الطابع- التي يمكن أن تتصف بها فكرة إكراه النصوص على التموضع داخل خانات نهائية، إلا أنها تؤثر سلبا في بتر أوصالها، وبالتالي، في حشرها داخل توابيت نقدية، كخطوة تمهيدية لدفنها إلى الأبد، في مقابر أحكام، عمَتْ عن رؤية ما يتأجج فيها من حياة.

٭ شاعر وكاتب من المغرب

 

الشعر وتجليات المتواري

رشيد المومني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية